حققت
السينما المغربية، في السنوات الأخيرة، نجاحاً لافتاً، ولعلها السينما
العربية الوحيدة التي بلغت هذا المستوى وفق خط بياني تصاعدي حتى وصل
الإنتاج المغربي إلى أكثر من عشرة أفلام في السنة الواحدة. هذا الكم رافقه
تميز نوعي، وبرز ضمن المشهد السينمائي المغربي مخرجون لا يمكن، في أي حال،
تجاهل دورهم في خضم هذا «الحراك السينمائي» الذي يبشر بالمزيد. ويعدّ أحمد
المعنوني واحداً من هؤلاء المخرجين الذين يعود لهم الفضل في إحداث هذه
القفزات السينمائية النوعية في بلد لطالما عمل ابناؤه كومبارس في الأفلام
العالمية التي صورت في منطقة ورزازات المغربية، وقد جاء الوقت ليكونوا
«أبطالاً».
أحمد
المعنوني هو مخرج، ومؤلف، ومصور، ومنتج. ولد في مدينة الدار البيضاء عام
1944. درس الاقتصاد في فرنسا ثم انتسب إلى المعهد القومي العالي لفنون
التمثيل في بروكسل حيث تخرج متخصصاً في الدراسات المسرحية والسينمائية، وهو
احد مؤسسي رابطة صانعي الأفلام العرب في فرنسا. أخرج، فضلاً عن أفلام
تسجيلية عدة قصيرة، ثلاثة أفلام روائية طويلة، هي: «الأيام... الأيام»
(1978)، ثم فيلم «الحال» (1982)، أما فيلمه الأخير فكان «قلوب محترقة» الذي
شارك في مهرجان دمشق السينمائي الأخير، ونال الجائزة البرونزية.
رحلة في
الذاكرة
يسترجع
المعنوني في هذا الفيلم، المشغول برهافة، جانباً من سيرته الذاتية عبر رحلة
سينمائية تطلعنا على ذاكرة الطفل الذي كان يقفز ذات يوم في حارات مدينة
الدار البيضاء (صوِّر الفيلم في مدينة فاس لضرورات فنية) ثم هاجر، وغاب
سنوات طويلة في بلاد الغربة ليعود مفعماً بأسئلة مؤلمة؛ مقلقة لا يجد لها
جواباً، ويوجه المخرج عدسته نحو جدران المدينة العتيقة وشوارعها وناسها
بحميمية نادرة استطاعت أن تستنطق روح المكان بكل بهائه وقسوته وحضوره في
ذاكرة الطفل ووجدانه، واللافت أن المعنوني صور فيلمه بالأبيض والأسود، ومن
هنا انطلق الحوار، إذ سألناه عن مبررات هذا الخيار الفني الجريء، فأجاب:
«مدينة فاس التي صورت فيها الفيلم، هي إحدى أجمل مدن العالم، بجدرانها
القديمة ودروبها وأحيائها وشوارعها... فخشيت أن تطغى جمالية المدينة على
موضوعة الفيلم، لذلك أردت التخفيف من تلك الجمالية عبر اللجوء إلى هذا
الخيار الفني لئلا يظهر العمل في قالب سياحي تطغى عليه البهرجة البصرية».
ويضيف
المعنوني: «الأبيض والأسود هما بمثابة ديكور داخلي، وهما خيار ذاتي - شخصي،
فأنا كمدير تصوير اعتبر أن التصوير بالأبيض والأسود له قدرة كبيرة على
التأثير، وعلى التعبير، فضلاً عن قدرته على إشاعة إحساس مختلف وخاص. إن
التصوير بالأبيض والأسود هو الأنسب لرصد الأزمات النفسية، وهو الأقرب
للدخول إلى أعماق الشخصية وما يدور فيها من أسئلة وهموم. وبما أن موضوع
فيلمي يتركز على الانتقال بين الماضي والحاضر، وعلى النبش في صفحات الذاكرة
البعيدة، أي أن هناك عالماً داخلياً لا بد من توضيح غموضه وملابساته، فكان
التصوير بالأبيض والأسود هو الطريقة المناسبة للتعبير عن هذه الحساسية،
وأنا أحتفظ بنسخة ملونة للفيلم وهي نسخة خاصة بالتلفزيون. والواقع أنني
عندما شرعت في كتابة هذا الفيلم الذي يتناول سيرتي الذاتية، مع اختلافات
طفيفة، كانت الأحداث تتراءى أمامي باللونين الأبيض والأسود.
