لم يكن مفاجئاً لأحد أن تبدو دورة مهرجان البندقية (التي ستُختتم غداً
السبت)
مسكونة بالسياسة، لكن قلة من الناس كانت تراهن على وقوع المفاجأة الأكبر:
حضور رئيس
جمهورية بلد أجنبي المهرجان. وهو ما فعله الرئيس الفنزويلّي هوغو تشافيز
الذي هبط
بطائرته ومرافقيه في «البندقية» بعدما خلع عنه القميص الأحمر واكتفى بربطة
عنق
حمراء. سار تشافيز على البساط الأحمر كالنجوم متبادلاً
الابتسام والتحية مع الجمهور
ومصوري التلفزة ووقّع «الأوتوغرافات» يرافقه المخرج الأميركي أوليفر ستون
الذي أنجز
عنه شريطه الوثائقي «إلى الجنوب من الحدود» والذي يدخل في إطار «الصور
الشخصية
السينمائية» التي ينجزها ستون عن الشخصيات العالمية التي
تتواجه مع الولايات
المتحدة، فقد ابتدأها بشريط عن الزعيم الراحل ياسر عرفات ثم عن فيديل
كاسترو متبعاً
هذا بفيلمه عن تشافيز معلناً أنه سيبدأ وثائقياً جديداً عن الإيراني نجاد.
وبصرف
النظر عن الإعجاب الذي يُظهره ستون بالشخصيات التي يؤطرها في
أعماله، فإنه لا يُخفي
ازدراءه ساسة بلاده تجاه الدول التي وضعتها الولايات المتحدة، وبالذات
إدارة الرئيس
السابق جورج بوش، ضمن محاور المواجهة والمناهضة والشر.
ما يخرج من الصورة التي عرضها أوليفر ستون عن هوغو تشافيز هو أن
الولايات
المتحدة تصنع «الأشرار» ليس بمعنى دعم هؤلاء فحسب، بل أيضاً عبر السياسات
الإعلامية
والديبلوماسية المتّبعة لعزل من لا يتفقون مع سياساتها ومصالحها. ربّما
تكون هذه
المعادلة صالحة وصادقة في كثير من الأحيان، لكن عرضها في هذا
الشكل يضع ديكتاتوريين
كثراً، (ومن بينهم تشافيز نفسه، وكما حدث مع الرئيس العراقي السابق صدّام
حسين)، في
خانة «الضحية» ليصبحوا كما يحلو للرئيس الفنزويلي أن يقول: «ضحية للسياسة
الأميركية
ولإعلام فوكس نيوز التي ترسمني كالديكتاتور هتلر وتبرر
للولايات المتحدة مخططها
بتصفيتي...».
أين الحقيقة؟
الحقيقة في هذا الفيلم ضائعة. وهو، أي الفيلم، يأتي متأخراً عن مسار
الأحداث،
لأن ساكن البيت الأبيض لم يعد الرئيس بوش، بل الرئيس أوباما الذي يسعى إلى
تجاوز
وإصلاح ما خرّبته إدارة بوش من علاقات الولايات المتحدة مع دول كثيرة في
العالم.
وإذا كان تشافيز قد اختار بدقة كبيرة موعد وجوده في الليدو بحيث لا
يتزامن مع
حضور نجم سينمائي كبير مثل جورج كلوني، الذي حضر المهرجان في اليوم التالي،
فإن
أوليفر ستون لم يتمكّن من إقناع مبرمجي المهرجان بالحيلولة دون تزامن شريطه
مع عرض
وثائقي مواطنه مايكل مور «الديموقراطية: قصة حب» الذي غاص به
مور هذه المرة في
النظام الاقتصادي والمصرفي الأميركي وتداعياته على الاقتصاد العالمي
وتسبّبه
بالأزمة التي انهارت بسببها اقتصادات دول كثيرة وتداعت إمبراطوريات مالية
كانت تبدو
كقلاع منيعة. وعلى رغم أهمية ما يرد في عمل مايكل مور هذا، فإنه، هو الآخر،
يبدو
متأخراً بعض الوقت، لأن الخراب الذي يعرضه، والذي تحوّل في
أشرطته السابقة إلى
معاول تهشيم لإدارة بوش، يُواجه في البيت الأبيض تحت إدارة أوباما بمنطق
مسؤول
وبرغبة صادقة في إيجاد الحلول.
إذاً، وعلى رغم أهمية ما يعرضه مايكل مور وأوليفر ستون، فإن عمليهما
يبدوان خارج
الزمن الراهن مثل «فلاش باك»، إذ ان ما يحدث اليوم، وبالذات في الولايات
المتحدة،
مختلف تماماً عمّا كان يحدث قبل العشرين من كانون الثاني (يناير) الماضي،
يوم تنصيب
الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما. وعلى رغم أن الملف
الإيراني لا يبدو مقبلاً
على حل قريب، فإن على أوليفر ستون، الذي يُعدّ العدّة لإنجاز شريطه الجديد
عن
الرئيس الإيراني، أن يأخذ في اعتباره سياسة البيت الأبيض الجديدة.
