عرض في مهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط أفلام عدة ومنها فيلم
«فوضى هادئة»
الذي حصل على جائزتي أحسن عمل سينمائي وأحسن ممثل. قصة الفيلم تدور حول
بييترو
بالاديني وهو رجل أعمال في الثالثة والأربعين من العمر. نراه
في البداية منهمكاً مع
أخيه كارلو في لعبة كرة المضرب على الشاطئ. يسمعان صرخات استغاثة فيندفعان
إلى
المياه، ويسبحان بقوة ليُنقذا امرأتين من الغرق في البحر.
عندما يعود بييترو بالاديني إلى بيته الريفي يُفاجأ بزوجته راقدة على
حشيش
الحديقة فاقدة الحياة، وشرائح من الكانتالوب متناثرة حولها، كما يفاجأ في
الوقت
نفسه بابنته الصغيرة كلوديا وفي عينيها نظرة اتهام تُردد
باكية، صارخة «اتصلت بك
ثلاث مرات ولم ترد».
ويضاعف من الصدمة التي أصيب بها بييترو شعوره بتأنيب الضمير،
وبالمسؤولية إزاء
ابنته الوحيدة لا تتعدى سنها العشر سنوات. طفلة جميلة وذكية تتعامل بعد
الصدمة
الأولى مع فقدان أمها المفاجئ بهدوء ظاهري كأنها تحملته. ولأن بييترو تربطه
بابنته
علاقة حب قوية، يظل إلى جوارها أثناء الجنازة. وفي اليوم
التالي يصطحبها إلى
المدرسة ممسكاً بيدها حتى الباب إلى أن تسحبها منه. هناك يقف محاطاً بأفواج
الأمهات
متردداً، مرتبكاً، وفجأة يُنادي عليها وهي تصعد السلالم «سأنتظرك أمام
المدرسة حتى
ساعة الانصراف» مدفوعاً بإحساس تلقائي استولى عليه.
تبدّل عميق
ويتحول هذا الوعد إلى عادة يومية يتمسك بها، فيترك عمله في شركة
التلفزيون التي
يحتل فيها منصباً مهماً، ويتخلى عن كل أنشطته لينتظر ابنته يومياً في متنزه
أمام
المدرسة، جالساً على دكة، أو في سيارته عندما تهطل الأمطار. هذا على رغم
نصائح
المحيطين به والمحاولات التي يبذلونها لإقناعه بأنه لا يتحمل
أدنى مسؤولية فيما جرى
لزوجته حتى يتراجع عن قراره. لكنه يُصر أن يبقى طُوال اليوم منتظراً خروج
ابنته من
المدرسة ليصطحبها إلى البيت حيث يقضي معها الوقت في قراءة قصص للأطفال، أو
اللعب
معها، أو في حوار لا ينقطع سوى ساعة خلودها الى النوم.
يُؤدي هذا بالتدريج إلى تبدل عميق في حياته. فأثناء ساعات الانتظار
التي يقضيها
جالساً في المتنزه يُطل على ما يدور من حوله، على الناس الذين يعبرون
المكان، أو
يوجدون فيه، على الأمهات والأطفال وبعض المدرسات يتبادل معهن الكلام.
أحياناً تنشأ
بينه وبين بعض الناس صلات، أم تتنزه مع ابنها المعوق يومياً
يبتهج عندما يُضيء
بييترو بلادينى إشارات سيارته، ويُلوح إليه مبتسماً فيحرص على تكرار ما
يفعله كلما
مرا أمامه.
صاحب مطعم يتناول عنده طعام الغداء. أخت زوجته امرأة عيناها في زرقة
البحر
العميق تُعاني من توتر نفسي، ومن مشاكل علاقتها برجل متزوج وتُصرح له أنها
حملت
منه، وتسأله نصائحه وتحتضنه بحب. خياط يقوم بتصميم بنطالات «الجينز» يتحدث
معه عن
السوق ومتاعبها. رجل مسن يسكن في الدور الأول لعمارة تُطل على المتنزه
يدعوه لتناول
طعام الغداء معه بعد أن شاهده جالساً وحده أياماً متتالية.