·
بما أن الفيلم يتحدث عن سيرتك الذاتية، نود
أن نعرف الأسباب التي دفعتك لإنجازه، والظروف التي رافقت إنتاجه؟
- الفيلم،
كما تعلم، يتناول حكاية شاب يجد نفسه مرغماً من جديد على الغوص في ذكريات
طفولته البائسة، فأمين بطل الفيلم (جسد دوره الفنان المغربي هشام بهلول)
لديه أسئلة كثيرة تقلقه، وعلى رغم نجاحه المهني كمهندس في باريس، لكنه لم
يعثر على احد كي يجيبه عن تلك الأسئلة التي تعكر صفو حياته المطمئنة. يتوصل
أمين إلى قناعة بأن من يستطيع الإجابة عما يدور في ذهنه، موجود في مسقط
رأسه المغرب، وليس في باريس، فيقرر العودة إلى بلده، ومع هذه العودة تفتح
أمام عينيه دفاتر الذاكرة المثقلة بالأوجاع والخيبات. من هنا بدأت الفكرة،
وعندما قررت إخراج هذا الفيلم، قررت أن يكون بمثابة فيلمي السينمائي الأول.
وضعت كل ما أنجزته جانباً، ونسيت كل الألعاب البهلوانية للكاميرا، ورحت
أنساق مع حكاية هذا الشاب العائد بعد غياب؛ حكايتي، واكتشفت، عندئذ، مقدار
الألم الذي يختزنه الفيلم بدءاً من عنوانه، مروراً بالإهداء «إلى أمي التي
لم أعرفها قط»، وصولاً إلى أحداث الفيلم التراجيدية. لقد بحثت طويلاً عمن
يجسد الشخصية الرئيسة، وقد تستغرب أن اختيارها جاء أخيراً، وكان يفترض أن
يتم الاختيار منذ البدء، وقد وقع الاختيار على الفنان هشام بهلول الذي لم
أكن اعرفه، ولم أخبره بأن الفيلم يتناول سيرتي الذاتية، وأعتقد انه نجح في
تجسيد الدور، فقد رأيت أن وراء حضوره ووسامته شيئاً رقيقاً قابلاً للكسر،
وهو ما دفعني إلى اختياره.
لقد ذهبت
إلى فرنسا، وبدأت عملي في السينما، وكنت أعود إلى المغرب بين الحين والآخر،
لكنني لم أكن املك الشجاعة لزيارة قبر خالي الذي تكفل برعايتي بعد موت أمي
وأنا طفل صغير، وفي يوم ما تشجعت، وذهبت إلى القبر بقلب مضطرب، وخطوات
مرتبكة، فتساءلت: أأخاف منه بعد كل هذه السنوات؟ ولعل إنجازي هذا الفيلم هو
نوع من التغلب على ذلك الخوف الذي رافقني سنوات طويلة!
·
لماذا هذا الإهداء المؤلم: إلى أمي التي لم
أعرفها قط؟
- لأن أمي
تمثل بالنسبة إلي ثنائية الأمل والألم معاً. لقد رحلت قبل أن تتكون لديّ
ذاكرة، فأنا كنت صادقاً حينما أهديت الفيلم إليها، وقلت إنني لم اعرفها قط.
كان هذا الغياب مؤلماً وقاسياً.
·
أنت ولدت في الدار البيضاء، وصورت فيلمك في
مدينة فاس. لماذا نقلت سيرتك إلى هذه المدينة؟ ألا يفقد ذلك الفيلم صدقيته؟
- كنت
أتمنى بالطبع أن أصور فيلمي في الدار البيضاء لكي يأتي مطابقاً لسيرتي
الذاتية. لكن لم يكن التصوير ممكناً في الدار البيضاء حيث الفوضى والزحام،
ولا يوجد فيها حرفيون صغار كما في مدينة فاس. كتبت السيناريو وكان في ذهني
الدار البيضاء، وعندما قررت التصوير اخترت مدينة فاس كبديل مناسب، وعندئذ
غيرت بعض التفاصيل الصغيرة، لكنني حافظت على أبعاد المعاناة التي لقيها
الطفل أمين، وعلى طبيعة علاقته مع خاله، وقدمت علاقات الصداقة، ونمط الحياة
كما كان الحال قائماً في الدار البيضاء، وحاولت استحضار أجواء هذه المدينة
سواء بلغتها أو أزيائها أو موسيقاها. أنا انتمي إلى مدرسة الفيلم الوثائقي،
وهذه المدرسة تجعلك دقيقاً في النظر، وتدفعك إلى تقديم الصورة الحقيقية
للوقائع والأحداث، وأعتقد أن هذا ما حصل في فيلمي، إذ غيرت الديكورات
قليلاً، لكنني حافظت على خصوصية مدينة الدار البيضاء.
