إذا كان من الصعب القول ان ثمة أفلاماً كثيرة أُخذت عن روايات أو نصوص
أدبية
أخرى، من بين الأفلام المئة التي تعتبر - بإجماع النقاد والمؤرخين - أعظم
الأفلام
في تاريخ الفن السابع في العالم، فإن هذا القول لا يبدو بعيداً من الصواب
ان نحن
تحرينا تاريخ السينما المصرية في شكل عام وحاولنا معرفة أي هي
أفلامها المئة
الافضل. فمن «الأرض» ليوسف شاهين (المأخوذ عن رواية عبدالرحمن الشرقاوي)
الى «الحرام» لهنري بركات (عن رواية يوسف ادريس)
الى «بداية ونهاية» و «القاهرة 30»
المأخوذين عن روايتين لنجيب محفوظ، من اخراج صلاح أبو سيف، مروراً بعشرات
الأعمال
الكبيرة الأخرى في السينما المصرية، عرفت هذه السينما كيف تنهل من التراث
الرائع
والعريق للأدب الروائي والقصصي المصري. بل ثمة كتّاب كبار نُقل معظم
أعمالهم الى
الشاشة السينمائية (راجع في مكان آخر من هذه الصفحة). وثمة
كتّاب كتبوا مباشرة
للسينما، كما فعل نجيب محفوظ حين كتب «درب المهابيل» لتوفيق صالح، أو أمين
غراب حين
كتب «شباب امرأة» لصلاح أبو سيف، ثم حولها الى رواية منشورة.
نريد من هذا ان نقول، طبعاً، ان العلاقة بين السينما المصرية والأدب
الروائي
والقصصي في مصر، كانت على الدوام علاقة وثيقة... وهي لا تزال هكذا حتى
اليوم، على
رغم السقوط المدوي للسينما المصرية في أحضان الهزل وسينما المغامرات التي
من الصعب
تصور تحدرها من نصوص أدبية جدية. ولكن يكفي أن يقتبس وحيد حامد، على سبيل
المثال،
رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني، ليحقق مروان حامد
فيلماً سرعان ما يكون
الأبرز في مصر خلال السنوات الأخيرة.
والحقيقة أن علاقة الأدب بالسينما في مصر، بدأت باكراً، وربما قبل
البداية
الرسمية للإنتاج السينمائي المصري في فيلم «ليلى» لعزيزة أمير، إذ نعرف أن
بعض أهل
السينما فكر بأن يكون فيلم مقتبس عن رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل، أول
فيلم مصري
(علماً
أن مؤرخين كثراً يرون، خطأً أن «زينب» هي بدورها الرواية المصرية الأولى).
طبعاً تأخر ظهور «زينب» شهوراً قليلة عن
«ليلى»، فكان واحداً من أول الأفلام،
وبداية سعيدة لتحول أعمال أدبية مصرية كثيرة الى أفلام، وليس
فقط بالنسبة الى نصوص
كلاسيكية وواقعية حملت تواقيع كبار أدباء مصر، نصوصاً، وكبار مخرجيها،
تحقيقاً.
وهذا من دون أن نصل الى الحديث عن اقتباسات
مصرية (سعيدة أو غير سعيدة) لأمهات
الروايات والمسرحيات العالمية، حيث ان هذه حكاية أخرى... ونعرف
طبعاً في هذا السياق
أن كل أنواع الأدب المكتوب في مصر، عرفت طريقها الى الشاشة، بما في ذلك
النصوص
الأكثر تجريبية، مثل «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان («الكيت كات» لداود
عبدالسيد) أو «سارق الفرح» لعبد السيد نفسه، عن قصة لخيري
شلبي... والنصوص الأكثر صعوبة («الجبل»
لفتحي غانم في فيلم من توقيع خليل شوقي. وهذا الفيلم يحيلنا طبعاً الى شبيه
له،
جزئياً في موضوعه، هو تحفة شادي عبدالسلام الوحيدة - في مجال الفيلم
الروائي الطويل - «المومياء»، الذي يعتبره كثر مبنياً على
سيناريو أصلي، مع انه في حقيقته يجمع بين
رواية «الجبل» ونص علمي للمعماري الكبير حسن فتحي هو «العمارة
مع الشعب»، الذي كان
بدوره في أصل «الجبل»)، أو حتى النصوص الأكثر جرأة، سياسياً على الأقل، مثل «الكرنك» و«ميرامار» عن روايتين لنجيب محفوظ...
