ربما تبدو
جملة "إنها حياة رائعة" غير مناسبة الآن على الإطلاق، وهذه "الآن" ليست فقط
تلك الأيام السوداء التى نعيشها فى ظل الهوان العربى أمام النازية
الصهيونية، وإنما هى "الآن" التى استمرت عقودا كاملة تقوم فيها جهات معلومة
وغير معلومة بعملية "تآكل" بطيء لوجدان البشر فى أوطاننا حتى حولتهم إلى
قطعان لكائنات حية، تجد بالكاد وبطلوع الروح مايسد رمق جسدها وروحها، فعن
أى "حياة رائعة" نتحدث بينما الحياة بالنسبة لنا "زى الزفت والقطران"؟!
دعنا نتفق
فى البداية على مفهوم كلمة "الحياة" التى يقصدها الفيلم الأمريكى الذى سوف
نتأمله اليوم معا، فهو يتحدث عن الحياة بوصفها "الهبة الأعظم" التى حصل
عليها الإنسان، وبالفعل فإن الفيلم مقتبس عن قصة قصيرة للكاتب الأمريكى
فيليب فان دورين ستيرن، وتحمل عنوان "الهبة الأعظم"، لذلك فإن الفيلم لا
يقصد أى حياة والسلام، على الطريقة التى نحيا بها "عيشة وآخرتها الموت"، بل
يقصد كيف يمكن أن تكون هذه الحياة ثمينة بحق، ليس بالجبن والتخاذل الذى
يجعل الإنسان يحافظ عليها لمجرد البقاء على قيد الحياة حتى بالذل والهوان،
بل بشجاعة التضحية التى تجعل لهذه الحياة قيمة ومعنى حقيقيين.
أعلم أن
تلك البداية "الأخلاقية" للمقال قد تبدو للبعض بعيدة عن النقد السينمائى،
ولكن من قال إن النقد أو السينما أو السياسة أو أى شيء فى هذا العالم بعيد
عن الأخلاق؟ لكن المهم هو عن أى أخلاق نتحدث؟ فالأخلاق ليست كتلة مصمتة لا
تتبدل ولا تتغير، ومن المؤكد أن أخلاق الجالسين على العروش الجاثمين فوق
صدور شعوبهم تختلف تماما عن أخلاق الذين يرزحون تحت ظل القمع، وأخلاق من
يستهينون بحياة آلاف وملايين البشر ليست أبدا كأخلاق من يعلى قيمة حياة أى
إنسان، وإذا كانت هناك قطيعة كاملة وأبدية بيننا و الفكر الصهيونى وكل
مايتأسس عليه فهى أن أخلاقنا تدرك أن "الحياة" قيمة ليس فيها فرق بين إنسان
وآخر على أساس العرق أو اللون أو الدين، بينما الصهيونية فلسفة لا إنسانية
تزعم أن لليهودى حقوقا لا يتمتع بها البشر الآخرون، لذلك فأخلاقيات
الصهيونية إنكار للحياة، "الهبة الأعظم" التى يملكها الإنسان، أى إنسان.