·
وسط هذه الطفولة البائسة، كيف تسنى لك التعلق
بالسينما؟
- كنت
تلميذاً في المدرسة الثانوية في الدار البيضاء، وكنت أشاهد مسرحيات لفرق
جوالة، فاكتشفت أن المسرح وسيلة مناسبة للهرب من الواقع الذي كنت أعيش فيه.
كان المسرح نافذة جميلة؛ رحبة أطل من خلالها على كل ما حرمت منه، وكنت
أتابع دروس المسرح في المساء، وحين نلت الشهادة الثانوية ذهبت إلى فرنسا
فدرست الاقتصاد، لكن حبي الأول للمسرح لم ينطفئ، فانتسبت إلى الجامعة
الدولية للمسرح التي كان يدرس فيها كذلك فاضل الجعايبي ومحمد إدريس. في هذه
الأثناء أخرجت مسرحية «الصدى الأول» ونالت جائزة، وفي احد العروض، وأنا
وراء الكواليس اكتشفت أن السينما هي الأقرب إلى عالمي للتواصل مع الجمهور.
كنت استعمل أدوات السينما في المسرح، وأرسم المشاهد بطريقة سينمائية. وعلى
رغم أنني، وحتى اللحظة، أفضّل اللقاء الحي مع الجمهور، لكن الوسيلة
المناسبة للتعبير عما يجول في داخلي هي السينما، فقررت دراسة السينما
أكاديمياً، إذ انتسبت إلى المعهد العالي للسينما في بروكسل، وكان يدرس فيها
كذلك المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي. تخرجت في معهد السينما كمدير تصوير،
وعملت مع مخرجين أبرزهم جيلالي فرحاتي، وصورت في أميركا فيلم «أوهام»
للمخرجة الأميركية جولي داش.
المنتجون
مخرجون
·
أنت مخرج ومصور ومؤلف ومنتج... كيف يكون ذلك؟
- إن
ممارسة تقنيات التصوير جعلتني واقعياً في التعامل مع الصورة. ومعظم
المخرجين المغاربة يعملون كمنتجين إلى جانب الإخراج لأنه لا يوجد منتجون في
المغرب، لذلك يضطر المخرج لأن يكون منتجاً في الوقت ذاته. في المغرب هناك
«المركز السينمائي المغربي»، وهذا المركز يشكل لجاناً لتقويم السيناريوات
المقدمة، وحين تتم الموافقة على أحد السيناريوات، فإن الجهات الرسمية تقدم
دعماً للفيلم يغطي نحو 50 في المئة من الموازنة، وتسهم القنوات الفضائية،
بدورها، في تقديم نسبة لتمويل الفيلم، وعلى المخرج أن يؤمّن النسبة
الباقية، فهو بذلك يكون مخرجاً ومنتجاً في الآن ذاته.
·
كيف تنظر إلى التمويل الأوربي، وخصوصاً
الفرنسي، للفيلم المغربي؟
- اعتقد
أن ثمة مبالغة حول التمويل الفرنسي للفيلم المغربي، ففي المملكة المغربية
لا يتعدى التمويل الغربي نسبة 25 في المئة، وبلغة الأرقام أقول: نحن في
المغرب ننتج نحو 12 فيلماً في السنة، وقد يكون بينها ثلاثة أفلام فقط ممولة
أوروبياً.
لا يمكن
أن ننكر أن الممول يميل دائماً إلى تمويل الأفلام التي تتناسب مع أهدافه
وغاياته. فالممول سيكون متساهلاً في الموافقة على التمويل إذا كان الفيلم،
المزمع تصويره، يطرح مواضيع قريبة منه. أنا شخصياً لا علاقة لي بهذا
الجانب، فأفلامي ليست ممولة أوروبياً، وكنت حريصاً في أفلامي التسجيلية،
التي مولتها قنوات تلفزة فرنسية، على أن تكون رؤيتي حاضرة في الفيلم.