سينما لكل الأنواع
طبعاً لا يمكننا أن نورد لائحة كاملة بكل ما نقلته السينما المصرية عن
الأدب
المحلي، لكننا في المقابل قادرون على التأكيد ان هذا النقل يشمل الكتّاب
جميعاً، من
يحيى حقي («قنديل أم هاشم») الى طه حسين («دعاء الكروان» و «الوعد الحق» و
«الحب
الضائع»... الخ) وفتحي غانم («الرجل الذي فقد ظله»)... وصولاً
الى بهاء طاهر (المبدع
الذي إذا كانت السينما خسرت روايته الرائعة «خالتي صفية والدير» لمصلحة
التلفزيون، فإن فيلماً مقتبساً عن روايته «نقطة نور» هو الآن
قيد التحضير)، الى
ابراهيم أصلان ويوسف ادريس (الذي اقتبس في السينما مرات عدة، وما زالت
أعمال كثيرة
له، منها روايته الرائعة «البيضاء» تنتظر أفلمة ما...) وطبعاً يوسف السباعي
(الذي
كان كاتباً سينمائياً محترفاً، مدّ الإيديولوجية الناصرية
بأعمال كثيرة... ومع هذا
يظل أفضل اقتباس سينمائي لعمل من أعماله، فيلم «السقا مات» لصلاح أبو سيف)
من دون
أن ننسى محمد عبدالحليم عبدالله برومانسياته التي كادت تكون وقفاً على
المخرج أحمد
ضياء الدين، وسعد الدين وهبة الكاتب الذي مدّ السينما بأفلام
أخذت عن مسرحيات له
وأخرى عن قصص قصيرة، كما مدّها بعدد من أفضل السيناريوات. والحقيقة اننا،
هنا، في
مجال الحديث، عن كتّاب السيناريو في مصر، سيكون مفيداً أن نذكر أن عدداً
كبيراً من
أفضلهم انما جاء من الكتابة الأدبية، لا من معاهد السينما، إذ
نعرف أن وحيد حامد
كان اصلاً كاتباً للقصة القصيرة وكذلك حال مصطفى ذكري (صاحب «عفاريت
الإسفلت» بين
أعمال مميزة أخرى). وفي المقابل يُذكر بالخير الكاتب يحيى عزمي، الذي أتى
من دراسة
السينما في موسكو، ليكتب، عن قصتين مدموجتين ليحيى الطاهر
عبدالله واحداً من أفضل
السيناريوات المقتبسة عن عمل أدبي: «الطوق والأسورة» الذي حققه خيري بشارة.
ونحن إذا كنا ذكرنا في هذه العجالة، هذه الأسماء، نعرف أنها ليست كل
الأسماء،
حيث ندر - في الحقيقة - أن كان هناك كاتب مصري، على الأقل خلال النصف
الثاني من
القرن العشرين، لم يتدخل في مهنة الكتابة للسينما، وأحياناً في الكتابة
عنها (يحيى
حقي مثلاً، أو حتى صلاح عبدالصبور). غير أن ما يمكن رصده خلال
العقود الأخيرة هو
ذلك التضاؤل في وتيرة العلاقة بين النوعين الإبداعيين. وإذا كنا نعرف أن
فيلماً
لعلي بدرخان مأخوذاً عن قصة «أهل القمة» لنجيب محفوظ، شكل البداية الحقيقية
للنهضة
التي عرفت في ثمانينات القرن العشرين بـ «الواقعية الجديدة»
(محمد خان، خيري بشارة،
داود عبدالسيد، عاطف الطيب...)، فإننا نعرف أيضاً، ان انفتاح أصحاب هذا
التيار على
الواقع المصري المثير، غالباً، لغضبهم، جعلهم ينطلقون في أفلامهم من رؤى
صيغت
مباشرة للسينما، ما حرم السينما المصرية من مواصلة طريقها في
استلهام الأدب، ولا
سيما منه أدب الستينات الذي كان ثورة مدهشة في أشكال الفن الروائي في مصر
ومضامينه... وقد أدى هذا الى إبعاد كتّاب كثر عن السينما، بحيث
صارت من تراث الماضي
تلك الظروف التي، مثلاً، جعلت توفيق الحكيم يكتب لعبدالوهاب، مباشرة، نصاً
حُوِّل
الى ذلك الفيلم الظريف «رصاصة في القلب». ولكن، وكما ألمحنا، حين يحدث بين
الحين
والآخر أن يقتبس سينمائي واع نصاً أدبياً، غالباً ما يأتي
الفيلم مميزاً: «الحب في
هضبة الهرم» و «قلب الليل» لعاطف الطيب، «الكيت كات» لعبد السيد، على سبيل
المثال
لا الحصر... و «زيارة السيد الرئيس» لمنير راضي، عن رواية ليوسف القعيد...
