في الوقت الذي تكرر فيه عرض عدد محدود من الأفلام التي تتناول حرب
أكتوبر من الوفاء العظيم
وبدور إلي الرصاصة لا تزال في جيبي والعمر لحظة
قطعت السينما العالمية -
وخاصة الأمريكية والأوروبية بعدها
- أشواطاً واسعة
في تمجيد حروبها، وتخليد بطولات جنودها، ورفع أعلامها علي الشاشة الكبيرة من
خلال حكايات وقصص إنسانية،
بعضها حدث بالفعل، والآخر تخيله كتاب السيناريوهات
وقد خرجت معظم هذه الأعمال في صورة شديدة الإبهار تستفيد من
القفزة التقنية في
الخدع والماكياج والمؤثرات الصوتية والبصرية.
لا أريد التقليل من جهود الذين
قدموا أفلاماً حربية مصرية سواء عن حرب
أكتوبر مباشرة، أو عن سنوات حرب
الاستنزاف كما شاهدت في فيلمي الطريق إلي إيلات للمخرجة إنعام محمد علي أو
فيلم يوم الكرامة
عن تدمير المدمرة إيلات للمخرج
علي عبد الخالق
هذا هو
جهدهم واجتهادهم، ولكن الظروف الآن مهيأة -
في رأيي -
أكثر من أي وقت مضي لكي
تشترك الكيانات الإنتاجية الكبيرة في تقديم عمل ضخم علي أعلي درجات
الاحتراف يتناول
جانباً واحداً من حرب أكتوبر وليكن اليوم الأول، أو حتي يوم
8 أكتوبر كما
في السيناريو الذي كتبه السيناريست فايز
غالي
ولم يتم إنتاجه، أو حتي
تفاصيل يوم الخامس من أكتوبر الذي يحتوي علي جوانب درامية مذهلة خوفاً من
اكتشاف
ساعة الصفر، أو حكاية العمود المذهل في موقع كبريت، اتصور أن الاشتراك بين أكثر
من كيان وبدعم صريح من وزارة الثقافة يمكن أن يقدم لنا عملاً
لا ينسي، ويقلل
أيضاً من هامش المخاطرة والمغامرة،
ولدينا اليوم مخرجون يستطيعون أن يقدموا
صورة رائعة، كما أن لدينا عدداً كبيراً
من الممثلين من كل الأعمار الذين يمكن
أن يشاركوا بأدوار مختلفة في الفيلم المنشود كما فعل معظم نجوم فرنسا في
الفيلم
المعروف هل تحترق باريس؟!
لا أعتقد انني اتحدث عن خيال فقط إذا كانت هناك إرادة
لدي المبدعين لتنفيذ هذا الحلم.
لابد أن تكون التجربة الأمريكية أمامنا
إذا اخذنا حكاية فيلم عن حرب أكتوبر بجدية، فقد قدموا عشرات الأفلام عن كل
معاركهم تقريباً، من الحرب الأهلية التي انطبعت أحداثها في الذاكرة، من
خلال
كلاسيكيات شهيرة مثل مولد أمة لرائد السينما الكبير ديفيد ورك جيرفيث ومثل
الفيلم الطويل المؤثر
ذهب مع الريح، وأخذت حرب ڤيتنام مساحة واسعة جداً في
إطار الفيلم الحربي الأمريكي، واتيحت الفرصة لكل الاتجاهات لكي تقدم عنها
أفلاماً مع الحرب وضد الحرب، ولكن في الحالتين ستجد تمجيداً
لا حد له للجندي
الأمريكي، وتعاطفاً كبيراً مع المقاتلين سواء كانوا ضحايا أم أبطالاً
مغامرين، وستجد أيضاً غياباً واضحاً للجانب الفيتنامي وكأن الأمريكيين
كانوا يحاربون أشباحاً،
وقدمت السينما الأمريكية أفلاماً
كثيرة عن الحرب
العالمية الثانية، ودور جنود الحلفاء وخصوصاً
القوات الأمريكية في انقاذ أهم
البلدان الأوروبية،ستجد ذلك واضحاً في أفلام شهيرة مثل أطول يوم في التاريخ
وفيلم مدافع نافرون ذلك وستجد قصصاً إنسانية، تم ابرازها كما في
فيلم
انقاذ الجندي رايان الذي اخرجه ستيفن سبيلبرج وساهمت السينما الأوروبية
أيضاً في تقديم تفصيلات من هذه الحرب المدمرة بما فيها
أدوار الجنود الوافدين في
المعارك مثل فيلم بلديون
الذي أبرز دور الجنود الجزائريين في انقاذ فرنسا،
وعدم الاهتمام بما قدموه من خدمات بعد الحرب.