·
لماذا لا يمول الأوروبيون أفلامك وأنت
المعروف بصلاتك القوية مع الأوروبيين، وتحظى بشهرة واسعة في فرنسا خصوصاً؟
- قد يكون
السبب في أن الطريقة التي أعالج بها مواضيعي التي أكتبها لا تتطابق مع رؤية
الغرب. وينبغي أن نعترف بأن الأوروبيين يفضلون أن نكرر نحن خطابهم عنا، أي
أن نتناول قضايا مثل: واقع المرأة العربية، الإسلام، الإرهاب،
الديموقراطية، ملف حقوق الإنسان وسواها من القضايا وفق منطقهم، وأنا افهم
مواصفاتهم لدرجة أنني لو كتبت، الآن، فكرة فيلم ما وفق شروطهم وأرسلتها إلى
إحدى جهات التمويل الأوروبية لحصلت على الموافقة فوراً، وإذا كتبت الفكرة
ذاتها برؤية مختلفة؛ مغايرة لرؤيتهم النمطية، فسيكون التمويل صعباً.
·
هل لك أن توجز لنا باختصار رؤيتك لواقع
السينما العربية؟
- لعل
أخطر شيء يتمثل في أننا لا نملك جماليات، ولا نملك «الرؤية الفنية»، وفي
غياب هذه الرؤية لا يوجد عمل فني. وأقصد بـ «الرؤية الفنية» القدرة على
إنجاز عمل يخاطب الإنسان عبر السنين، ويصل إليه أينما كان. كل شيء يلمع
ويتلألأ، نسميه في العالم العربي فناً. كل نكتة سمجة نسميها كوميديا. كل
شعار سخيف نسميه تحليلاً، ومعالجة موضوعية... هنا تكمن المعضلة، وبعد كل
ذلك نقول إن الجمهور العربي ليس لديه ذكاء، ولا إحساس فني. الشيء الأهم هو
أن ننتج أفكارنا ومواضيعنا عبر اختراع جماليات، ومن دون ذلك لا يمكن أن
يكون لنا حضور بل سنكون مستهلكين.
الحلقة
السينمائية في العالم العربي منقطعة، ولا تكمل بعضها بعضاً، يوجد في المغرب
شيء لا يوجد مثله في دول العالم العربي الأخرى، وتتفاوت حرية التعبير من
بلد إلى آخر، ولكن القاسم المشترك هو عدم وجود كتاب سيناريو ومنتجين، ولا
تتوافر قاعات سينما، ولا سياسة لتوزيع الأفلام بين البلاد العربية، فضلاً
عن غياب استراتيجية لترويج الفيلم العربي في الخارج. وهناك أمر آخر هو غياب
النقد الجريء والحقيقي.
·
على رغم وعينا بالعقبات والعراقيل، لكنها
تبقى قائمة، لماذا؟
- مشكلتنا
أننا لا نعطي المجال للفرد لكي يبدع، دائماً نحاول أن يكون الإنسان العربي
فرداً ضمن مجموعة. هناك تغييب للفرد مع أن الفرد، في معزل عن أي شيء آخر،
يمكن أن نتواصل معه لأنه حقيقي. نحن دائماً ننسى ذواتنا وكأننا غير
حقيقيين. نحن في العالم العربي لا نؤمن بالفرد لأن الفرد يجعلنا خائفين،
ويشكل، وفق الثقافة السائدة خطراً على الجماعة.
فيلمي
«الحال»، مثلاً، الذي يتحدث عن موسيقى ناس الغيوان المغربية، استطاع،
ببساطته، أن يؤثر في سينمائي كبير في قارة أخرى، وأقصد مارتن سكورسيزي الذي
رأى الفيلم على التلفزيون الأميركي، وكتب عنه في سيرته السينمائية «سكورسيزي
وسكورسيزي»، وبعد 26 سنة من هذه المشاهدة، وحين قرر أن ينشئ «المؤسسة
العالمية للسينما» بغرض ترميم الأفلام التي تشكل ذاكرة السينما العالمية،
فأول فيلم أراد أن يرممه كان فيلم «الحال». هل يوجد مثل هذا التقدير لجهد
الفرد في عالمنا العربي!