...
وفي البلدان العربية
إذا كان كل كتّاب القصة والرواية، قد حضروا في السينما المصرية في شكل
أو في
آخر، فإن ليس في امكاننا ان نقول الشيء نفسه عن بقية البلدان العربية التي
عرفت، في
مرحلة أو أخرى، انتاجاً سينمائياً... إذ في سورية كما في لبنان، في المغرب
كما في
فلسطين والعراق وبلدان الخليج وفي الجزائر، ثمة عشرات - ان لم
يكن مئات - النصوص
الأدبية لا تزال تنتظر من ينقلها الى الشاشة الكبيرة (ولندع هنا الشاشة
الصغيرة
جانباً، التي كانت في معظم الحالات أكثر نشاطاً في هذا السياق)... ففي
سورية مثلاً،
حتى وان كان بعض نصوص حنا مينه، ونص أو أكثر لحيدر حيدر أو فيصل خرتش (صاحب
«تراب
الغرباء») قد عرفت طريقها الى الشاشة، فإن ثمة لمينه وغيره،
كذلك لكوليت خوري
وياسين رفاعية وحيدر حيدر وممدوح عزام وحتى عبدالسلام العجيلي، أعمالاً
كثيرة،
تنتظر أفلمة ما... ربما سيحين وقتها حين يتخفف السينمائيون السوريون من
الأعباء
الايديولوجية والرغبة في جعل ذواتهم موضوعاً للأفلام.
في لبنان، في المقابل، يكاد ينحصر الاقتباس السينمائي عن الأدب في
فيلمين
لافتين، أولهما حقق في سنوات الستين عن رواية «الأجنحة المتكسرة» لجبران
خليل جبران (الراحل يوسف المعلوف وهو مصري من أصول
لبنانية)، والثاني، تجربة بهيج حجيج في
أفلمة رواية مميزة لرشيد الضعيف هي «المستبد» تحت اسم «زنار
النار»... ولئن حلم
برهان علوية طويلاً بعلاقة لسينماه مع الأدب تتمثل في سيرة لجبران عن شبه -
رواية
كتبها جان - بيار دحداح، فإن هذا الحلم لم يتحقق حتى الآن.
أما في العراق فإن سنوات الازدهار السينمائي شهدت اقتباسات من غائب
طعمة فرمان («خمسة
أصوات») ومن غيره، ما يجعل التجربة العراقية تذكر بالخير، على عكس التجربة
الفلسطينية في هذا المجال، والتي لا تزال مقتصرة على نصين أو أكثر لغسان
كنفاني (من
بينهما الفيلم السوري «المخدوعون» تحفة توفيق صالح). علماً أن التجربة
الفريدة من
نوعها في المشرق العربي تبقى اقتباس خالد الصديق لرواية «عرس
الزين» للسوداني الطيب
صالح، في فيلم كويتي، تلى «بس يا بحر» للصديق، الذي وضع عن تجربته تلك
كتاباً في
غاية الطرافة والفرادة...
وما يقال عن المشرق العربي في هذا السياق، يمكن قوله عن المغرب
العربي، حيث لا
يزال الاقتباس الأدبي في السينما نادراً، على رغم بدايات أتت مشجعة وواعدة
«الأفيون
والعصا» لأحمد راشدي وبعض التجارب المغربية الأخرى...
