بين حريق مجلس الشوري والمسرح القومي وانهيارات الدويقة، وفداحة الوضع الاقتصادي ، وتفاقم العنف الاجتماعي ،واحتدام الازمة المالية العالمية، وبين انتصار موظفي الضرائب العقارية في اضرابهم النزيه،وصمود اهل جزيرة القرصاية البطولي،وظهور جوليا أورموند المبهج علي خشبة مسرح الاوبرا، مر عام 2008 علي المصريين .مثله مثل أعوام عديدة سبقته وربما اعوام قادمة ستليه يحمل مرارات تبدو لا نهائية ،لكنه ورغم ذلك لا يخلو من بارقة امل تنطلق شرارتها هنا او هناك، تؤكد اننا لم نستسلم بعد.

قد يحمل الامل لنا حكماً قضائيا نزيها أو صدور رواية جديدة و فوز اخري بجائزة ،او حتي مقال جيد نقرأه بجريدة، أو حوار مفعم بالاصرار مع احد نوابغنا في برنامج تلفزيوني،أو فيلم جيد نتابعه، او التفاف المئات لتوديع راحل ربما في حياته لم يكن يعي حجم تأثيره فينا.حدث هذا مع العملاق كامل زهيري، ومن قبله المدهش دائما يوسف شاهين، الذي لم يستطع موته ان يقف حائلا امام قدرته علي الادهاش عندما تحولت جنازته الي مظاهرة عاتية ضد الاستبداد والفقر. لتظل فيما بعد شاهدا علي مدي جماهيرية السينما وارتباطها بالشارع وما يحدث فيه.

مفارقة استثنائية

دليل آخر علي ذلك اثبتته الافلام الناجحة جماهيريا في عام 2008 .ففي نهاية 2007 عرضت السينما فيلم "حين ميسرة" للمخرج خالد يوسف،الذي امتد عرضه الي بدايات 2008 وحقق ايرادات تبدو خيالية بالنسبة لتوقيت عرضه اثناء امتحانات نصف العام الدراسي. والسر في هذه المفارقة لا يكمن في استثنائية الفيلم كعمل فني ،بل في رغبة صناعته في عرض واقع مخز نعيشه بدون رتوش.قد نختلف علي مستوي "حين ميسرة" الفني بل وقد نرفض توجهات الفيلم كلها ونصل لحد اتهامه بالضحالة الفكرية او حتي التواطؤ ضد مصالح الفقراء، لكن لا يمكن ابدا انكار ان الفيلم حمل نقاط تماس بين مانراه علي الشاشة وبين ما يعيشه ملايين المصريين في عشوائيات تجاهلتها الحكومة لأجيال متعاقبة، فصارت مناطق ملغمة وعلي وشك الانفجار.

ايجابية "حين ميسرة" تأتي من تأكيده ان الضحك لسرقة لحظات نسيان مؤقتة لم يعد ضمن اولويات المصريين. وهو ما ترسخ فيما بعد بسقوط مدو لأسطورة الكوميديا محمد سعد وفيلمه الاخير "بوشكش" ، حيث تم تنفيذه بنفس المنطق الذي قدم به محمد سعد أفلامه صاحبة الملايين عبر الاعوام السابقة. ومع ذلك فشل الفيلم في تحقيق ايراداته المتوقعة خلال موسم 2008 الصيفي .ذلك الموسم الذي خلا تقريبا من الافلام الكوميدية باستثناء "بوشكش".

تضخم في الذات

والمؤسف حقا هو تلك الحالة التي اصابت نجما يمتلك حجم موهبة محمد سعد الفنية فقد بلغ تضخم ذاته مداه عندما اصر علي تقديم فيلمه "بوشكش" للجمهور رغم احتراق جزء كبير من خام الفيلم المصور.واضطرارهم لإعادة تصوير مشاهد الفيلم المحترقة من جديد. ولا اعرف كيف تم استبدال كولومبيا بأسوان اثناء الاعادة؟! فإما ان اختيار اماكن تصوير الفيلم تتم عشوائيا ، واما ان الاستهانة بالمشاهد كانت هي الفيصل اثناء صناعة الفيلم.

