ماذا يريد
نور الدين لخماري قوله في فيلم “كازانكرا”؟ أية دوافع كانت تحركه وهو يقبل
على كتابة سيناريو قصة مدينة قاسية، وهو في مرحلة لاحقة يقوم بتحويله إلى
عمل سينمائي؟ هل توقف من يعتبره نقاد السينما أحد جماعة الموجة الجديدة في
السينما المغربية؟ أم أنه كان نفعيا حين جعل حوار فيلمه يهوي إلى لغة
القاع.. هنا مقاربة لفيلم العرض الأول.
خرج
الجمهور الذي حضر العرض الأول لفيلم نور الدين لخماري “كازانكرا” بميكاراما
في الدار البيضاء صامتا، ولم تخل التعليقات من حيرة ودهشة تلقي عمل صادم
حول مدينة الدار البيضاء، في لغة سينمائية معتمة كثفت الحس السوداوي الذي
حاول الفيلم بلوغ سقفه الأعلى، وتحقق للخماري ذلك حينما “كشط” البيضاء من
أكثر من 5 ملايين من سكانها وخزنهم في شققها قليلة الإضاءة، ليحقق رؤيته
السينمائية، يمكن أن نقول عنها إنها رؤية المخرج الديكتاتور، الذي يريد أن
يجعل كل شيء يتحقق وفي شكله المثالي الأعلى، وربما في شكله الأفلاطوني، حتى
ولو كان هذا الشيء هو الشر المطلق، فوراء البحث الخير المطلق والشر المطلق
إقصاء للطيف الواسع من الناس الذين لا يحملون رؤية جاهزة عن المكان ولا عن
المدن الكبيرة، التي توصف دائما في التعبيرات الجاهزة بكونها “طاحونة”، لكن
هذه الطاحونة نفسها هي التي تنقذ من خواء القرى ومن ضيق الأفق، وهي التي
تحمل بين أحشائها المخاضات الكبرى للتحولات الاجتماعية.
ووفر
لخماري على هذا المستوى كافة الظروف الجيدة ليفقس بيض اليأس في “الدار
الكحلة” وهو اسم الدار البيضاء على لسان الطبقات الفقيرة في هذه المدينة
التي كانت إلى وقت قريب في مغرب الستينات والسبعينات رمز الامتياز والتمدن،
وعلامة على المغرب الجديد الذي كان مأمولا أن يتحقق، لكن الانتكاسة
الاجتماعية التي حصلت بعد ذلك ستحول هذا المغرب إلى مقلاة وآلة عظيمة لشوي
الجلود البشرية في الشارع وفي المعمل، وإلى مكان للإهانة.
لا يجنح
لخماري في لغته السينمائية إلى لغة سينمائية حالمة، وقد أتاح له كادر
التصوير والتقاط الزوايا، وتقنيات بناء اللقطة وتوليف المشهد أن يستخدم بكل
حرية الكليشيهات المعروفة في اللغة السينمائية من ترافلينغ إلى الأمام وإلى
الخلف في مشاهد الحركة، ومن تصوير من فوق وتصوير من تحت ومشاهد بانورامية،
ساهمت بشكل كبير في إغناء “السرد السينمائي” وقلصت من هامش الحوار لمصلحة
أداء حركي، عمل على تشريح الشخصيات وتقديمها بشكل جيد من الداخل.
في الفضاء
الليلي تعيش حكاية الدار البيضاء، أو ما يفترض أنها الحكاية السرية أو
الأخرى أو الخادشة للكرامة الإنسانية، ولأنها كذلك حكاية حريفة كان لابد من
أن تكون منسجمة في حواراتها مع هذا العالم الخلفي، الليلي، مما جعل لغة
الحوار ونتيجة للحماسة الزائدة تنفلت من عقالها وتنحدر إلى لغة أكثر غلوا
في انحدارها، وكأنه كان لزاما للتعبير على الهامش الاجتماعي التذرع بلغة في
درجة الصفر، وكأن هذا الهامش الاجتماعي لا ينتج إلا المتسكعين والمخبولين
وبائعي سجائر التقسيط والعنف الزوجي، وأنه ما من أمل أمام طبقة القاع
الاجتماعي إلا الرضوخ للأمر الواقع، والانخراط في لعبة الهامش التي لا
تنتهي “الفقير يزداد فقرا والغني يزداد غنى” أي السير إلى نوع من “الاصطفاء
الاجتماعي” الذي طرحته الممارسة البشرية في مسارها المظلم.