طبعاً ليس المجال هنا كافياً لتحليل هذه الظاهرة السلبية... ولكن تبقى
ضرورية
الإشارة مرة أخرى الى أن التجربة المصرية مع الأدب كانت وتبقى ناجحة في
معظم
الحالات، حتى وإن كنا نعرف أنه قليلاً ما تحقق لفيلم حقيقي مأخوذ عن نص
أدبي، نجاح
جماهيري كبير ونجاح في شباك التذاكر... ولكن - ونكاد نقصر
حديثنا الختامي هذا على
الحالة المصرية - نعرف بالتأكيد ان العدد الأكبر من الأفلام المقتبسة عن
نصوص أدبية
يتعلق بأفلام تشكل علامات أساسية في تاريخ هذا الفن.
نجيب محفوظ والسينما: علاقة متبادلة
هو أمر لم يعد في حاجة الى مزيد من التأكيد: ونعني بهذا دور نجيب
محفوظ في
السينما المصرية. ذلك أن من الأمور التي باتت من المسلّمات أن علاقة الأديب
المصري
الكبير الراحل بالفن السابع، هي أكثر قوة وتعقيداً من علاقة أي أديب في
العالم بهذا
الفن. ولئن كان معروفاً على نطاق واسع ان السينما المصرية، وغير المصرية،
نهلت ولا
تزال من روايات صاحب «الحرافيش» و «الثلاثية» ومن قصصه
القصيرة، أفلاماً متنوعة
يعتبر بعضها من العلامات الأساس في تاريخ السينما، فإن من الأمور المعروفة
أقل
نسبياً، أن محفوظ ساهم في تاريخ السينما المصرية في شكل محترف أيضاً، ولا
سيما من
خلال كتابته عدداً كبيراً من السيناريوات التي كان بعضها
مكتوباً للسينما في شكل
مباشر ومن أفكار أصلية، بينما كان بعضها الآخر اقتباساً من روايات وقصص
لكتّاب
آخرين، وبعضهم لا يصل في قامته الإبداعية والفكرية الى قامة محفوظ. ولا ريب
في أن
المثل الأبرز على هذا هو أن محفوظ، وخلال سنوات الخمسين
والستين من القرن العشرين،
كتب سيناريوات، معظمها مميز، لروايات لإحسان عبدالقدوس حولها صلاح أبو سيف
الى
أفلام سينمائية حملت عناوين اشتهرت لاحقاً مثل «أنا حرة» و «النظارة
السوداء» و
«الطريق
المسدود»... وفي مقابل هذا، لافت أن محفوظ لم يكتب سيناريو مقتبساً من أي
رواية أو قصة قصيرة له. كان يترك هذه المهمة للآخرين.
وهؤلاء الآخرون اشتغلوا بالطبع، على العدد الأكبر من روايات محفوظ،
باستثناء
رواياته الفرعونية، منذ «خان الخليلي» و «بداية ونهاية» و «زقاق المدق»،
حتى «الحرافيش» وما بعدها، مروراً، طبعاً بـ
«الثلاثية» (أي «بين القصرين»، «قصر الشوق»
و «السكرية»). ونعرف طبعاً أن النقاد يجمعون على أن أياً من السيناريوات
التي كتبت
عن روايات أو قصص محفوظية، لم يرق الى مستوى كتابة هذا الأديب العربي الذي
كان
الوحيد من بين الأدباء العرب، الفائز بجائزة نوبل للآداب...
ويعود السبب، الى
تركيبية النص المحفوظي المنتمي الى أدب كبير، والذي يظل دائماً عصياً على
الترجمة
ليس فقط الى لغات أخرى، بل الى أنواع فنية أخرى. وفي
هذا الإطار قد يكون بعض القصص
المحفوظية القصيرة استثناء، ما يجعلنا نعتبر «أهل القمة» الفيلم الذي
اقتبسه علي
بدرخان عن قصة متوسطة لمحفوظ، استثناءً. ولعل هذه الاستثنائية تشمل أيضاً
بعض أولى
روايات محفوظ الاجتماعية، ما يدفعنا الى الاعتقاد بأن السينما
المكسيكية أحسنت حين
اقتبست عملين محفوظيين الى شاشتها: «بداية ونهاية» و «زقاق المدق».