زملاء له في الشركة مُهددون بفقدان وظائفهم نتيجة الاندماج الوشيك مع
شركة
أميركية ضخمة تعمل في مجال الاتصالات، ومن بينهم صديق له قريب منه يُعاني
من مشاكل
زوجية، ويُواجه بمناورات أصحاب المراكز الرئيسية في الشركة.
مسؤولون كبار في الشركة يأتون إليه ليعرضوا عليه منصباً عالياً بعد أن
يتم
الاندماج ليضربوا به منافسين لهم. شابة جميلة تتنزه في هذا المكان يومياً
مع كلبها
الضخم تُشاهد الناس الذين يُقبلون عليه ليتحدثوا معه، ويحتضنونه بحرارة
كأنه شخص
عزيز عليهم، قريب منهم، فتُفتتن بهذا الشخص الذي يجلس وحده
طُوال الساعات ومع ذلك
يُقبل عليه مُحبون كثيرون بحرارة تدل على العواطف التي يحملونها له.
في الوقت نفسه لا ينقطع الحوار الدائر بينه وبين ابنته. مع ذلك كله
يظل يُعاني
من حزن كبير يحرص على إخفائه تحت مظهر خارجي هادئ، وخادع لا يتخلى عنه إلا
نادراً
عندما يبكي بكاء مُراً وهو جالس وحده في سيارته، أو أثناء لقاء يتم بينه
وأخيه
«كارلو»
الشاب الوسيم، والمستهتر إلى حد كبير الذي يُقنعه بتدخين سيجارة محشوة
بالأفيون في مشهد سينمائي مؤثر، وفي مرة ثالثة عندما تزوره المرأة زوجة
رئيس الشركة
التي سمعت عرضاً من أخيه أثناء حفلة عشاء أنه هو الذي أنقذها من الغرق، ثم
عاد إلى
البيت ليكتشف وفاة زوجته. أثناء هذه الزيارة يتم بينهما لقاء
جنسي محموم، وعنيف
كأنهما يخترقان جدران الكبت التي أحاطاها بأحزانهما.
دوافع عاطفية
لا أعرف إن كانت الأسباب التي دفعت اللجنة إلى منح هذا الفيلم جائزة
أحسن عمل
سينمائي، وأحسن ممثل، هي الأسباب ذاتها التي جعلتني أجد فيه عملاً فنياً
راقياً،
يُعمق الوعي بالكثير مما يتم دفنه في زحمة الحياة اليومية للناس. عندما قرر
بييترو
بالاديني أن يعتزل عمله في الشركة على رغم المسؤولية المهمة
التي كان يقوم بها،
وفرص توليه منصباً عالياً للغاية بعد إتمام عملية الاندماج، وعلى رغم
الوظيفة التي
كانت تُوفر له قدراً كبيراً من الرفاهية والاستقرار، عندما اتخذ قراره ربما
لم
يُدرك ما سيترتب عليه من فرص لتجربة في الحياة مختلفة عن تلك
التي كان يعيشها من
قبل. كان مدفوعاً بعوامل أقرب ما تكون إلى الدوافع العاطفية منها إلى
الاعتبارات
العقلانية الهادئة.