سياسة أوروبا آنية
مقابل هذا تبدو السياسة التي تخرج من الأفلام الأوروبية التي عُرضت في
المهرجان
راهنة وما تتناوله يبدو آنياً ومعقّداً بسبب غياب المنظور الواضح تجاهه.
وقد هيمنت
موضوعات الهجرة «غير الشرعية» و «ماضي اليسار الإيطالي والأوروبي» و «هيمنة
سيلفيو
بيرلوسكوني على السياسة الإيطالية عبر سلطته الإعلامية»، على غالب الأفلام
التي
اختارها ماركو موللر للعرض في برنامجه وضمّتها البرامج
الجانبية في المهرجان مثل
«أيام
المخرجين في البندقية» وبرنامج «أسبوع النقّاد».
وهل في الإمكان الحديث عن السياسة الإيطالية من دون أن يكون رئيس
الحكومة
الإيطالية بيرلوسكوني بطل الحديث السياسي؟ الجواب، بالطبع، لا. فهذا الرجل
هيمن،
ليس على المشهد السياسي الإيطالي فحسب، بل على مجمل مجريات الحياة
الإيطالية وحدد
ليس حاضر إيطاليا فحسب، بل أيضاً مفردات مستقبلها القريب. وهو
موجود في كل مكان حتى
في مهرجان البندقية الذي حضره (ولو في شكل رمزي عبر الصورة السينمائية) من
خلال
تعليقاته على فيلم «باآريّا» للأوسكاري الإيطالي تورناتوري الذي افتتح
المهرجان،
والذي أنتجته شركة ميدوزا التي يملكها بيرلوسكوني نفسه، ومن خلال فيلم
«فيديوقراطية»
الذي يتناول حياة بيرلوسكوني «التلفزيونية» للمخرج الإيطالي (السويدي
الجنسية) إيريك غانديني. وكما كان متوقّعاً، فقد اضطرّ منظمو برنامج أسبوع
النقّاد
في المهرجان إلى إعادة عرض الشريط في حفلة إضافية في أكبر
قاعات المهرجان بسبب
الازدحام الشديد الذي شهده العرض الأول الذي كاد أن ينتهي إلى مواجهة بين
المشاهدين
الذين تدافعوا لدخول القاعة والمسؤولين عن أمن القاعات في جزيرة الليدو.
يستعرض
الشريط مرحلة من حياة بيرلوسكوني عبر محطّاته التلفزيونية التي
أصبحت خلال ثلاثة
عقود، سلاحه الأساسي للهيمنة على الحكم وفرض سياساته من خلال التأثير
المباشر في
ذهنية المواطنين وتحويلهم إلى ناخبين مستمرين له. ويروي الفيلم مسار
«تطوّر» ذائقة
المتلقي الإيطالي بعدما خفضت محطات رئيس الحكومة من سقف الطروحات الثقافية
والفنية،
وركّزت، في غالبية إنتاجاتها على المادة الترفيهية معتمدة على
كشف مفاتن الفتيات
وإظهارها.
وكانت إدارة المهرجان رفضت إدراج شريط غانديني في البرنامج الرسمي
للمهرجان، ما
دفع جمعية نقّاد السينما (المنظمة لبرنامج أسبوع النقّاد) وجمعية مؤلفي
السينما (المنظمة لبرنامج أيام فينيسيا) إلى إدراجه
ضمن برنامجيهما في شكل مشترك. وبصرف
النظر عن أهمية هذا الشريط وجودته، فإن ما يقدّمه يشكل وثيقة مهمة لأسلوب
الاستخدام
السياسي للجهاز الإعلامي الخطير، أي التلفزيون لتحقيق المطامح السياسية ضمن
الديموقراطيات المتطوّرة، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن قدرة هذه
الديموقراطيات على
الدفاع عن نفسها في مواجهة ما تشترطه هي في إطار حرية السوق وحرية التعبير!
