كنت قد
سمعت وقرأت كثيرا عن الفيلم الإيرانى "البقرة" الذى أخرجه داريوش مهرجويى
فى عام 1969، والذى اشترك فى كتابة السيناريو له مع غلام حسين سعيدى كاتب
الرواية والمسرحية اللتين اعتمد عليهما الفيلم، ومن قراءاتى علمت أن نظام
الشاه قرر منع عرض الفيلم برغم تمويل الدولة له، لأن السلطة ـ كالعادة ـ
تتحسس البطحة فوق رأسها، فرأت أن للفيلم مضمونا سياسيا خفيا يشير لها بإصبع
الاتهام. ومع ذلك استطاع صناع الفيلم تهريبه إلى الخارج ليعرض فى مهرجانى
فينيسيا وبرلين، حيث فاز ببعض الجوائز والكثير من الحفاوة النقدية، وهو ما
أوقع سلطة الشاه فى مأزق، عندئذ سمحت وهى مكرهة بعرض الفيلم، الذى استهل
مرحلة يطلق عليها "الموجة الجديدة" فى السينما الإيرانية، التى شهدت طوال
السبعينيات أفلاما متنوعة الاهتمامات الجمالية والسياسية، ربما توقفنا عند
بعضها فى المستقبل، لكن ماكان يجمع معظم هذه الأفلام معا هو أنها كانت تبشر
بثورة ما على الظلم الذى يطأ بأقدامه الغليظة حياة الناس العاديين، وعندما
أتت الثورة فى ثوب دينى كان هناك تخوف حقيقى ـ وله مايبرره ـ من أن تتعرض
السينما لأن تصبح من المحظورات باعتبارها بدعة وضلالة، لولا ما يقال إن
الإمام الخمينى كان معجبا بفيلم "البقرة"، وكان ذلك ضمانا لاستمرار
السينمائيين القدامى والجدد فى صنع أفلامهم، فيما يطلق عليه "السينما
الإيرانية الجديدة"، التى شهدت عشرات الأفلام ذات الطموح الفنى والسياسى،
وكانت دليلا على قدرة السينمائى الصادق بحق فى موقفه الجمالى والسياسى على
أن يتخطى المعوقات، فإذا كانت الرقابة الرسمية والشعبية فى ظل نظام
الجمهورية الإسلامية قد مارست أنواعا قاسية جديدة من النواهى والمحظورات،
فإن السينمائيين استطاعوا القفز عليها ليصنعوا سينما متفردة، تذوب فيها
الخطوط الفاصلة بين التسجيلى والروائى، والعناصر البصرية والسردية،
والواقعى والرمزى، والشخصى والعام، والذاتى والموضوعى، والشاعرى والسياسى.
لم أعرف
حقا قيمة فيلم "البقرة" إلا عندما شاهدته للمرة الأولى منذ أيام، وليس من
رأى كمن سمع، وكان الفضل لصديقى الشاب عاشق السينما والسياسة أحمد الألفى،
الذى أهدانى عشرات الأفلام التى حصل عليها من على الإنترنت، وكان من بينها
نسخة من الفيلم الذى نصحنى بأن أبدأ به، فكانت المفاجأة: فيلم شديد البساطة
والتعقيد مثل كل سينما يصنعها فنانون جادون أصحاب موقف واضح من الفن
والحياة، وكان يطوف بخاطرى طوال مشاهدتى للفيلم طيف مخرجنا الكبير العم
توفيق صالح، وفيلمه "درب المهابيل" الذى سبق فيلم "البقرة" بأربعة عشر عاما
كاملة، بالإضافة لأفلامه التالية التى كانت تؤكد أنه أكثر سينمائيينا فى
تلك الفترة اهتماما بالواقع والفن والعلاقة بينهما، وتساءلت بينى وبين
نفسي: أى جريمة تلك التى منعت توفيق صالح من أن يكون رائدا حقيقيا لموجة
سينمائية قوية فى السينما المصرية؟! رأيت توفيق صالح أمام عينى فى معظم
مشاهد الفيلم، وهو الذى كان يختار _ مثلما فعل صناع فيلم "البقرة" _ حكايات
شديدة البساطة والعمق معا، حكايات يمتزج فيهما المستويان الواقعى والرمزى،
حكايات تحكى عن معاناة البشر ومقاومتهم فى ظل قمع مادى وروحى يحولهم إلى
مواطنين فى وطن يحمل بحق اسم "درب المهابيل"!!
