قوبل
الفيلم الإماراتي القصير “بنت مريم” الذي عرض جماهيرياً لأول مرة أمس
باستحسان من النقاد والإعلاميين ومحبي السينما الذين أشادوا بالفيلم
وأجمعوا على أنه سيكون انطلاقة قوية للسينما الإماراتية التي أثبتت وجودها
في الأفلام القصيرة، ما يبشر بإمكانية إنتاج أفلام طويلة تناقش قضايا
المجتمع وتطرح همومه وقادرة على المنافسة في المهرجانات الدولية. وتدور قصة
الفيلم حول فتاة لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها تم تزويجها لرجل مسن،
لتجد الفتاة “بنت مريم” التي جسدت شخصيتها نيفين ماضي نفسها أرملة، مجبرة
على مواجهة صعاب الحياة وحدها بعد وفاة زوجها لتنتقل إلى مأساة جديدة وهي
من دون زوج، فتنتقل للعيش مع عمها الكفيف.
يبدأ
المشهد الأول من الفيلم بصوت قطرة مطر تسقط في إناء، ثم يتداخل صوت الفتاة
وهي تروي قصتها بأسلوب السرد الشعري باللهجة المحلية، حيث تبدأ بمناجاة
الطبيعة بقولها “نبغي خيمة فيها المطر واقف”، تتوقف عن الحديث فيبدأ صوت
الرعد الذي ينبئ بعاصفة جوية لكن نتاج هذا الرعد القوي الذي يزلزل القلوب
تكون قطرة أو قطرتين من المطر، هل بقي المطر حبيساً ومعلقاً في الغيوم؟ أم
أن المطر عبارة عن فتاة أخرى يعتصر قلبها الحزن في غير أوانه ؟ إذا لم يحن
أوان المطر بعد، لماذا نسمع صوت الرعد ؟ هذه هي التساؤلات الأولية التي
ترتسم في ذهن المتابع للفيلم وهو يسمع بنت مريم تقول : في كل سكة بالفريج
في بنت جديدة تطلع مثلي.
الفيلم
ليس نصاً حوارياً بين الشخصيات بقدر ما هو حوار بين الكاميرا والمشاهد الذي
لا يقول له نص الفيلم ان ذاك الرجل القوي البنية الممدد على سرير خشبي
ويغسله رجلان بالماء هو زوج الفتاة الذي توفي، فالفيلم يحتاج إلى معالجة
وتفاعل من المشاهد كي يكون ذا معنى، ويكمن جانب المغامرة في هذه النوعية من
الأفلام التي تزخر بها السينما الايرانية والكردية (سميرة ومحسن مخملباف،
محمد شيرواني، مجيد مجيدي، بهمن قباذي... إلخ) في جانب أن الجمهور لا يكون
متلقياً وإنما جزء أساسي من النص السينمائي غير المكتوب. والسرد الروائي
على لسان الفتاة يكون مقتضباً وذا طابع تلميحي اكثر مما يكون مباشراً من
حيث تماسه مع المشهد، ففي مشهد غسل الميت نسمع أصوات طيور جارحة وكأنها
تحلق فوق جثة الرجل تتقاطع معها موسيقا تصويرية توحي بالخوف، في دلالة
رمزية لا تخلو من الاشارة إلى حجم الجرم الذي ارتكبه هذا الرجل الستيني
بزواجه من فتاة لا تزال تنظر للعالم كطفلة، والفتاة في سردها لقصتها تنعت
زوجها الميت ب “الشيبة”. واقع جديد وجدت الفتاة نفسها فيها، فهي لأول مرة
بإمكانها ان تروي كيف تمت عملية زواجها القسري وكيف جعلوها ترتدي ثوباً
مجعداً ورسموا بالحناء على يديها.
