النقد
السينمائي بشكل عام موجه للجمهور، أو بالأحرى، للجماهير العديدة، فالسينما
فن جماهيري يؤثر في الناس أجمعين، يثيرهم، يمتعهم، يرعبهم، يضحكهم، يحزنهم،
يؤثر في سلوكياتهم ووعيهم، سلبا أو إيجابا، وقد يجعلهم عاطفيين حالمين،
لكن، إذا
كان النقد موجهاً للجماهير فهل ثمة علاقة متبادلة بينه وبينهم، فيهتموا به
كما يهتم بهم؟ وهل يؤثر النقد السينمائي في جماهير الناس كما تؤثر فيهم
الأفلام التي ينقدها النقاد؟ وهناك أيضا سؤال ثالث: هل يستطيع النقد أن
يلعب دورا مفيدا، إن لم نقل تنويريا، في حياة وعواطف ووعي جماهير الأفلام،
في حال أنه يمارس وظيفته وحيدا دون قوى وجهات مساعدة داعمة؟
تعنى هذه
الأسئلة تحديدا بأحوال النقد السينمائي في علاقته بالجماهير في الوطن
العربي، على مدى عقود طويلة تبدأ من أول عرض سينمائي عام وتستمر إلى مشارف
الربع الأخير من القرن العشرين، كان طرح مثل هذه الأسئلة لا يجد ما يبرره،
فقد ظل النقد السينمائي، خاصة نقد الأفلام، يلعب دورا تنويريا بالنسبة
لمحبي الأفلام، خلال تلك الفترة الطويلة كانت الأفلام تعرض في دور السينما،
وكانت وسائل الإعلام المكتوبة في معظم الدول العربية لا تزال معنية بإفراد
حيز معقول للنقد السينمائي، خاصة الجاد منه.
مع بدء
الربع الأخير من القرن العشرين وما حدث فيه من تطورات متلاحقة في مجال البث
التلفزيوني، الأرضي أولا، ثم الفضائي لاحقا، ازداد حجم عرض الأفلام
السينمائية تلفزيونيا إلى حد كبير، بحيث صار الناس يشاهدون الأفلام في
بيوتهم، واستفحل الأمر مع إمكانية اقتناء الأفلام المنسوخة للعرض المنزلي،
وصارت عملية مشاهدة الأفلام مجرد تمضية وقت ممتعة، لا تداعيات ثقافية
تنويرية لها، فصار نقد الأفلام فائضا عن الحاجة ونوعا من لزوم ما لا يلزم،
تزامن ذلك مع خفوت الاهتمام بالنقد السينمائي في وسائل الإعلام المكتوبة
وتقليص المساحات المفردة له وتفضيل السطحي الإعلامي منه على النقدي
التحليلي الجاد.
مع انتشار
الفضائيات وتخصيص العديد منها لبث الأفلام السينمائية التي تغلب عليها
الأفلام الأمريكية، ظهر بديل جديد عن النقد السينمائي موجه للجمهور العريض،
هو نوع مختلف من الترويج للأفلام مناسب للبث التلفزيوني يعتمد على الإعلان
عن أفضل عشرة أفلام في شبابيك التذاكر الأمريكية، وتركز المعلومات على حجم
الربح الذي تحقق في الأسبوع الأول من عرض كل فيلم متمثلا في أرقام خيالية
يسيل لعاب المتفرجين عند الإعلان عنها، وعلى جوائز الأوسكار المتنوعة التي
حصل عليها سواء الفيلم أو بعض من عملوا فيه وخاصة نجومه (جميع الممثلين
والممثلات بالنسبة لمقدمي هذا البرنامج على اختلاف مواقع محطاتهم، نجوم
شئنا أم أبينا).
يمارس هذا
البرنامج الغث السطحي المضلل والمتكرر بأشكال مختلفة في الكثير من المحطات
تأثيرا كبيرا جدا على المشاهدين يفوق بأضعاف مضاعفة ما يمكن للنقد
السينمائي الجاد أن يحققه، ولا يعود الفضل في هذا للبرنامج وحده، بل للقوى
المساندة المتعددة العناصر، بدأ من البث المتلاحق المتكرر لهذه الأفلام في
العديد من محطات البث والمعلن عنها بأوصاف ومدائح مبالغ فيها، مرورا
بالبرامج الإخبارية والترفيهية وبرامج الحوار المباشر، المرتبطة كلها
بالترويج لهذه الأفلام ونجومها، وصولا إلى مساندة لوجستية من وسائل الإعلام
التقليدية وشركات تصنيع والترويج لمواد واكسسوارات مستخدمة في الأفلام.
مع هذا،
لم يستسلم النقد السينمائي وظل يجاهد كي لا يرفع الراية البيضاء، متجاهلا
واقع تقلص المساحة المتاحة له والهوة التي بدأت تزداد تعمقا بينه وبين
جماهير مشاهدي الأفلام ومتجاهلا أنه فقد الكثير من أسلحته، غير أن هذا
العناد وحده لا يكفي، فثمة حاجة ملحة لإعادة النظر في طبيعة النقد
السينمائي وتوجهاته.
ما هو
المطلوب من النقد السينمائي الآن لكي يستعيد دوره التنويري؟ المطلوب هو أن
يحول اتجاهه وأن يقلص اهتمامه بالأفلام بحد ذاتها ليركز على فن السينما
والتعريف بوسائله الإبداعية سواء عبر المقالات ذات الطابع النظري أو التي
تثير قضايا تتعلق بالسينما والمجتمع، ووضع المعالجة النقدية ضمن إطار نظري
أشمل يحول دون توجه النقد نحو فيلم معين، مطلوب من النقد أن يطور علاقة
ثقافية بين السينما والناس وليس فقط بين الأفلام والناس، بهذا يعود النقد
إلى أصوله التي تأسس عليها منذ بدء السينما وقامت عليها أمجاده وكانت له من
خلالها فائدة جمة ليس فقط في مجال نشر الثقافة السينمائية في أرجاء العالم
بين أوساط المشاهدين، بل خاصة في مساعدة فناني السينما في اكتشاف وتطوير
آفاق فنهم.
الخليج الإماراتية في
27 ديسمبر 2008 |