لا مفر من
القول إن الحكاية التي تقوم عليها حبكة الفيلم، هي حكاية من التبسيطية
الشديدة حد السذاجة، غير مقنعة بسبب فراغ خطوطها الدرامية، وأيضا في عجزها
عن تقديم رؤيا معالجة سينمائية لقضية العيش في المدينة الكبيرة، في حين
كانت الحكايات الجانبية هامشية ولم تؤد الدور المأمول منها في إغناء
الحكاية الأصلية، ربما هذا راجع بدرجة ما إلى ضعف في السيناريو لم يتم
الانتباه إليه أو إلى غزل الحكاية الأصلية في إطار ضيق، حتى ان منطق
النهاية لم يكن موقفا.
وفي جملة
واحدة فإن لخماري أفلح في خلق عالمه البيضاوي في ستة أيام. يكتب لخماري نصا
بصريا هجائيا في الدار البيضاء، وكأنه يحرضنا على الرحيل منها، وهو قد فعل
هذا مباشرة حين ركز في مشاهد التصوير على المعمار الكولونيالي المتسخ وعلى
قمامة المدينة وقذارتها وعلى القسوة التي تهيمن على العلاقات الاجتماعية،
والبؤس الذي يعشش في الأمكنة وفي النفوس، بدءا من حالة الشاب الذي لعب دوره
عمر لطفي، الذي تتعرض والدته للضرب يوميا على يد زوجها “إدريس الروخ” وحالة
الشاب الرومانسي، الذي لعب دوره عمر الباز، الذي يعيش في أسرة أكثر
استقرارا من أسرة صديقه، لكنه يعيش مأساة والده الكسيح الذي كان عاملا في
معمل السمك الذي يملكه الحاج الذي لعب دوره الراحل حسن الصقلي، والمافيوزي:
زريريق الذي لعب دوره باقتدار محمد بن براهيم، الذي يعمل بلطجيا في ليل
الدار البيضاء ويعيش من أعمال مشبوهة، ويقضي ليله في ملهى “توفا بيان”
باسطا سلطته على رواد الحانة، فهو خليل “البارميط” البيضاوية، القاسية وغير
المتسامحة، ثم هناك الفرنسي الذي يسكن في فيلته في الحي الراقي، بالإضافة
إلى كومبارس من مجانين الدرب ومن النصابين الذين يعيشون من أعمال وهمية،
فيما تحتذي الطفولة حذو الكبار عديمي المستقبل في السير على سكة الإفلاس.
لا أمل في
الفيلم، إلا الأمل الذي تحمله التلميذة المجدة، بانكبابها على دراستها.
غير أن
الدار البيضاء هي أكبر من “واقعية” لخماري، تلك الواقعية السحرية، البعيدة
عن واقع الحياة اليومية في مدينة تعاش فيها الحياة بشكل آخر، وفيها من
الجزر ما فيها، لأنه مهما كان اختيار الشابين في الانضمام بوعي أو من دون
وعي إلى شبكة زريريق، فإنه اختيار فني سهل من قبل المخرج وكاتب السيناريو
نور الدين لخماري، في الوقت الذي كان عليه أن ينتبه جيدا إلى “تحبيك” قصة
الفيلم، مثلما تفوق على المستوى التقني، صوتا صورة، وذاك هو كعب لخماري
الذي لا يعلى عليه، ولكنه لا يكفي للسير بخطوات رشيقة ومتوازنة.
سنرى ما
ستقوله القاعات السينمائية، فلها أيضا جوابها.
الخليج الإماراتية في
27 ديسمبر 2008 |