تنطلق
الفتاة بعد يومين من وفاة زوجها إلى عمها معتوق، الرجل الكفيف الذي لم يبق
لها غيره في الدنيا بعد ان طردها اهل زوجها بعد وفاته. تجد نفسها مع معتوق
الأعمى، وفي الجوار فتى (حسين محمود) يحمل بيده نبتة يابسة ويدور بها في
المطر ويضعها تحت “المزراب” الذي يتدفق منه المطر المتجمع فوق السطح، لكن
المطر قليل رغم قوة صوت الرعد، النبتة الصغيرة لها جذور داخل كتلة التراب
التي أحيلت إلى طين مجبول متماسك بجذور النبتة، كيف سيجعلها هذا الفتى
الصغير تخضر من جديد لتنهض أمه من فراش الموت إلى الحياة؟ هكذا يربط بين
مصير النبتة الصغيرة (الليمونة) ومصير أمه، فيأخذها إلى معتوق الكفيف ليقرأ
على أغصانها لتنبت وينقذ أمه بهذه الطريقة، لكنه رفض ذلك معتبرا هذه الشجرة
لا خير فيها. يموت معتوق الكفيف وتموت ام الفتى، وهو يعتقد أن عدم اخضرار
النبتة السبب.
فتاة أخرى
في الجوار، حبسها أخوها في المنزل حتى أصبحت مجنونة، تقديم حالة هذه الفتاة
سبقه مشهد قص شعرها، وهو هنا يمثل قتل الجمال والابتسامة والأمل، “ففي عيني
كل بنت كما تقول بنت مريم حمامة تطير بعيدا إلى السماء”. ورغم أن حالة
الفتاة السجينة الممنوعة من الزواج والخروج من المنزل تبدو مناقضة لحالة
“بنت مريم” التي أجبرت على الزواج المبكر إلا أن الأمر أشبه بمن يقوم بكسر
جناح حمامة أو قص ذيلها، وفي الحالتين ستتوقف هذه عن التحليق.
الفيلم
غني بالتوظيف النفسي، مثل المشهد الذي يقترب فيه الرجل الكفيف من بنت مريم
النائمة ليغطيها باللحاف، لكنها ترتعد خوفاً، فالذاكرة ما زالت حية بزوجها
المسن الذي كان يقترب منها في الليل ويندس في سريرها. والمشاهد للفيلم
تعتريه رغبة دفينة لو انه يستطيع طمأنة الفتاة أن الذي يقترب منها ليس ذلك
الزوج الميت، ويتمنى أن تدرك الفتاة ذلك مبكراً قبل أن يأكلها الخوف.
تنجح بنت
مريم في إخراج الفتاة السجينة من عزلتها وصدمتها النفسية، في البداية
تجعلها تبتسم ثم تنزع حجابها الذي يغطي شعرها المقصوص ببشاعة، وعلى وقع
بكائها تروي مناجاتها بقصيدة شعر. وهذا يؤكد أهمية الخلفية الأدبية لكاتب
السيناريو الروائي الاماراتي محمد حسن أحمد الذي أحال النص إلى قصيدة
شعرية. وهذا النوع من النص رغم جماليته إلا انه يقع أحيانا في فخ التصادم
مع الكاميرا وأحيانا أخرى يقترب من القصائد الغنائية، لكن قلة عدد الشخصيات
التي ظهرت في الفيلم ومحورية الدور الذي لعبته نيفين ماضي حالت دون تحول
هذا الأمر إلى مشكلة فنية.
المشاهد
الأخيرة تتويج لكل الرموز الكبيرة التي ضمها الفيلم، فالنبتة لم تخضر
بقطرات المطر المتساقطة بشكل متقطع، إذاً، لماذا الحيرة والاستسلام طالما
أن البحر موجود؟ الأمل لا يموت بكبوة واحدة، والبدائل هي التي تطيح
بالاستسلام الذي ربما يربح جولة واحدة من المعركة أو معركة واحدة في حرب.
الإناء
امتلأ بقطرات المطر، فسكبته بنت مريم ورفعته إلى السماء لتجمع قطرات المطر
من جديد، لكن المطر هذه المرة يهطل بغزارة شديدة بينما ترقص بنت مريم مع
الفتاة التي كانت حبيسة واقعها. الكاميرا روت نصاً قصيراً عندما صورت رقص
الفتاتين تحت المطر في الخارج بينما الكاميرا كانت وراء قضبان النافذة التي
تشبه قضبان السجن.
هل انتهت
القصة بالانتصار؟ نعم الفتاة انتصرت، لكنها ختمت الانتصار بأول جملة نطقتها
في الفيلم: في كل سكة بالفريج ستظهر فتاة أخرى مثلي أنا “بنت مريم”. ولنا
أن نتوقع هزائم كثيرة مستمرة.