كل حرب أو معركة سجلتها
هوليود بما في ذلك مشاركة القوات الأمريكية في قوات السلام في البوسنة، بل
أن
هناك فيلماً يتخيل بطولة أحد جنود هذه القوات هو خلف خطوط العدو
بطولة جين
هاكمان وكليف أوين وقدمت أيضًا أفلام أمريكية عن حرب أمريكا ضد الإرهابيين،
حيث تم تصدير بطل خارق يقهر الإرهاب بمفرده تقريبًا،
ويعتبر أي خسارة في أرواح
بعض المدنيين خسارة جانبية، وهو بالمناسبة عنوان فيلم قام ببطولته أرنولد
شوارزينجر وظهرت أفلام تتحدث أيضًا عن القوات الأمريكية
التي أرسلت في عهد
الرئيس بيل كلينتون إلي الصومال مثل فيلم سقوط الصقور السوداء، وهو عمل
كبير أخرجه ريدلي سكوت،
وموضوعه فشل إحدي عمليات الجيش الأمريكي لأسر الزعيم
المتمرد الصومالي
فرح عيديد، وقد انتهت المحاولة بمقتل 19
جنديا أمريكيا
يمجِّدهم الفيلم،
ويمجد محاولة إنقاذ عدد آخر من الجنود من الوقوع في نفس مصير
زملائهم القتلي،
ويبدو أسف صناع الفيلم علي ضحاياهم القلائل أكثر بكثير من أسفهم
علي عشرات القتلي الصوماليين الذين نراهم وهم يموتون بكل سهولة.
حتي حرب
العراق، ومشاركة أمريكا فيها قدمت بسرعة من خلال أفلام تأخذ أيضًا الجوانب
الإنسانية مثل فيلم
في وادي إيلاه الذي يدور حول أب يتم إبلاغه بخبر اختفاء
ابنه من وحدته القادمة من العراق، ويبدأ هو رحلة بحث طويلة يكتشف أن ما حدث في
العراق يعادل ما حدث في ڤيتنام، وإن هؤلاء الشباب الذين تحولوا إلي وحوش يقتلون
ويتعاطون المخدرات هم في الحقيقة ضحايا لقرارات سياسية خاطئة.
الأمريكان
لم يكتفوا فقط بمجرد لحظات إنسانية عابرة،
ولكنهم قدموا أفلامًا تفصيلية عن معارك
يريدون تخليدها، دعوني أحدثكم عن فيلم أمريكي عرض منذ سنوات في القاهرة
بعنوان
كنا جنودًا من بطولة النجم
ميل جيبسون، الفيلم يتحدث عن وقائع معركة
حقيقية حدثت في فيتنام بزعامة قائد أمريكي شجاع،
ويبدو فيها القائد المتدين كما
لو كان يمارس طقوسا في مهمة مقدسة،
ولا يوجد أي تفسير سياسي من أي نوع لأسباب
ذهاب هؤلاء الجنود في مهمة بعيدًا عن وطنهم بمسافة آلاف الأميال، كما يظهر
الجنود
الفيتناميون وقائدهم في حالة مزرية، حيث يعيشون في أنفاق تحت الأرض،
وقائدهم
يختبئ تحت الأرض، بينما يقود القائد الأمريكي العمليات بنفسه وسط جنوده
تماما كما
كان يفعل جيبسون في فيلمه الأشهر
قلب شجاع.
