ماذا لو قرر مخرج ما ان يحيد عن النهج السائد في تصوير الحرب
اللبنانية بعين
درامية - روائية او وثائقية - ويختار الكوميديا منفذاً لقول ما يريد قوله
عن
الذاكرة وسنوات الاقتتال التي عاشها وطنه وآثارها على إنسان هذا الوطن؟
حتماً امام مثل هذا العمل ينقسم النقاد والجمهور من حوله. بعضهم
(النقاد غالباً)
يعتبر ان قضية بهذا الحجم لا يمكن ان يستخف بها من خلال حكاية كوميدية
خفيفة هدفها «التسلية». وبعضهم سيضحك حتى الثمالة، على
نفسه أولاً، ثم على الشخصيات التي تشبه
كثراً ممن يصادفهم في حياته اليومية.
قد تكون هذه حال المخرج اللبناني المقيم في فرنسا هاني طمبا (صاحب
الفيلم
الروائي القصير «ما بعد الحلاقة» الفائز بجائزة السيزار الفرنسية لعام
2005) مع
فيلمه الروائي الطويل الأول «ميلودراما حبيبي». فالفيلم وان كان ينتمي الى
نوعية
الأفلام الخفيفة الا انه يحمل في طياته مضموناً جدياً: الحرب
اللبنانية والذاكرة من
خلال حبكة بسيطة، تدور حول نجم مغمور في سبعينات القرن العشرين يدعى «برونو
كابريس» (جسد دوره الممثل الفرنسي باتريك شينيه)،
يطالعنا وهو يشتغل في الألفية الجديدة
عامل استقبال في أحد الفنادق الفرنسية، ويعيش حياته على
الهامش. لكنّ اتصالاً
هاتفياً من بيروت سيكسر رتابة واقعه، ويعيد إحياء ماضيه، خصوصاً ان المتصل
يريد منه
ان يأتي الى لبنان للغناء في حفلة ميلاد زوجته التي لا تزال تحن الى أغنيات
الصبا.
مرجعيات سينمائية
قد تكون الحكاية ساذجة بعض الشيء. لكن أهمية الفيلم لا تكمن في قصته،
إنما في
مكان آخر. في ما تحمله هذه القصة في طياتها، وأيضاً في الشخصيات التي
اختارها طمبا
لفيلمه هذا، خصوصاً ان نحن عرفنا ان الفيلم كله بني انطلاقاً من الشخصيات
الاساسية
وتطورها. بمعنى ان الحبكة تلوح من خلال هذا التطور لا من خلال
العالم الخارجي
المحيط بها. وهو تطور من الواضح ان طمبا يشتغل عليه مستنداً،
قبل اي شيء آخر الى
مرجعيات سينمائية. ومنها، مثلاً، فيلم «ضاع في الترجمة» الذي
يأتي رسم شخصيته
الرئيسة مطابقاً لما رسمه طمبا لشخصية المغني في «ميلودراما حبيبي»، إضافة
الى
سلسلة كبيرة من المراجع التلفزيونية والغنائية اللبنانية.
هنا تطالعنا العبارة الشهيرة التي تقول: «ان من السهل إبكاء الناس على
الشاشة،
ولكن الصعوبة كل الصعوبة تكمن في إضحاكهم». فكيف ان كان الضحك منبعه حرب او
مأساة
وطنية؟ طبعاً لا يمكن الا اعتبار فيلم من هذا النوع مجازفة فنية. ولكن من
يعرف
أفلام طمبا القصيرة يدرك انه لم يبتعد في فيلمه الطويل هذا عن
افلامه القصيرة
السابقة لناحية الاشتغال بخفة على قضايا كبيرة. «فهذا ما أجيد صنعه»، يقول
طمبا في
حديثه الى «الحياة»، مضيفاً: «بالنسبة الى الغرب، صار الفيلم الآتي من
لبنان او
العراق او افغانستان رمزاً للبكائيات والنحيب بما ان هذه
البلدان ترزح تحت الحرب،
ومن الطبيعي ان تكون السينما فيها مرآة لهذا الواقع. من هنا اردت ان أغير
هذه
الفكرة. وأصوّر اللبناني كما هو. اللبناني الذي ينفض الركام ويقف على رجليه
مهما
اشتدت الصعاب. اللبناني الذي تليق به الحياة، ولا يردعه قصف او
دمار من الاستمتاع
بكل لحظة منها. وعموماً أفضل في افلامي ان أشتغل على نفسية المشاهد لا ان
اجعله
يبكي معي. فالدراما توترني، ثم ان حسّ الفانتازيا يغلب دوماً لديّ».