المخرج
سعيد سالمين برع في تجسيد مشكلة الزواج المبكر إضافة للتسلط الذكوري، وربما
يؤخذ عليه عدم تدخله في واقع النص بحيث يجعل فكرة الفيلم تنتصر بشكل ساحق
بدلاً من تركه القدر يلعب الدور الحاسم في تخلص الفتاة الطفلة من زوج أخذه
الموت على حين غرة. وهنا يمكن استخلاص أن المشاهد الرمزية في الفيلم كانت
ذات مضامين ثورية من حيث إن اخضرار النبتة وامتلاء الإناء بالمطر ورقص
الفتاتين وأصوات الرعد الصاعقة تترك ابتسامة لدى كل متابع للفيلم بينما
النص المنطوق بقي في دائرة الواقعية الحزينة ولم يتوغل في تناول الواقع
الأفقي للمجتمع وأطراف الصراع فيها. مثلاً، كيف يؤثر الواقع المعيشي في هذه
القضية.
وإذا كانت
نهاية الفيلم توحي أن هذا الأمر ظاهرة اجتماعية فهذا أمر يمكن مناقشته، لكن
تكرار نموذج مثل “بنت مريم” في المجتمع بشكل يجعلها نموذجا لظاهرة يطرح
تساؤلاً، لأن بيئة الحدث في بنت مريم استثنائية، حيث لا أب ولا أم لها، وعم
كفيف يموت هو الآخر. وبالتالي، إثبات الكاتب أن هذه الظاهرة منتشرة بكثرة
كان يحتم عليه أن يختار بيئة يكون فيه تكرار الحدث ممكنا ببساطة.
تقنية
المونتاج التي اعتمدت على الظهور والتلاشي في الانتقال بين المشاهد كان
يمكن أن تكون أكثر ملاءمة لو أن مدة المشاهد طويلة، لكن في المشاهد القصيرة
في الفيلم استخدم بشكل مفرط تقنية الظهور والتلاشي لمشاهد الفيلم رغم أنه
خيار تقني غير حتمي باعتبار أن الانتقال لم يكن يقابله تحول في بيئة
المشهد، مثلا من أمام المنزل ثم قطع ثم تظهر الفتاة داخل المنزل دون تغير
لافت في البيئة، بينما جاء توظيفه جيدا في مشاهد الانتقال من حالة الطقس
المستقر للحدث إلى حالة المطر الغزير او من حالة الحزن إلى السعادة.
هذا
الفيلم يضع السينما الاماراتية على طريق نجاح متميز عن السينما العربية
التي تكون أسيرة الحوارات الشفهية ويقربها من نموذج السينما الايرانية، لكن
السؤال هل سينجح جيل المخرجين الشباب الذي يعتبر سالمين أحدهم في تقديم
أفلام طويلة غنية بالمشاهد الرمزية الناطقة والتخلص من عبء النصوص الحوارية
الطويلة؟ سؤال ربما ستجيب عنه الأفلام الطويلة التي بدأ العديد من المخرجين
العمل عليها.
ندوة
سينمائية عقب العرض
استضاف
اتحاد كتاب وأدباء الإمارات بأبوظبي أول أمس المخرج السينمائي سعيد سالمين
المري في ندوة مفتوحة مع الجمهور تخللها أول عرض جماهيري لفيلمه القصير
“بنت مريم” في المسرح الوطني. قدم الندوة الكاتب محمد الجشي وحضرها العديد
من الإعلاميين والنقاد ومحبي السينما. وأكد سالمين أن الأفلام القصيرة
الإماراتية تشكل حالياً قاعدة غنية تسمح بالانتقال للسينما الروائية
الطويلة، ووعد
جمهوره
بتقديم فيلم طويل يعمل على وضع لمساته الأولى حالياً.