·
أنت لست متفائلاً بمستقبل السينما إذاً؟
- أظن أن
الطقس السينمائي سينحسر شيئاً فشيئاً، وسيقتصر على النخبة، أما الجمهور
العريض فسيبقى على تواصل مع السينما عبر الفضائيات، والانترنت، والـ «دي في
دي»... فالإنـسان دائماً يحتاج إلى الخيال، لأن هويـتنا الحقيقية ليست
بطاقة التعريف التي نحملها، بل هويتنا هي خيالنا.
الحياة اللندنية في
16
يناير 2009
أرقام
ابراهيم حاج عبدي
طغت أخبار
الجريمة الاسرائيلية في غزة على يومياتنا حتى صَعُب التفكير في الكتابة عن
شأن آخر. الفضائيات لا تهدأ، فكاميراتها تبدأ التصوير من مسرح الجريمة في
قطاع غزة، ثم تذهب الى تظاهرات الغضب التي تعمّ العواصم العربية والعالمية،
لتنتهي في مجلس الأمن الدولي، ثم تعاود الرحلة ذاتها. ثلاثة مواقع تصوير
يتكرر ظهورها على الشاشات، وتتكرر «تراجيديا الموت» لدرجة تحول الدم
الفلسطيني الى رقم يتصاعد، يوماً بعد يوم، حتى اقترب من الألف لحظة كتابة
هذه السطور.
ولفرط
الأخبار المكثفة التي تحصي عدد القتلى لحظة بلحظة، صار الموت «أليفاً»!
صارت أرواح الأبرياء رقماً باهتاً يقيس حجم الخراب، ويشير الى عجز عربي،
ودولي عن وقف مجزرة تُرتكب أمام الملأ بحق شعب أعزل. لكن، هل حقاً يمكن
الموت ان يغدو حدثاً عابراً في خبر عاجل؟ بالطبع لا، فخلف كل موت ثمة
حكايات، وقصص، وذكريات، وأحلام... وبعد كل رحيل هناك ثكالى وأرامل ويتامى،
ودموع سخية، و «اشجار مقطوعة الظل»، بتعبير الشاعر الراحل محمود دروريش
الذي يقول في نص: «القتلى / الشهداء لا يتشابهون. لكل واحد منهم قوام خاص،
وملامح خاصة، وعينان واسم، وعمر مختلف. لكن القتلة هم الذين يتشابهون. فهم
واحد موزع على أجهزة معدنية. يضغط على أزرار إلكترونية. يقتل ويختفي».
ما نراه
على الشاشة هو نصف الحكاية. ففصول الألم لا يمكن أن تكتمل وتنضج إلا بعيداً
من العدسة الفضولية. فحين ينتهي القصف، ويهدأ صوت الرصاص، ويغادر
الصحافيون، يلتفت الفلسطيني، بقلب حزين، إلى أطلال داره، إلى شجرة الزيتون
المحترقة، إلى فسحة أمام الدار عانق فيها أطفاله، ويروح يكرر مع درويش:
«أجلس أمام التلفزيون. أعثر على عواطفي، وأرى ما يحدث بي ولي. الدخان
يتصاعد مني. وأمدّ يدي المقطوعة لأمسك بأعضائي المبعثرة... فلا أجدها ولا
أهرب منها من فرط جاذبية الألم. أنا المحاصر من البرّ والجوّ والبحرّ
واللغة...اشاهد بقية موتي مع ملايين المشاهدين...».
ولأن
الفضائيات تلاحق كل جديد، فهي تنجح، من دون ان تقصد، في توليف مونتاج ينطوي
على مفارقة حادة ومريرة، إذ نرى الجندي الاسرائيلي وقد أصابه الذعر والخوف
والهلع، وعلت وجهه علامات التأثر البالغ لرؤية زميل له وقد أصيب، للتو،
بجروح طفيفة. لون الدم، هنا، يربك الجندي الاسرائيلي، ويجعله ودوداً،
ومتعاطفاً مع زميل جريح له! في حين ينظر الجندي ذاته الى الدماء الفلسطينية
المسفوكة، الى البيوت المدمرة، الى أطفال فقدوا الأمان والحنان... من دون
ان يرف له جفن! كيف لذاك الجندي، إذاً، ان يكون رحيماً، ووحشاً في الآن
ذاته؟ كيف للقاتل ان يضع قناع الضحية! كيف للنفس البشرية أن تفصل الى هذا
الحد المرعب بين دم هنا، ودم هناك؟
الحياة اللندنية في
15
يناير 2009 |