من هنا، وعلى خط السير الذي سار عليه الاقتباسان المكسيكيان، قد يكون
منطقياً ان
نطالب اليوم (واللغة السينمائية قد تطورت وكذلك تقنياتها الصرفة) بعودة
السينمائيين
الى النصوص المحفوظية يحاولون أفلمتها من جديد... وهو عمل ما كان من شأن
محفوظ إلا
أن يوافق عليه، هو الذي كان يقول ان علاقته بنصوصه انتهت حين
وصلت هذه النصوص الى
القراء وصار كل واحد حراً في تفسيرها... وهذه الحرية تسري كذلك على
السينمائيين.
والحقيقة أن محفوظ يعرف هذا الأمر جيداً،
هو الذي شغل لفترات من حياته مهمات
سينمائية رسمية: من رئيس لهيئة السينما، الى رقيب على الأفلام... الى كاتب
سيناريو
بأجر شهري، إضافة الى نقطة قلّ التوقف عندها، وهي أن محفوظ، الذي علّمه
صديقه صلاح
أبو سيف فن كتابة السيناريو وأسرار صنعته، منذ أواخر سنوات
الأربعين حين أشركه في
كتابة سيناريوات أفلامه، استمرأ الفن السينمائي وتطور لغته الى درجة نلاحظ
معها،
كيف أن كتابته نفسها تطورت منذ بداية سنوات الستين، بحيث ان من يقرأ
أعمالاً له مثل «اللص والكلاب» و «الطريق» و «السمّان
والخريف» وعشرات القصص القصيرة يخيل اليه
انها نصوص كتبت خصوصاً للسينما. صحيح أن محفوظ أنكر هذا
دائماً، ولا سيما بالنسبة
الى نصوصه الكبرى، لكن قراءة متأنية لهذه النصوص ستضعنا أمام متن سينمائي
من المؤسف
أن الذين اشتغلوا على «سينما نجيب محفوظ» لم يدركوه جيداً...
احسان عبدالقدوس: مرايا الطبقة
الوسطى
من المعروف عادة - وهو أمر قلناه مراراً وتكراراً في الأجزاء السابقة
من هذه
المقالات - ان الأدب الكبير، التأملي والفكري، يبدو عصياً على التحول الى
أفلام
سينمائية، أو الى أي نمط فني آخر عدا كينونته الأدبية الصرفة، وفي المقابل
يبدو
الأدب الصغير طيّعاً، قادراً على التحول بسهولة. ومن هنا، حتى
وإن كانت شهرة
الأفلام التي تعد بالعشرات والتي اقتبست عن نجيب محفوظ، كبيرة جداً، فإن حظ
احسان
عبدالقدوس مع السينما يبدو أكبر من حظ نجيب محفوظ معها. وطبعاً لا نود بهذا
الكلام
أن نقلل من شأن أدب صاحب «أنا حرة» و «لا أنام» و «بئر
الحرمان»، بل ان كل ما نريد
قوله هو أن لغة عبدالقدوس الأدبية كانت دائماً لغة بسيطة، تحاول أن تخدم
المواضيع
والأفكار، لأن لها الأفضلية لديه، بدلاً من جعل هذه تخدم اللغة الأدبية
وأبعادها.
في شكل عام، كانت روايات عبدالقدوس وقصصه
وحتى نصوصه التي كتبت للسينما مباشرة،
تنطلق من رغبة في قول شيء ما: القضية الوطنية، أو حرية المرأة،
أو التصدي للظلم
الاجتماعي وقضايا العائلة، قبل أن يتحول هذا الأدب الى انتقاد مباشر، أو
موارب لبعض
سمات تاريخ مصر الحديث. ومن هنا ولأن عبدالقدوس كان يتوجه الى قارئه مباشرة
راغباً
في أن ينقل اليه موقفاً ما، كان يتوخى أن يكون أدبه أدباً
شعبياً سردياً، يركز على
الأحداث والعلاقات كما على سيكولوجية الشخصيات، وهي أمور قادرة دائماً على
الوصول
الى متفرج الفيلم كما الى قارئ النصّ بسهولة. ومن هنا إذا كان في وسعنا أن
نقول إن
أدب نجيب محفوظ قدم خدمات جلّى للسينما المصرية رافعاً من شأن
مواضيعها وأفكارها،
فيمكن القول إن أدب احسان عبدالقدوس استفاد من السينما كثيراً وأعطاها في
المقابل
أعمالاً قد يصعب اعتبارها علامات في تاريخ السينما، لكنها بالتأكيد علامات
في مسيرة
المجتمع المصري.