وقد يبدو
غريبا أن نستنبط من الفيلم الأمريكى "إنها حياة رائعة" مثل هذه المعانى،
وهو الذى تم إنتاجه فى سياق مختلف تماما عن السياق الذى نعيش فيه، فقد ظهر
فى أمريكا فى عام 1946، وهى فترة تمثل مفترقا للطرق فى التاريخ الأمريكى
والعالمى على السواء، لقد انتهت الحرب العالمية الثانية التى ضاعت فيها
أرواح عشرات الملايين من البشر فى مختلف أنحاء العالم لأسباب تبدو من
المنظور الحضارى (بالمعنى الحقيقي) عبثية تماما، وهى عبثية لأنها تأسست على
بعض الضلالات التى ظهرت فى الحضارة الغربية المعاصرة، مثل ضلالات النازية
والفاشية التى لا تختلف فى عنصريتها عن الصهيونية، او ضلالات الرأسمالية
المتوحشة التى تعنى انقسام العالم إلى قلة تحتكر كل شيء وأغلبية تتحول إلى
كائنات مستهلِكة مستهلَكة، وهو التوحش الذى نعيشه مرة أخرى فى زماننا
المعاصر، لذلك فإنه يمكنك أن تجد تشابها بين سياق صنع الفيلم والسياق الذى
نعيش فيه، لأن الضلالات العبثية لاتزال تنهش الأجساد والعقول، وتحول العالم
الإنسانى إلى جحيم، ولقد كان السؤال المطروح فى فيلم "إنها حياة رائعة" هو:
كيف يمكن أن تكون هذه الحياة رائعة فى ظل هذه الظروف الوحشية الطاحنة؟
لكن ما
يعنينى هنا فى المقام الأول هو أن نتعلم كيف استطاعت السينما أن تحكى
"الحواديت" بقدر متساو ٍ من البساطة والتعقيد، أو بكلمات أخرى كيف يمكن أن
يستقبل المتلقى العمل الفنى دون عناء، فى نفس الوقت الذى تتسلل إلى لا وعيه
"الرسالة" بين السطور، بينما لا تستطيع معظم أفلامنا أن تقدم مثل هذا السرد
السلس المتقن إذا كانت هناك رسالة لكنها تبقى _ بسبب عجز الفنان _ فى بطن
الشاعر، بينما ينكر صناع أفلام آخرون وجود رسالة أصلا لأنهم حسب قولهم وخفة
دمهم ليسوا سعاة بريد!! تبدأ حكاية "إنها حياة رائعة" بالقرب من خاتمتها:
هناك ملائكة فى السماء (نراهم على هيئة نجوم لامعة) يناقشون رغبة أحد البشر
فى الانتحار فى ليلة عيد الميلاد يأسا من حياته، لكن هناك صلوات تتصاعد من
الأرض طلبا لإنقاذه من محنته، وهكذا تقرر الملائكة إرسال "الملاك من الدرجة
الثانية" كلارينس لمهمة إنقاذ هذا الرجل، وإذا نجح كلارينس الملاك طفولى
التصرفات فى مهمته فسوف يترقى ويحصل على أجنحة!
بهذه
المقدمة يؤسس الفيلم _ الذى أخرجه فرانك كابرا _ لفكرة الحدوتة أو الحكاية
الخيالية ذات المغزى الأخلاقى، فى نفس الوقت الذى يعثر الفيلم على "مقامه"
أو نغمته، الذى سوف تسوده روح المرح والتفاؤل رغم هذه المقدمة المنطقية
الدرامية القاتمة، فالملاك كلارينس يستعجل الحصول على أجنحته التى انتظرها
طويلا لأن "الناس بدأوا يتكلمون" عن خيبته! وبالطبع فإنه لابد لكلارينس أن
يعرف من هو ذلك الإنسان الذى سوف يذهب لإنقاذه، وتكون تلك هى الوسيلة
الدرامية لكى نعرف نحن أيضا حكاية هذا الرجل اليائس البائس، عندما تحكى
الملائكة القصة من أولها وكأنها شريط سينمائى فى "فلاش باك" طويل. ها نحن
فى البداية مع الصبى جورج الذى ينقذ أخاه الأصغر هارى من الغرق خلال لعب
الأطفال بالتزحلق على الجليد، ويكون ثمن شجاعة جورج هو إصابته بنوبة برد
أفقدته السمع فى إحدى أذنيه. إن الحكاية تدور فى مدينة صغيرة تدعى "بيدفورد
فولز"، حيث يعمل الصبى جورج بعد المدرسة فى مخزن أدوية الصيدلى العجوز جاور
(إتش بى وارنر)، لندرك خلال لمسات درامية رقيقة أن جورج يتمتع بالوسامة
التى تجعل الفتيات الصغيرات تحاولن الاقتراب منه، مثل فيوليت المعجبه
بجمالها الواثقة من نفسها والتى تحاول إغراءه، لكنه لا يعيرها التفاتا،
بينما الصبية الرزينة مارى تحبه فى صمت، وتهمس له فى خجل بحبها فى أذنه
التى لا يسمع بها! وفى الصيدلية يكون العجوز جاور يبكى لوفاة ابنه، وهو ما
يجعله مضطربا حتى أنه يضع بطريق الخطأ سما فى أحد الأدوية التى يحضِّرها
ويطلب من جورج توصيلها، لكن جورج يدرك الخطأ ويتردد فيضربه الرجل فى عصبية،
وعندما يدرك الأمر يعتذر باكيا. (هل تذكر فيلم كمال الشيخ "حياة أو موت"؟)
وفى لمسات درامية سريعة أيضا يقدم لك الفيلم الأجواء الاجتماعية
والاقتصادية فى المدينة الصغيرة، فهناك الرأسمالى الجشع بوتر (ليونيل
باريمور) الذى يحتكر كل شيء، ويبنى الأكواخ ليسكنها أهل المدينة بالأجور
التى يفرضها، لا يقف فى طريقه إلا بيتر (صامويل هيندس) والد جورج وهارى،
الذى يملك مؤسسة لإقراض المحتاجين لكى يبنوا منازل صغيرة تليق بالحياة
الإنسانية، وهكذا يستمر الصراع طوال الفيلم بين وجهتى نظر رأسماليتين:
المشروعات الاحتكارية الكبيرة لصالح القلة التى تزداد ثراء، والمشروعات
الصغيرة لصالح الأغلبية من الطبقة العاملة الفقيرة، التى دفعت الثمن الباهظ
من كرامتها خلال فترة الكساد الكبير فى الثلاثينيات.