ريادة سينمائية

علي كل حال فإذا كان النجم محمد سعد قد تجاهل وضع الجمهور في قائمة حساباته فإن غيره من النجوم يضعونه علي اولوياتها، كما فعل نجم النجوم عادل إمام بكل تاريخه الفني ورصيده لدي هذا الجمهور، عندما ادرك مبكرا ان اولويات المشاهدة تتغير لدي جمهور السينما بتغير اوضاعه . فجاء فيلمه في 2008 "حسن ومرقص" يحمل ملمحا كوميديا ظاهرا لكنه بالأساس يناقش قضية بات تجاهل تفاقمها في الشارع يشكل فضيحة.. الفتنة الطائفية في مصر التي صارت احداثها المتصاعدة تنبئ بخطر وشيك يهدد استقرار هذا البلد. ربما لم يمكننا التعاطي مع تسطيح "حسن ومرقص" لقضيته الخطيرة كذا لا يمكننا القبول بتجاهله مسئولية الحكومات المتعاقبة منذ عام 52 وحتي اليوم عن تداعياتها، لكننا ايضا لا نستطيع انكار ريادة صناع الفيلم في طرحهم هذه القضية للمناقشة سينمائيا.

النجم الشاب أحمد حلمي ايضا ادرك بذكاء فطري ان الضحك وحده لم يعد ضمن اولويات رواد السينما لذا فقد جاء فيلمه الرقيق "آسف علي الازعاج" تجسيدا لهذا الادراك، فالفيلم قدم لنا بهجة ممزوجة بالشجن الجميل ،و الاهم حدوتة شجية قد يكون بطلها اي شاب له طموح في وطن تتضاءل فيه الفرص أمام الطموحين ، وبالطبع ليس بالضرورة ان يكون مصابا بفصام الشخصية كما كان" بطل اسف علي الازعاج".

تعامل إعلامي

ملاحظة أخري اثبتها موسم 2008 الصيفي وهي قدرة المشاهد علي اختيار الافضل دائما، فالنجاح المدوي لفيلمي المخرج خالد يوسف السابقين "هي فوضي" و"حين ميسرة" ، لم يكن بالضرورة يعني نفس النجاح لفيلمه الاخير "الريس عمر حرب "، فالفيلم لم يستطع الصمود طويلا في المنافسة الصيفية. ربما نجح خالد يوسف من قبل في الابتعاد بنا عن فنيات افلامه عند تناولها نقديا ،لكنه هذه المرة لم يستطع، وانتبه كثيرون لأهمية مناقشة المنطق الفني في التعامل الاعلامي مع الفيلم السينمائي . وبهذا تحول النقاش من مجرد سفسطة سياسية لأفكار المخرج، الي نقاش جدي لما يقدمه سينمائيا.

وهذا ايضا ما أثبته فيلم " كباريه" للمخرج سامح عبد العزيز، فيمكننا الاختلاف حول المنطق الاخلاقي الذي كرس له الفيلم ،أو حتي التأكيد علي خطورة الطرح الاسلامي المتطرف للفيلم .لكن الذي لا يمكن الاختلاف عليه ابدا هو ان فنيات الفيلم كانت عالية، بمعني انه تم تقديمه سينمائيا بحرفة جيدة ،وإخلاص من قبل صناعه في استخدام ادواتهم الفنية في التعبير، اما المضمون فهي قضية اخري خاضعة لاختلاف الرؤي من شخص لآخر.

تعبير فني

هذا الاخلاص في التعبير الفني كان إحدي سمات فيلم "زي النهاردة" للمخرج الشاب عمرو سلامة والذي تم عرضه خلال موسم عيد الفطر في 2008. فربما تحفظنا علي فكرة فيلم يناقش الظواهر الخارقة للطبيعة،وربما لم نر جديدا في مناقشة قضية الإدمان سينمائيا، لكننا بكل تأكيد استمتعنا بمتابعة فيلم "زي النهاردة" .الذي اجبرنا علي تجاهل تحفظاتنا لنتفرغ للحديث عن معالجة الفيلم الفنية لقضيته.

والحقيقة لا أعرف الي متي سيستمر تعامل المسئولين عن توزيع الافلام مع مواسم الاعياد علي انها مواسم درجة ثانية .فيتم خلالها عرض الافلام التي لم تحظ بفرصة خلال الموسم الذهبي في الصيف. للاسف رغم ان شباك التذاكر دائما يثبت ان الفيلم الجيد يفرض نفسه فإنهم مازالوا يصرون علي التعامل بجدية مع السينما لمدة ثلاثة اشهر فقط كل عام.

عموما لقد استطاع "زي النهاردة" الذي يمكن توصيفه بأنه فيلم صغير ان يقدم شهادة ميلاد فنية لنجم جديد سيصعد بقوة خلال الاعوام القادمة هو آسر ياسين. وهو نفسه بطل فيلم "الوعد" للمخرج محمد ياسين والكاتب الكبير وحيد حامد والذي ادهشنا بآداء مخضرم وواع لدوره في الفيلم. ليكون ختام عام 2008 السينمائي نافذة امل امام عشاق السينما في ان مزيدا من المواهب الاصيلة يمكن ان تجد طريقها للتعبير عن نفسها وامتاع المشاهد بها.

الأهالي المصرية في 31 ديسمبر 2008