وحول
الصعوبات التي واجهته في “بنت مريم”، أوضح المخرج الإماراتي أنه قام
بمراجعة السيناريو مع الكاتب لمدة أربعة أشهر، بينما لم يواجه صعوبات كبيرة
في تنفيذ العمل. وحول ما إذا كان موضوع الفيلم “الزواج المبكر” يشوه صورة
المجتمع العربي في الغرب، أجاب سالمين أن هذه المشكلات موجودة ولا يجب
إخفاؤها، والغرب أيضا يطرح مشكلاته في السينما ولا يخفيها، وأضاف أنه في
مهرجان روتردام في هولندا طلب منه العديد من النقاد وجمهور السينما شرح قصة
الفيلم لهم على لسانه، لكن أحداً منهم لم يسأل ما إذا كان هذا ما يحدث في
مجتمعنا.
والفيلم
حاصل على العديد من الجوائز، منها جائزة الفيلم العربي في مهرجان روتردام
الهولندية، وجائزة ثاني أفضل فيلم في مهرجان الخليج السينمائي الذي عقد في
دبي في أبريل الماضي، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان دبي السينمائي
الأخير. والفيلم من تمويل مؤسسة الإمارات ضمن برنامجها “منح الفنون” وتم
تصويره في الجزيرة الحمراء في رأس الخيمة، ومدته 27 دقيقة.
الخليج الإماراتية في
31 ديسمبر 2008
أشاد بأداء
نيفين ماضي
سعيد
سالمين: الجمهور والنقاد قرروا نجاح
الفيلم
في حديث
خاص ل “الخليج” أكد سالمين أن الفيلم الناجح لا يحتاج إلى تسويق مسبق
وإعلانات ترويجية، ويظهر نجاحه عند أول عرض له وهذا ما حدث أثناء عرض فيلم
“بنت مريم” في مهرجان الخليج السينمائي فالنقاد والجمهور هم الذين قرروا
نجاح فيلمي.
وعن رؤيته
للجيل الجديد من المخرجين، عبر سالمين عن قلقه من عدم ظهور جيل آخر من
المخرجين بعد الجيل الذي يمثله حالياً، واستشهد بأفلام طلبة المدارس
والجامعات الذين يظهرون ثم يختفون بمجرد تخرجهم من الجامعة.
ولم يخف
مخرج “بنت مريم” إعجابه الشديد بالسينما الروسية والإيرانية، لأن هذه
الأفلام تقدم رؤية فنية، والسينما الإيرانية هي قريبة جدا من بيئة الخليج
العربي، وهي سينما تعتمد على قوة الفكرة دون توظيف الإثارة للتغطية على ضعف
الفكرة، من هذا المنطلق أقول إن السينما الإيرانية نظيفة مثل السينما
الخليجية. وبما أن بعض الدراما الخليجية بدأت بالخروج عن هذا الطريق فلا
أريد أن يصل الأمر إلى السينما الخليجية.
وعن كيفية
تأهيل الأطفال لتمثيل ادوار البطولة، قال: الفتى حسين محمود شارك في أعمال
سابقة، أما نيفين ماضي فتشارك للمرة الأولى، وتعاملت معها كأختي الصغيرة،
وواظبت على تدريبها ووعدتها بأن نجاحها سينطلق من “بنت مريم”، وفعلا حصلت
نيفين على العديد من الجوائز، والعائلة كانت متفهمة وساعدوني، وهي سورية
الأصل لكنها من مواليد الامارات. واعتبر أنها أبرز شخصية ساهمت في نجاح
الفيلم.
وعن سبب
عدم تقديم فيلم طويل رغم قابلية الفكرة لذلك، أكد أن الفيلم الطويل يحتاج
إلى إمكانيات كبيرة، وأضاف: فكرة الفيلم التي في ذهني كانت مرسومة لتكون
فيلما قصيرا، وعلى هذا الأساس عملت على تنفيذها. لكنه أوضح أنه تمنى لو أن
الفيلم كان طويلا بعد أن حصد العديد من الجوائز، وأكد أن الفيلم تم اقتطاع
ثماني دقائق منه، وهي مشاهد إضافية لم يؤثر حذفها في الفيلم. وأضاف: تجربة
“بنت مريم” أكدت قدرتنا على إنجاز فيلم طويل ناجح. وعن فيلمه الطويل
القادم، لم يكشف سالمين سوى عن أن نيفين ماضي ستكون مشاركة فيه.
الخليج الإماراتية في
31 ديسمبر 2008 |