ولم يضيّع بيرلوسكوني فرصة عرض شريط تورناتوري «باآريّا»، بل انبرى
لمهاجمة
الشيوعيين واليساريين. ففيما يعرض الشريط لثلاثة عقود من التاريخ الإيطالي
عبر
التجربة الحياتية للمخرج في مسقط رأسه «باغيريّا» الصقليّة، ويعرض أيضاً
للدور الذي
لعبه الحزب الشيوعي الإيطالي في دك أركان النظام الفاشي وبناء
الديموقراطية في
إيطاليا، اكتفى بيرلوسكوني باقتطاع جملة واحدة من الفيلم ينتقد فيها بطل
الفيلم
الحياة في الاتحاد السوفياتي السابق بعد اشتراكه في دورة حزبية هناك. وعلى
رغم أن
الفيلم أنتجته شركة «ميدوزا» المملوكة من بيرلوسكوني نفسه، فإن
مخرج الفيلم،
تورناتوري، أبدى انزعاجه من هذا الاستخدام المُسيّس والتجزيئي لفيلمه
وتندّر على
الأمر في المؤتمر الصحافي الخاص بالفيلم بقوله: «آه! لم أكن أعلم أن لدى
رئيس
الحكومة اختصاصاً آخر هو النقد السينمائي». وعلى رغم أهمية
شريط تورناتوري،
سينمائياً، فإن غالب ما نشر عنه كان منتقداً أو فاتراً، وأُخذ الفيلم
بجريرة
السياسة والموقف من بيرلوسكوني والحزب الشيوعي الإيطالي.
ولم تقتصر القراءة السياسية على فيلم الافتتاح فحسب أو على الأفلام
الإيطالية
وحدها، بل ألقت السياسة الإيطالية بظلالها على شريط «فرانسيسكا» للروماني
الشاب
بوبّي بانيسكو والذي تناول موضوع الهجرة من خلال قصة المعلّمة الشابة
«فرانسيسكا»
التي تقرر الهجرة إلى إيطاليا في لحظة تركّز فيها أجهزة الإعلام الإيطالية
أنظارها
على عالم الجريمة التي تورّط فيه رومانيون. وعلى رغم أن هذا ليس الفيلم
الأول الذي
يتناول موضوع الهجرة، وأن في المهرجان أكثر من شريط يمسّ هذا
الموضوع، كشريط
الجزائري مرزاق علواش «حرّاقة»، فقد اضطُرّ منتجو الفيلم إلى إلغاء عرضيه
الأخيرين
في المهرجان بسبب تهديد سياسيين يمينيين إيطاليين بإقامة دعوى قضائية ضدهم.
وانطلق
الجدل بسبب جملة ترد في الفيلم تتّهم البرلمانية اليمينية
آليسّاندرا موسّوليني (حفيدة
الديكتاتور بينيتو موسّوليني) وتصفها بـ «العاهرة التي تريد أن ترى كل
الرومانيين موتى...». آليسّاندرا موسّوليني أعلنت أنها كلّفت محاميها
بدراسة رفع
دعوى قضائية ضد مخرج الفيلم ومنتجيه بتهمة الشتم والقذف. وليس
مستبعداً أن تترك هذه
الجملة ظلالاً جدية على العلاقات الصعبة أصلاً بين روما وبوخاريست.
جدل أيضاً، لكن هذه المرة من نوع آخر، انفجر بسبب عرض فيلم «لوورد»
للمخرجة
النمسوية جيسّيكا هاوسنير، والذي اعتُبر أشد الأفلام مناهضة للسلطة
اللاهوتية منذ
سنين طويلة. تؤدي دور البطولة في الفيلم الممثلة الشابة سيلفي تيستو، التي
يرشّحها
البعض منذ الآن لجائزة أفضل ممثلة.
أيام المخرجين مُضاءة
وكعادته حقق برنامج «أيام المخرجين في فينيسيا» نجاحاً، إذ تميّزت
اختياراته هذه
السنة بالتنوّع والأهميّة. ففيما تلقّى جمهور المهرجان بترحاب كبير عمل
الجزائري
المبدع مرزاق علواش «حرّاقة» - عن المهاجرين غير الشرعيين الذين يتلفون
وثائقهم
الثبوتية ساعة ركوب البحر - امتلأت قاعة «بيرلا ٢» المكوّنة من
٤٥٠ مقعداً عن بكرة
أبيها لاستقبال المخرج الصربي غوران باسكالييفيتش الذي حمل إلى فينيسيا
شريطه
الجديد «شهور عسل» بعد ١٢ عاماً على شريطه المتميّز «برميل البارود». وفيما
كان
فيلم «برميل البارود» تحذيراً للغرب حول ما قد يحدث في
البلقان، ما لم يجر التعامل
معه وفق منطق بعيد من الحسابات السياسية والديبلوماسية الأحادية الجانب
والضيّقة
الأفق، فإن الشريط الجديد يأتي صفعة عنيفة في وجه الغرب الغافل عمّا جرى
ويجري في
البلقان. صفعة مدوّية لمعاقبة الغرب، لكن أيضاً لإيقاظه من غفوة اللامبالاة.