يقفز
الزمن عندما يصبح جورج شابا (جيمس ستيوارت)، ليطلب الملاك كلارينس تثبيت
الكادر (!!) حتى يستطيع أن يتبين وجه جورج، الذى نراه وهو يستعد لتحقيق
الأمنية التى ظل يحلم بها طويلا، أن ينفض عن نفسه غبار مدينته الصغيرة،
وينطلق مرتحلا فى العالم، ويكمل دراسته ليصبح مهندسا يبنى ناطحات السحاب
والجسور الضخمة: "أريد أن أصنع أشياء مهمة"، وإن كان أبوه يؤكد له أن توفير
منزل وسقف لأبناء مدينته شيء لا يقل أهمية أبدا. ووسط هذه الأجواء المرحة
يقع بصر جورج على الشابة الجميلة مارى (دونا ريد) للمرة الأولى منذ أن كانت
صبية صغيرة، وقد عادت إلى المدينة التى تحن إليها بعد غياب طويل. إنها
لاتزال تحبه، ومن خلال مشاهد شديدة الرقة نرى الصراع الداخلى لدى جورج: هل
يستجيب لحب مارى له ويبقى فى المدينة وينجب أطفالا ويتولى العمل فى مؤسسة
أبيه؟ أم يلبى نداء صفير القطار الذى يبدو دائما كأنه يدعوه للرحيل؟ (هل
تذكر أيضا فيلم يوسف شاهين "ابن النيل"؟) إن ما يحسم تردده هو وفاة أبيه
المفاجئة، فيضطر جورج للبقاء ورعاية أمور المؤسسة، ويكون عليه أن يستمر فى
النضال ضد جشع بوتر الذى يريد القضاء على مساعدة المؤسسة للفقراء لأن
"المثل العليا لا نفع لها فى البيزنس"، وهنا يرد جورج فى مونولوج طويل
مؤثر، يؤكد فيه أن بوتر يعامل الناس كأنهم قطيع من الماشية، ويوضّح لبوتر:
"بالنسبة لى إن أبى قد مات وهو أكثر ثراءً منك يا سيد بوتر، لأنك لست إلا
رجلا عجوزا محبطا تستحوذ عليه شهوة جمع المال".
سوف تستمر
رحلة نضال جورج فى الحياة طويلا، وهو يقدم التضحية بعد الأخرى، سوف يسافر
أخوه هارى بدلا منه ليكمل دراسته ويتزوج ابنة رجل أعمال ثرى، ويلتحق بالجيش
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، ليصبح بطلا يستحق الحصول على وسام
الشرف لإنقاذه حياة المئات، أما جورج فإنه يتزوج مارى وينجب منها بناته،
لنصل إلى نقطة البداية التى بدأ بها الفيلم، ليلة عيد الميلاد، والناس
يستعدون للاحتفال، وجورج قانع بحياته العملية كصاحب مشروع صغير، وبحياته
الأسرية كأب وزوج، لكن كل شيء يتعرض للضياع عندما يفقد عمه السكير بيللى
(توماس ميتشيل) مبلغا كبيرا من أموال المؤسسة، يعثر عليه بوتر ويخفيه،مما
سوف يعرض جورج لأن ينتهى فى قفص الاتهام بتهمة تبديد أموال عملائه، والسجن
بعد هذه الرحلة الطويلة من العناء والتضحية، وهكذا يقرر الانتحار من فوق
أحد الجسور، ليظهر له الآن الملاك كلارينس، الذى يعرض أن يحقق لجورج
أمنيته: "أتمنى لو لم أولد قط".