يمكنك أن
تلخص فيلم "البقرة" على أنه بدوره حكاية عن "الجنون" فى عالم فقير ماديا
وروحيا، وهو الجنون الذى لن تدرى إن كان سببا أم نتيجة لهذا الفقر، لكن من
المؤكد أنك سوف تدرك أنه لكى تكسر هذه الدائرة المجنونة والحلقة المفرغة
لابد أن تخلّص هؤلاء البشر من فقرهم المفروض عليهم بقوى اقتصادية واجتماعية
وبوليسية وسياسية وحتى ميتافيزيقية. هانحن فى البداية فى قرية بلا اسم،
هناك آلاف القرى مثلها (وهذا مرة أخرى مايطلق عليه البناء المفتوح الذى
يشير إلى عالم ممتد وراء العالم الفيلمي)، تطوف بك الكاميرا فى أنحائها
التى لا تزيد على بضعة بيوت ودروب حول ساحة القرية وحوض الماء الكبير، وفى
لقطات تسجيلية نرى الوجوه الكليلة للعجائز والشباب والنساء والأطفال،
ولايجد هؤلاء تسلية تسرى عنهم إلا السخرية الجارحة من "عبيط القرية"، الذى
يبدو وجوده منذ البداية تأسيسا لجو الجنون الذى يسرى فى هذا العالم. ومن
حديث الناس وتصرفاتهم اليومية نعلم قبل أن نرى "البقرة" التى يحمل الفيلم
اسمها أنها البقرة الوحيدة فى القرية حتى يكاد يعتمد عليها الجميع فى
حياتهم كمصدر للغذاء أو العمل، لذلك لن يكون غريبا أن نشاهد حسن، صاحب
"البقرة"، يعاملها كأنها إنسان بمعنى الكلمة، إنهما يسيران معا كأنهما
صديقان، يقوم بغسيلها فى الترعة بينما هو ذاته يستحم، وهو يحدثها ويحتضنها
ويتقاسم معها شربة الماء، وفجأة يشعر حسن بالخطر، عندما يظهر فى الأفق
ثلاثة رجال فى ملابس سوداء، وبدءا من هذه اللحظة يسيطر على حسن خوف غامض من
غارة يقوم بها أهل القرية المجاورة، الذين اعتادوا على سرقة الماشية تحت
جنح الظلام، لذلك يفضل حسن أن ينام فى الحظيرة إلى جوار البقرة بدلا من أن
ينام فى سريره إلى جانب امرأته.
يذهب حسن
فى الصباح إلى المدينة فى مهمة ما، ليستيقظ أهل القرية على صرخة زوجته: لقد
ماتت البقرة! يتجنب الفيلم تماما أن يعطيك تفسيرا قاطعا لموتها، فربما قام
اللصوص بدس السم لها عندما عجزوا عن سرقتها، بينما يفسر بعض رفاق حسن الأمر
على أنه "الحسد"، لكن المهم الآن: كيف سيخبرون حسن بموت بقرته؟ إنهم يعلمون
قدر اعتزازه بها، وبعد الكثير من الحيرة يقررون اختراع قصة عن هرب البقرة،
بينما يقومون بدفنها فى بئر قديمة، ويمارسون الطقوس كأنها بشر حقيقى، فى
الوقت الذى يخافون أن يشى "عبيط القرية" بالسر لحسن عند عودته، فيقيدون
المجنون المستسلم لقدره ويحبسونه فى الطاحونة.