حتي الأفلام التي أدانت حرب
فيتنام وتورط أمريكا فيها مثل رائعة فرانسيس فورد كوبولا (سفر الرؤية الآن)
الذي ظهر فيه مارلون براندو
لدقائق قليلة، ومثل فيلم مولود في الرابع من
يوليو بطولة
توم كروز، حتي هذه الأفلام تخرج منها وأنت مستاء من السياسيين
الذين دفعوا بالشباب الأمريكي إلي الحرب،
أما الجنود أنفسهم فهم يثيرون التعاطف
لأنهم يعيشون صراعًا مستمرًا بين تنفيذ الأوامر العسكرية ورفض المشاركة في
حروب لا
يقتنعون بأسبابها، كما أن حياتهم النفسية والاجتماعية تتحطم أمامنا مما
يجعلهم
أكثر إثارة للشفقة والتعاطف.
لقد استفادت السينما الإسرائيلية من
المعالجات الهوليودية لحروب أمريكا، وأنتجوا هم أيضًا عدة أفلام حققت جوائز
عالمية عن معارك إسرائيل مثل فيلم الرقص مع بشير ولبنان
الذي حقق الجائزة
الكبري في مهرجان فينيسيا الأخير،
ويبدو أنهم يعتمدون أيضًا علي اللعب علي
الجوانب الإنسانية وفكرة كراهية الحروب، ثم يعتمدون علي تجارب واقعية في الحرب مع
الضغط علي فكرة الدمار النفسي الذي تخلفه الحروب في البشر،
وقبل كل ذلك يتم إتقان
كل العناصر التقنية لأنك تقدم في النهاية عملاً
فنيا وليس منشورًا دعائيا،
التوليفة - كما ترون - ليست صعبة ولكنها -
للحقيقة -
تحتاج درجة عالية من
الاحتراف والذكاء والقدرة علي مخاطبة الآخر.
والتلاعب بالمشاعر والمزج بين ما هو
خاص وبين ما هو عام وإنساني.
لم تستطع السينما المصرية أن تقدم افلاما
روائية طويلة تعطي ما حدث في أكتوبر حقه، وإن كانت السينما التسجيلية أكثر نجاحًا
في تقديم أعمال أكثر أهمية مثل أبطال من بلدنا الذي أخرجه الراحل
إبراهيم
راشد ومثل جيوش الشمس الفيلم الذي أخرجه الراحل الكبير
شادي عبد السلام
بل مازلت اذكر تلك الأفلام التليفزيونية القصيرة التي كنا
نشاهدها في سنوات
الطفولة في السبعينيات مثل فيلمي
الشرارة
ودرع وسيف ولكننا في انتظار افلام
أخري تستوعب تلك البطولات الحقيقية، وتقدم التحية لهؤلاء الشهداء بعيدا عن الصوت
العالي أو الدعاية المباشرة، نحلم بأفلام تعيش في الذاكرة وتقدم للجمهور في كل
الأوقات بسبب مستواها الفني الرفيع، لا نريد افلام مناسبات وإنما تجارب فنية
ناضجة تتعامل مع الحرب من خلال الإنسان وليس فقط من خلال
البنادق والمدافع
،
فقط علينا أن نبدأ وأن نجتهد، ولا أظن أن عمل فيلم عن تلك الحرب العظيمة سيكون
أصعب من الحرب نفسها ولا هو أكثر مغامرة من الذين ضحوا بأنفسهم من أجل
وطنهم علي
رمال سيناء.
روز اليوسف اليومية في
06/10/2009 |