والاكيد ان حسّ الفانتازيا هذا، يلعب دوراً اساسياً في الفيلم، إنما
دون ان يبدو
مغرقاً في الخيال مقدار غرق المجتمع اللبناني نفسه فيه!
فشل فرنسي
فهل يرد طمبا فشل فيلمه في الصالات السينمائية الفرنسية وعدم صموده
هناك لأكثر
من أسبوعين الى تخطيه أفكار الغرب المسبقة حول السينما اللبنانية؟
«يعود فشل الفيلم في باريس الى خروجه في الصيف. وكما هو معروف في هذا
الفصل تفرغ
المدينة من سكانها، كما يذهب اللبنانيون فيها في إجازات. ولهذا السبب خسر
الفيلم
جمهوراً من اللبنانيين والفرنسيين. كما ان أسلوب التوزيع لم يكن جيداً».
وعلى رغم ان فيلم «ميلودراما حبيبي» عرض الصيف الماضي في الصالات
الفرنسية، كما
جال على عدد من المهرجانات، منها مهرجان بروكسيل حيث نال جائزة الجمهور
وجائزة
تلفزيون «أر تي بي أف»، الا انه لم يحطّ في الصالات اللبنانية الا أمس. ما
يدفعنا
الى السؤال حول سبب كل هذا التأخير، خصوصاً ان المخرج كان تمنى
أثناء مشاركة فيلمه
في الدورة الماضية من مهرجان دبي ان يكون الفيلم في دور العرض اللبنانية في
كانون
الثاني (يناير) الماضي. لكنّ طلبه لم يتعد حدود الامنيات بعد ان خذل لأكثر
من
مرة.
اليوم، بات في إمكان الجمهور اللبناني ان يشاهد فيلم «ميلودراما
حبيبي» في
الصالات، ولو بعد أكثر من سنة من عرضه في صالات فرنسا. حتماً هنا سيعيد
الجمهور
اكتشاف ممثلين عرفهم في ادوار تلفزيونية كوميدية مثل غابرييل يمين وبيار
شماسيان،
إضافة الى فنانين محترفين مثل جوليا قصار والفرنسي باتريك
شينيه، وممثلين مبتدئين
مثل بياريت قطريب... جميعهم أبدعوا تحت إدارة طمبا في تقديم صورة
كاريكاتورية -إنما
فاقعة في واقعيتها- لبعض المجتمع اللبناني ونماذجه الأكثر بروزاً.
«لم يكن صعباً على الإطلاق العمل مع باتريك شينيه»، يقول طمبا، «فهو
على رغم
كونه ممثلاً محترفاً في جعبته اكثر من50 عملاً الا انه كان متعاوناً مع
فريق العمل.
