ما الذي أرادت أن تقوله المخرجة المصرية تهاني راشد عبر 105 دقائق في
فيلمها الوثائقي «جيران»، والذي عرض ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية لمهرجان
الشرق الوسط السينمائي في دورته الأخيرة التي انتهت منذ أيام.
هل هو محاولة نبش في تاريخ أشهر حي أرستقراطي مصري اسمه «جاردن سيتي»، أم
رصد لمكان تحول البطل فيه «السفارة الأميركية» التي أصبحت قلعة حربية بما
صنعته من حواجز إسمنتية لحمايتها، وما يتعرض له سكان هذا الحي من الإجراءات
الأمنية التي يرونها مبالغا فيها حتى أنها جعلت العصافير تكف عن التغريد في
موقع كان يسكنه الباشاوات أصحاب الجاه والسلطان والمنزلة الرفيعة. رصدت
تهاني راشد التي ولدت في القاهرة عام 1947 وعاشت في كندا والمقيمة في
أميركا خلال فيلمها الوثائقي كيف كان حي جاردن سيتي هو الأرقى في مصر قبل
ثورة 23 يوليو 1952 التي أنهت النظام الملكي والاحتلال البريطاني للبلاد.
وكان سكان الحي من الأجانب وصفوة الطبقة العليا من المصريين الذين كانوا
يجنبون أبناءهم الاقتراب من شارع قصر العيني وهو الحد الغربي للحي حتى لا
يختلطوا بالشعب الذي كانوا يرونه (من النافذة أو من السيارة) على حد قول
بعضهم في الفيلم. ويضم الحي حاليا سفارات بريطانيا والولايات المتحدة وكندا
وغيرها، ومنذ سنوات زادت أعداد قوات الشرطة وعناصر أمن الدولة في الشوارع
المؤدية للسفارة الأميركية، كما وضعت بوابات حديدية دفعت البعض لتشبيه
الحي( بقطاع غزة)، أو العراق الذي استباحه الأميركان تماما مثلما استباحوا
حي جاردن سيتي وحولوه إلى أسوار وحواجز مرعبة أدت إلى ركود في المحال
الواقعة في المكان حتى أن بعضهم ماتوا كمدا بعد تراكم الديون، وجاء صمت
القصور وكأنه رسالة تحذير للسفارة الأميركية وما أحدثته من تغييرات في كل
شيء.
«جيران» اسم له دلالته وله تأثيره على المشاهد عندما يتابع أولئك الجيران
المتنافرون يتحدثون عن بقعة جغرافية في قلب القاهرة، صنعت لنفسها تاريخا
طويلا، امتد من زمن الأبيض والأسود إلى زمن الألوان، مرورا بعصر تاهت فيه
الألوان واختلط الحابل بالنابل، واختفت القصور وسط عشوائيات المباني
والشوارع الضيقة والأشجار التي تحول خضارها إلى سواد، وجمع الحي في تاريخه
الحديث كل المتناقضات لتبقى الشهادات التي يرويها الأحفاد مجرد ذكريات،
تماما كما نشاهد حاليا أفلام زمان وتأخذنا الحصرة على عصر «سيدة القصر»
فاتن حمامه وعمر الشريف واستيفان روستي وإسماعيل ياسين وعبد السلام
النابلسي، وعبد الوهاب بموسيقاه الساحرة التي تشير إلى عبق التاريخ،
وارستقراطية لا تزال ماثلة في بعض الجدران ونبرة صوت من عاشوا هذا الزمان.
تغييرات كثيرة تابعتها بذكاء كاميرا المصورة نانسي عبد الفتاح، ناقلة عبر
حكايات - ابن الباشاوات، وبواب العمارة، وبائعة الخضار، وسليلة الأسر
العريقة، والمثقف الشيوعي، وضابط الشرطة، والأستاذ الجامعي، والطبيب صاحب
الروايات الشهيرة ـ الخوف من الجيران الأميركيين، وخلطت المخرجة في براعة
بين الأرستقراطية والبساطة وبحث الفقراء عن لقمة العيش، وناقشت بفهم ووعي
السياسة والفن والاجتماع ومفهوم العدل والحرية من منظور رجل الشارع العادي
الذي يلهث وراء تأمين احتياجاته في ظل أزمات كثيرة تلاحقه وتحاصره، ومنها
سيطرة الفكر الديني على مفردات وعناصر الحياة اليومية.
يأخذنا الفيلم في رحلة صراع عبر الفلل المهجورة والصالونات الفخمة،
والسفارات الأجنبية والتجارات المهددة وغرف المعيشة المقامة فوق أسطح
الأبنية، حيث تتحول المساكن إلى شهود تحكي عن الاضطرابات والتحولات
التاريخية، وتروي الأبنية وقاطنوها قصة أمل وتمزق وقوة تحمل. وبعيدا عن أي
نمطية أو انحياز، تتكشف لمحات من الحقيقة، صورة رمزية لمصر المعاصرة، ودعوة
إلى التأمل في الهاجس الأمني في عالمنا اليوم.
ويأتي فيلم «جيران» الوثائقي كنموذج للأفلام التي تسجل معاناة المصري في
بلده فتقول مخرجته التي كتبت له السيناريو مع منى أسعد، «هناك مسؤولون في
وسائل الإعلام يخافون أن نفكر بأنفسنا، أو أن نعبر عن آرائنا، ونحدد
بأنفسنا ما يناسبنا، وما لا يناسبنا، ويسعون إلى أن نظل نردد الأفكار التي
تعلمناها منذ سنوات طفولتنا، من دون أن نتجرأ في يوم لنقول للمدرس الذي
لقننا ما تعلمناه أنه أخطأ في بعض الأمور».
وأشارت إلى أن أمثال هؤلاء المسؤولين يرفضون دائما تقديم الأعمال التي تدعو
الناس للتفكير، ويصرون على تقديم أفلام تقليدية، أسهمت هي وصناعها في توسيع
الفجوة بين المشاهد العربي والفيلم الوثائقي، معتبرة الأفلام الوثائقية
الجيدة لا تكتب، بل تأتي هدايا من الله، عبر حكايات ومصادفات أحيانا غير
متوقعة.
الفيلم: جيران
إخراج: تهاني راشد
إنتاج: كريم جمال الدين
سيناريو: منى أسعد وتهاني راشد
مدير تصوير: نانسي عبد الفتاح
مونتاج: محمد سمير
موسيقى: تامر كروان
البيان الإماراتية في
30/10/2009 |