تأمل معى
تلك "الموتيفات" التى تعاود الظهور فى الفيلم، فتقييد المجنون بالحبال سوف
نرى له معادلا أكثر قسوة ومرارة فى المشاهد اللاحقة، كما أن التعامل مع
البقرة كأنها بشر ليس إلا الوجه الآخر لأن يتقمص حسن روح البقرة، فعندما
يعود ولا يجدها لا يصدق قصة هروبها، كما لا يصدق حتى حقيقة موتها عندما لا
يجدون مناصا من أن يصارحوه بها، فإن كانت البقرة قد اختفت فإنه يصبح هو
البقرة، لأنها ليست فقط مصدر حياته بل هى حياته ذاتها، وهكذا ينزلق إلى
الجنون: "أنا لست حسن، أنا بقرته، وهو يحرسنى من اللصوص"، كما أنه يضع فى
رقبته التعويذة التى أحضرها لها من المدينة، ويأكل من طعامها ويصدر مواء
يشبه صوتها. وهنا نرى حدثين متتالين: غارة اللصوص التى لا نعلم إن كانوا
يريدون قتل حسن لأنه أصبح "البقرة" التى تصوروا أنهم تخلصوا منها وقضوا على
كبريائه بامتلاكها، ثم قرار أهل القرية أن يأخذوا حسن إلى المدينة ليعالج
من جنونه، فيقيدونه بالحبال ويسوقونه كالثور الهائج تحت المطر، ومن أكثر
مشاهد الفيلم قسوة ومرارة هى تلك التى يضربه فيها بالسياط أخلص أصدقائه:
"سر ياحيوان!"، فكأنهم لا يختلفون عنه جنونا فى معاملتهم له على أنه
"البقرة" وليس صاحبها الذى فقد ذاته عندما فقدها، وينتهى الفيلم بمقاومته
لهم وهروبه منهم، لكنه ينزلق مقيدا من أعلى تل طينى ليسقط فى بركة ماء حيث
يلفظ أنفاسه مختنقا.
أعترف
للقارئ بأننى أصبت بحالة من الشجن العميق وأنا أشاهد الفيلم، ليس فقط بسبب
الحدوتة المؤثرة بحق، فالأهم هو "كيف" حكاها صناع الفيلم، وهنا أقف مذهولا
أمام قاعدة يؤكدها الفيلم فى الفن السينمائى (وربما أيضا فى أى وسيط فنى
آخر)، وهى أن يكون لدى الفنان فكر ذو هدف جمالى وسياسى واضح ومتسق، عندئذ
سوف تجده يستخدم أبسط وأفقر الإمكانات المتاحة لديه لكى يصل إلى هذا الهدف.
تأمل معى على سبيل المثال مفهوم "الواقعية" فى الفيلم، فلقد أدرك داريوش
مهرجويى أنه ليس هناك "مدارس" فى الفن ذات قواعد محددة، فمثل هذه القواعد
لا وجود لها إلا فى المدارس السينمائية الضحلة مثل حركة "دوجما" التى ظهرت
فى منتصف تسعينيات القرن الماضى، (وأنا أعلم أننى سوف أجد من بين النقاد من
يدافع عنها لأنها تجعل النقد سهلا ومتحذلقا مثل كتب "القراءة الرشيدة").
لقد كانت الواقعية كمضمون وليس مجرد أسلوب هى الهدف وليست الوسيلة فى فيلم
"البقرة"، ويمكنك أن تجدها فى المستوى المباشر لها واضحة فى اختيار المكان
والشخصيات والعديد من اللقطات التسجيلية العامة لبيوت ودروب القرية، أو
اللقطات القريبة للبشر فيها، لكن هذه الواقعية يمكنها أن تتحقق عن طريق
التعبيرية، النقيض الأسلوبى للواقعية (أجد نفسى هنا مضطرا لفتح قوسين لشرح
"التعبيرية"، التى لا تعنى كما يتصور البعض أنها القدرة على التعبير، وإنما
تناول العالم الكابوسى للشخصيات)، فالجنون الذى سيطر على حسن يؤكده التناقض
الحاد بين الأضواء والظلال، والتمثيل المسرحى المقصود الذى أدى به الدور
الممثل عزت الله انتظامى، وهكذا اجتمعت الواقعية والتعبيرية كأسلوبين، لأن
الهدف الجمالى والسياسى هو تناول العالمين الخارجى والداخلى معا.