ومنذ ان قرأ السيناريو انجذب إليه، وبادر
للذهاب الى لبنان ليتعرف اكثر الى هذا
البلد. لكن حرب تموز حالت دون ذلك، وأدت الى تأجيل التصوير
الذي استأنفناه أثناء
معارك نهر البارد». ولا شك في ان المهمة لم تكن سهلة، فكيف يمكن مخرجاً
لبنانياً ان
يصوّر فيلماً كوميدياً والحرب مشتعلة بين الجيش اللبناني وعناصر «فتح
الإسلام»
الإرهابية؟ يجيب طمبا: «لا انكر ان معارك نهر البارد أثرت علينا. ففي أحيان
كثيرة
كنا نضطر الى ايقاف التصوير الذي دام 7 أسابيع. ولكن، اوليس هذا ما رمز
اليه الفيلم
في غمزه من مصير لبنان الذي يدور في حلقة مفرغة»؟
ولعل المشهد الأخير من الفيلم يظل الأكثر إيحاء في هذا المجال، فعلى
خلفية صورة
جامعة لأبطال العمل في وداع المغني، تمر صور الحرب التي يرى الفيلم انها
قدر
اللبناني الذي ما ان يظن ان الحرب ذهبت الى غير رجعة حتى يستيقظ على كابوس
جديد.
طمبا الذي آثر إضحاك المشاهد طوال مدة الفيلم لم يشأ ان يتركه مع صور
الدمار في
نهاية شريطه، فكان ان اختار للختام أغنيات مترابطة، تبدو للوهلة الاولى بلا
معنى،
لكنها في الحقيقة تشكل صلة الوصل بين كل شخصيات الفيلم. ولا شك في ان
الموسيقى تبقى
إحدى أبرز عناصر القوة في هذا الشريط الساخر.
الحياة اللندنية في
11/09/2009
فيليب ك. ديك: نهضة مباغتة بعد
الرحيل
قد لا يكون فيليب ك. ديك، الأشهر أو الأكثر شعبية بين كتّاب الخيال
العلمي، لكن
هذا الكاتب الكبير الذي كان من سوء حظه أنه رحل عن عالمنا في العام نفسه
الذي
انطلقت فيه شهرته العالمية مع تحقيق ردلي سكوت لفيلم «بلاد رانر» المأخوذ
عن روايته
الكبرى «هل تحلم الكائنات الآلية بخروف كهربائي؟»، يعتبر خلال الثلث الأخير
من
القرن العشرين واحداً من أساطين هذا النوع. بل أكثر من هذا، هو الكاتب الذي
يدرس
المفكرون والفلاسفة أعماله أكثر من دراستهم لأي زميل له. ذلك
أن روايات ديك وقصصه
القصيرة تبدو، في نهاية الأمر، أشبه بالدمية الروسية، حيث داخل كل دمية
واحدة أصغر
منها الى ما لا نهاية... أي أن رواياته تحمل في شكل عام مزيجاً متتالياً من
الأفكار
الفلسفية والدينية والأخلاقية والاقتصادية والبيئوية، ودائماً
تحت عباءة الحكايات
المستقبلية، أو حتى غير المستقبلة. إذ، مثلاً، في روايته «رجل الحصن
العالي» يتخيل
أن قوات المحور بزعامة ألمانيا النازية انتصرت واحتلت الولايات المتحدة
خلال الحرب
العالمية الثانية، وفي روايته «سيلي يا دموعي، قال رجل
الشرطة»، يقدم إلينا جملة
مواضيع عميقة في قالب يجمع بين الرواية البوليسية التشويقية والخيال العلمي.