تلك هى
بؤرة الفيلم الدرامية التى تعتمد على الفانتازيا، فلنرَ مع جورج عالمه لو
لم يولد! إنه يطوف مع كلارينس فى المدينة حيث لا أحد يعرفه (لأنه لم يولد)،
وقد تغير اسم المدينة من بيدفورد فولز إلى بوترسفيل بعد استيلاء بوتر
عليها، حيث زرع أكواخه الوضيعة فى كل مكان، واختفت (أو لم تظهر أصلا)
البيوت النظيفة التى تم بناؤها بمساعدة مؤسسة جورج، وانتشرت الحانات
والنوادى الليلية، وتحول مشروع المؤسسة إلى مقبرة، وأصبح الصيدلى جاور
مشردا لأنه سُجن بعد تسببه فى وفاة طفل بالسم بدلا من الدواء، وظلت مارى
عانسا مكتئبة، والأهم هو أن الأخ هارى لم يؤدِ أى واجب وطنى فى المعركة
لأنه مات فى طفولته غريقا فلم يكن هناك أى جورج لينقذه! الآن يدرك جورج أن
حياته لم تضع هباء، وأن كل تصرف إيجابى مهما كان صغيرا يمكن أن يغير حياة
عشرات أو ربما ملايين الآخرين!!
أرجو أن
تتأمل فى الفيلم ذلك التوازن الرقيق بين الواقعية والفانتازيا (التى تتحول
عادة فى أفلامنا إلى تهريج وتخريف)، وهو نفس التوازن بين السرد بأساليب
سينمائية تعتمد على الحذف البلاغى وبين الاعتماد على الحوار شديد الذكاء
الذى يرسم ملامح الشخصيات بلمسات فرشاة سريعة مرهفة (وهو مايدحض الأفكار
المخترعة لبعض نقادنا عما يسمونه "السينما الخالصة")، كما كانت الأداة
الرئيسية عند المخرج فرانك كابرا فى قراءته للنص السينمائى هى إدارته
الحيوية للممثلين الذين تصدق على الفور شخصياتهم الدرامية كما تراها على
الشاشة، وتأمل أيضا كل التفاصيل الصغيرة مثل تلك القطعة المخلوعة من إفريز
السلم الخشبى فى المنزل القديم الذى يسكنه جورج وأسرته، لقد كانت تلك
القطعة مثار تذمره، لكنه يقبلها بشفتيه عندما يعود من "حلم" عدم وجوده.
إنها نفس
التفاصيل الصغيرة فى حياتنا، التى لم نتعلم للأسف فى سياقنا الاجتماعى
والاقتصادى والسياسى كيف نعيش تلك الحياة بحق، لم نتعلم قيمة الحياة
الحقيقية وليس مجرد الأكل والشرب وإفراز سوائلنا الحيوية، قيمة الحياة
بكرامة، وقدرة على الاختيار. نقول أحيانا إن معظم الأفلام الأمريكية
"هروبية" فى مضمونها لأنها لا تهدف إلا للتسلية ودفع المتفرج للرضا
بالواقع، لكن فيلما مثل "إنها حياة رائعة" لم يفتقد متعة التسلية لحظة
واحدة غير أنه لا يدعو للامتثال والخضوع، لأنه يقول لك: تذكر أنه يمكن لك
أن تمنح ملاكا الجناحين اللذين ينتظرهما! وتذكر أنك بفعلك الإيجابى قادر
على أن تعيد صياغة العالم، بدلا من أن تستسلم للعالم الذى يريدوننا فيه أن
نكون قطعانا تنتظر دورها لكى تضع عنقها تحت مقصلة الطغاة.
العربي المصرية في
27
يناير 2009 |