لكن ما
أذهلنى حقا هو اللقطات التى نزلت معها تيترات الفيلم: بقعتان سوداوان
تتحركان على أرضية بيضاء، إنهما شكلان هلاميان يمثلان رجلا وبقرة يتباعدان
ويقتربان ويمتزجان أحيانا فى بقعة واحدة، تعبيرا عن هذا التوحد بينهما. فى
أفلام ظهرت فى القرن الواحد والعشرين، مثل الفيلم الأمريكى "حياة اليقظة"
أو الإسرائيلى "الرقص مع بشير"، استخدمت تقنية "الروتوسكوب" لتحويل الصور
الحقيقية إلى رسوم، لكن فيلم "البقرة" استطاع أن يحقق تأثير أفلام التحريك
بتقنية بسيطة، هى التصوير ضد الشمس لتتحول الشخوص والأشياء إلى أضواء
وظلال، وتصويرها وهى خارج البؤرة تماما، لتتحول إلى بقع تمتزج فيها البقرة
مع صاحبها، ويزداد التأثير شجنا مع اللحن الأسيان لآلتى الناى والقانون (السانتور).
وإذا كان هناك تأثير فى "البقرة" من إيزنشتين فيمكنك أن تتذكر اللقطة
المتكررة للبحار الغاضب الذى يكسر طبقا فى "البارجة بوتمكين"، وهنا نرى
معادلا متطورا لها فى مشهد لوعة حسن على ضياع بقرته، إنه يموء صارخا بينما
تتتابع اللقطات لتكرر نفس حركته ولكن من زوايا مختلفة تشكل دائرة حوله، مما
يعد استباقا لتقنية كمبيوترية ظهرت فى أفلام مثل "ماتريكس"، وأطلقوا عليها
الاسم الغامض "زمن الرصاصة"!!
ماذا يريد
الفيلم أن يقول وهو يصور هذا العالم القاسي؟ قد تقرأ عند بعض النقاد
الغربيين ـ بما لهم من تصورات أسطورية عن الشرق ـ أن الفيلم يصور العلاقة
الروحية بين الإنسان والحيوان فى عالم الروحانيات الشرقية، لكن الحقيقة أن
الفيلم "مادي" تماما فى جوهره الفلسفى، إنه يتحدث عن أناس بسطاء مستسلمين
للشر، الذى يمكن أن تفسره على أى مستوى، فكأنهم ينتظرون وقوع البلاء ولا
يفعلون شيئا إلا الرقى والتعاويذ وقبول الأمر الواقع. لكن حسن الذى انتزعوا
منه بقرته قرر أن يقاوم حتى بالجنون، بأن يصبح هو البقرة ذاتها! دعنى
أسألك: هل تكره حسن أو تلومه لأنه لم يكن عقلانيا أو واقعيا باستخدام
التعبيرات السياسية السائدة الآن؟! على العكس، إنك تتعاطف معه تعاطفا
كاملا، لأنه توحد مع مافقده ويريد استرجاعه، ولأن من حقه أن يقاوم حتى
بالجنون أو الموت، ويبقى أن نسأل أنفسنا كـ "متفرجين": كيف نعيد إلى حسن
بقرته؟ كيف نساعده على أن يسترجع مااستلب منه؟ والأهم كيف نمنع عنه
العدوان؟ تلك هى قصة "البقرة" وقصة صنعها: إنهم سينمائيون أصحاب جنون
إبداعى يقاومون بتصوير بشر هم بدورهم يمارسون المقاومة حتى بالجنون والموت،
ولتذهب كل العقول الباردة البليدة إلى الجحيم!!
العربي المصرية في
20
يناير 2009 |