من الناحية السينمائية يعتبر فيليب ك. ديك، من الكتاب المحدثين الأكثر
اقتباساً
في السينما، على عكس عظيموف وبرادبري وحتى بالارد وآرثر سي. كلارك، الذين
لا يزال
ضئيلاً حجم حضورهم السينمائي. فمن بين أعمال ديك، إضافة الى «بلاد رانر»،
الذي
ذكرناه والذي يعتبر عادة واحداً من أفضل خمسة أفلام خيال علمي
حققت حتى اليوم، وحتى
واحداً من أفضل عشرين فيلماً حققت في تاريخ الفن السابع، نذكر هنا «أوبيك»
العمل
الخيالي - الفلسفي المدهش الذي كانت هناك مساع لتحويله الى فيلم سينمائي،
تحت إشراف
ديك نفسه، منذ عام 1974، لكن المشروع توقف في شكل مفاجئ وقيل إن القيّمين
عليه رأوا
استحالة نقله، بأمانة، الى الشاشة وأن ديك وافقهم على ذلك بعد
اشتغال على المشروع
دام ما يقرب من عامين. ولعل السؤال الذي يُطرح هنا، بصدد الحديث عن «أوبيك»
هو
التالي: خلال العام المقبل، سيستأنف المشروع، كما كان قد أعلن خلال الدورة
الأخيرة
لمهرجان «كان» السينمائي، فهل ترى الفيلم سيحتفظ بهذا العنوان نفسه؟ سبب
هذا السؤال
هو أن معظم أعمال فيليب ك. ديك التي نقلت الى الشاشة (بل الى الشاشتين) حتى
الآن،
إنما بُدِّلت عناوينها كما كانت حال «بلاد رانر»، في استثناءات
قليلة منها «سكانر
داركلي» الفيلم الذي حمل عنوان النص الروائي الأصلي نفسه (ونذكر لمناسبة
الحديث عن
هذا الفيلم أنه حقق بتقنية لافتة أتت مزيجاً من التصوير الحقيقي والرسوم
المتحركة:
أي إن الفيلم صوّر من بطولة كيانو ريفز، ثم
نقل برسوم واقعية الى الشاشة... وكان
الإخراج لريتشارد لينكلينز). أرملة ديك قالت حين سئلت رأيها في
تغيير العناوين إنها
تعتقد أن زوجها لم يكن بارعاً في اختيار عناوين أعماله... غير أن هذا
التفسير لن
يبدو مقنعاً لمن يتأمل عناوين ديك الأصلية المملوءة بالشاعرية. ومن هنا فإن
التبرير
المنطقي هو الذي يرى أن عناوين ديك أتت دائماً من الطول والعمق
والشاعرية، بمستوى
يفيض عما تتحمله السينما. ولنتأمل: فيلم «توتال ريكال» (استدعاء كلي) من
إخراج بيتر
فرهوفن، كان اسم روايته «يمكننا أن نتذكره لك يا ولسيل». وهكذا... حتى فيلم
«التالي»
(2007) من بطولة نيكولاس كايج الذي أخذ عن نص أصلي عنوانه «الرجل الذهب»،
فيما أخذ الفيلم الفرنسي «بارجو» عن كتاب لديك عنوانه «اعترافات فنان
مغامر». أما
فيلم «الصارخون» (1995) فاقتبس عن قصة قصيرة عنوانها «تنويعة ثانية»، بينما
احتفظ
فيلم «صك الدفع» باسم كان ديك نفسه اختاره له. وفي مقابل هذا
لا بد من أن نذكر أن
فيلم «تقرير عن الأقلية» الذي حققه ستيفن سبيلبرغ سنة 2002، انطلاقاً من
قصة قصيرة
لفيليب ك. ديك، بدَّل كثيراً في أحداث القصة، لكنه، في الوقت نفسه احتفظ
بالموضوعات
الفكرية الأساسية التي كانت في خلفية كتابة ديك لهذا النص. أما فيلم
«محتال» الذي
حقق عام 2002، فقد استخدم قصتين قصيرتين من قصص ديك ليجمعهما
في عمل واحد...
إن كل هذه الأعمال، ويصرف النظر عن عناوينها الأصلية، تضعنا أمام واقع
أن
السينما عرفت طريقها وفي شكل جيد الى أدب فيليب ك. ديك، وبخاصة منذ رحيله.
ويقيناً
الآن ان الحبل على الجرار، حيث تفيد أنباء تواترت خلال العامين الأخيرين عن
أن ثمة
في الأفق نحو خمسة أو ستة مشاريع مبنية على أدب ديك، حتى ان استثنينا «أوبيك»
الرواية التي يبدو أنها لن تتأخر قبل أن تطل على جمهور السينما، وسيكون عرض
الفيلم
حين ينجز، دافعاً لتحريك بقية المشاريع.
الحياة اللندنية في
11/09/2009 |