ومن هنا لم يكن غريباً أبداً أن يعرف المخرج المقدم على تحقيق فيلم عن
نص
لعبدالقدوس أنه يقدم عملاً مضمون النجاح، فيما كان المقدم على تحقيق عمل
مقتبس عن
محفوظ يعرف أنه يجازف. ولعل في مقدم مبدعي السينما الذين اكتشفوا الخصوصيات
«السينمائية»
لأدب عبدالقدوس، صلاح أبو سيف، الذي حين ترسخ انتصار الثورة المصرية
بقيمها الحديثة والواعدة أواسط خمسينات القرن العشرين، ورأى أن من المناسب
«الآن»
ترك الواقعية الاجتماعية وقضايا الفساد والصراعات الطبقية جانباً، للاهتمام
بتحقيق
أفلام تعكس ما تتطلع اليه القيادة الجديدة من نهوض بالطبقة الوسطى في
المجتمع
والبحث عن قيم عصرية وأخلاقيات مدينية جديدة، وجد نفسه يتجه من
فوره الى أدب احسان
عبدالقدوس، ويكلف - بالتحديد - نجيب محفوظ بكتابة سيناريوات بعض أبرز أعمال
هذا
الأدب. ونتجت من هذا أفلام عدة حققت في زمنها نجاحات شعبية مدهشة. بل ربما
كان في
وسعنا أن نقول إن تلك الأفلام (ومن بينها طبعاً «النظارة
السوداء» و «لا أنام» و
«أنا
حرة» و «الطريق المسدود») قدمت، الى نجاحاتها التجارية المدهشة، خدمات
فكرية
للثورة المصرية كاشفة عن ارتباط تلك الثورة بأفكار الطبقة الوسطى، ما سهل
وصولها
حتى الى الشرائح الاجتماعية المدينية خارج مصر. ولن نكون
مغالين هنا إن نحن لاحظنا
كيف أن تلك الأفلام، أوصلت في طريقها نجوماً الى قمة المجد (من نادية لطفي
الى
عبدالحليم حافظ، على سبيل المثال)، كما بدلت من توجهات وأدوار فنانين
راسخين (فاتن
حمامة في «لا أنام»)، وأوجدت جرأة جديدة في تعاطي السينما مع مواضيعها.
ولاحقاً، على رغم التغيرات التي جعلت احسان عبدالقدوس وأدبه يبتعدان
تدريجاً من
التوجهات الأكثر راديكالية - وبالتالي ديماغوجية ومجازفة - للنظام المصري،
ظل هذا
الأدب يجتذب السينمائيين، وربما لهذه الأسباب بالذات، بحيث إن السينما -
المعادية
للثورة وتوجهاتها - ظلت تدين لإحسان عبدالقدوس ببعض أشهر أعمالها
«الارتدادية» من
«الرصاصة
لا تزال في جيبي» الى «امبراطورية ميم» مروراً بـ «أبي فوق الشجرة»...
وصولاً الى أعمال مثل «يا عزيزي كلنا لصوص»... ولعل في امكاننا هنا أن
نفترض أن
«سر»
النجاح الكبير، الذي حققته هذه الأعمال، لا يكمن في مواقف عبدالقدوس
التحليلية
تجاه النظام، على تغيّره، والتي كان من شأنها أن تُري ملايين المتفرجين
الطرق
الأسلم لبناء الوطن، بقدر ما كمن في أن عبدالقدوس كان الأقدر
على التقاط نبض
الطبقات الوسطى ليعبر عنها ويتابعها في سرعة تغيراتها و... جذريتها
المواربة.
الحياة اللندنية في
25/09/2009 |