مع ذلك فتح أمامه القرار الذي اتخذه مسالك لمعايشة الحياة بطريقة
أعمق، وأكثر
ثراء على رغم خسائرها المادية. وجد نفسه مُحاطاً بصداقة وحب عدد من الناس،
واضطلع
على جوانب للحياة كانت خافية عليه. اتضح له أن العواطف الإنسانية قد تقود
إلى معرفة
جديدة لا يقود إليها العقل. ولكن ربما الأهم من كل ذلك هو أنه،
عندما قرر الاستغناء
عن رغد الحياة، وضماناتها، عندما أصبح لا يُريد شيئاً من الناس أو مكاسب
مادية
إضافية، سعوا إليه وبحثوا عنه. عندما غاب عنهم أدركوا قيمته وعندما أصبح
يقضي
الساعات الطويلة منتظراً ابنته أُتيح له أن يتأمل ما يدور
حوله، تأمل الناس،
ومشاكلهم بينما قبل ذلك كان لا يرى إلا في حدود ضيقة فرضها السريان العادي
للأحداث
التي يعيشها في الشركة أو في البيت. الصدمة التي أصابته، والحزن العميق
الذي ألم به
قاداه إلى مفهوم جديد لمعنى الحياة وأبعادها، إلى علاقات جديدة
مع ابنته ومع الناس
فأدرك قيمته كإنسان.
الممثل ناني موريتي الذي قام بدور الشخصية الرئيسية أدى دوره بطريقة
لافتة في
مستواها العالي. إنه ممثل قدير كما انه مخرج مميز قام بأدوار رئيسية في
أفلام أخرى
حققها بنفسه، وأساساً في فيلم «غرفة الابن» الذي حصل على السعفة الذهبية في
مهرجان
«كان»
السينمائي عام 2001، وفي فيلم «مفكرتي العزيزة». في فيلم «فوضى هادئة» شارك
أيضاً في كتابة السيناريو مع لاورا باولوتشي وفرانشيسكو بيكولو.
استطاع المخرج أنتونيالو جريمالدي أن يصنع فيلماً جميلاً لا سيما عبر
طريقة
تحريكه للممثلين، وعلى الأخص ناني موريتي، وأليساندرو جاسمان الذي قام بدور
الأخ
الأصغر. أما الطفلة ابنة بييترو بالاديني الطفلة «بلودي مارتينو» فاستطاعت
أن تقوم
بدورها على نحو مقنع على رغم صعوبته، وعلى رغم اضطرارها
للانتقال بين مختلف الحالات
التي يمر بها صغار السن على نحو متتال، وسريع أحياناً.
الفيلم مأخوذ عن رواية لساندرو فيرونيزي. ولكن في الكتاب يظل «بييترو
بالاديني»
رجل الأعمال جالساً في سيارته خارج المدرسة، أما في السيناريو فاستبدل
الجلوس في
السيارة بحديقة للنزهة ما أتاح مساحة لتحرك الشخصيات المختلفة،
ولحدوث اللقاءات
التي تتم بينهم، وهي فكرة أضفت على الفيلم ثراء في تصوير الطبيعة والأحداث
بطريقة
مقنعة، ومُريحة تعددت فيها اللقطات وتنوعت.
ينتهي الفيلم بأن تطلب الطفلة «كلوديا» من أبيها أن يتوقف عن انتظارها
خارج
المدرسة حتى وقت الانصراف قائلة له ما سمعته في دراسات الطبيعة من إحدى
مدرساتها
بأن هناك عمليات في الوجود يُمكن أن تعود إلى حيث بدأت لكن هناك عمليات لا
رجعة
فيها، وتطلب منه أن يعود إلى حياته كما كان يُمارسها فيستقل
الأب سيارته وينصرف.
الفيلم هادئ لكنه إطلالة عميقة على حياة الإنسان النفسية والوجدانية،
على علاقته
بغيره من الناس المحيطين به وعلى مختلف الظروف التي قد يمر بها، وتأثيرها
عليه وعلى
مسار حياته. البعض لم يستسغ المشاهد المتعلقة باللقاء الجنسي بين «بييترو
بالاديني»
و «إليا نورا» التي كان قد أنقذها من الغرق لعنفها وصبغتها الحيوانية،
لكنها في
الحقيقة كانت تُعبر عن الحالات المبالغ فيها التي يمر بها الإنسان أحياناً
عندما
يضيق بالقيود الثقيلة التي تُكبل حياته.
*
روائي مصري
الحياة اللندنية في
25/09/2009 |