يروي الفيلم يومين وليلة من حياة أربعة أزواج شباب. اثنان منهم
ألبانيان
والآخران صربيان. وعلى رغم أن الأربعة لا يلتقون ولا تتقاطع طرقهم، إلاّ
أنهم
يشتركون في المصير ذاته. فبعد حفلي قران لأقارب الألبانيين الشابين
والصربيين
الشابين، يقرر كل زوج منهم الرحيل خارج البلاد. الألبانيان
يتجهان إلى إيطاليا
بحراً والصربيان يتجهان بالقطار إلى هنغاريا. وعلى رغم أن الشابين
(الألباني
والصربي) يحملان تأشيرة دخول قانونية وصالحة لدخول إيطاليا وهنغاريا، إلا
انهما
يوقفان عند نقطة الحدود وتُسدّ الطرق أمامهما للعبور نحو «حياة
أفضل!!». الشباب
الأربعة تركوا وراءهم آباءهم وأمهاتهم وأقاربهم الغارقين بخلافاتهم
ومشاكلهم
العرقية والإثنية والعائلية، إلاّ أن أوروبا «الموحّدة» والموسّعة تصدّهم
وتمنع
دخولهم. إنها الصفعة التي يوجهها المخرج باسكالييفيتش إلى السياسيين في
الفيلم
واضعاً العالم من جديد أمام مسؤوليته بعدما نام على وسائد حرير
مزيّفة معتقداً أن
أوروبا توحّدت بدستور ومواثيق مُلزمة.
مصريون في الليدو
«حراقة» الجزائري مرزاق علواش و «دوّاحة» التونسية رجاء عمّاري جاءا
هذه السنة
تنويعة مغاربية لحضور مصري كبير افتتحه المبدع يسري نصرالله بـ «إحكي يا
شهرزاد»
والذي عرض فيه لحالات القهر الممارسة ضد
المرأة في المجتمع العربي في شكل عام
والمجتمع المصري في شكل خاص عارضاً أيضاً مقدار الحيف الكبير
الذي يقع على المرأة
عندما يحوّل «الرجال» خطأ المرأة المُنظم من جانبهم إلى «خطيئة» لتبرئة
ساحتهم من
الجرم الذي اقترفوه ضد المرأة. قراءة شريط يسري نصرالله باعتباره
«انحيازاً» لمصلحة
المرأة فحسب، إجحاف ليس بحق الفيلم أو بحق مُنجزه فقط، بل هو
إجحاف بحق المجتمع
نفسه. يقول يسري نصرالله عن شريطه: «منذ أكثر من عقدين اختزلت السينما
المصرية دور
النساء في الأفلام بأجزاء تظهرهن كفاكهة الرغبة أو داعرات إلى جانب شخصيات
رجالية
بطولية يمثّلها نجوم كبار... وعلى رغم أن ٧٠ في المئة من كيان العائلات
المصرية
يعتمد على المرأة وعملها، فإن المجتمع أجبر النساء على الظهور
مستسلمات
وقابعات...»، وهذا ما دفع يسري إلى قلب الصورة.
بالهم نفسه، وإنْ كان بأسلوب مختلف، تقترب كاملة أبو ذكري من محنة
المرأة
العربية والزاوية التي حُشرت فيها حقوقها ككائن بشري قبل كل شيء، تحديداً
حين يجترح «الرجال» الأساليب والمبررات لتأكيد هيمنتهم
على المجتمع والمرأة بشكل خاص. وتقول
كاملة إن شخصيات شريطها «جزء من نسيج المجتمع الذي أنتمي إليه،
وهو مجتمع يسوده الجهل والسلبية وهو مُثقل بالهموم وبأخطاء الماضي، وعلى
رغم كل ذلك
هذا هو مجتمع لصيق بالحياة في شكل عميق».
أما أحمد ماهر فيتناول في «المسافر»، من بطولة النجم عمر الشريف
وسيرين
عبدالنور، رحلة المصري حسن، التي بدأت في عام ١٩٤٨ وانتهت في عام ٢٠٠١ ويمر
من خلال
الفيلم عبر تداعيات قصة الحب التي ولدت على متن سفينة عابرة محيطات بين حسن
والحسناء نور. وهو العمل الروائي الأول لأحمد ماهر بعد عدد من
الأعمال القصيرة
والوثائقية. ويقول عن الفيلم: «لقد بدأت التفكير بهذا الفيلم للتعبير عن
أفكاري حول
الموضوعات التي تمسّ الطبيعة البشرية... الرحيل داخل الفيلم ليس إلاّ رمزاً
لحياة
البطل ولسعيه للتعرّف إلى ذاته، وبهذا المعنى تُصبح الرحلة
برهاناً على الوعي بكل
ما تحمله هذه الكلمة من مغزى».
الحياة اللندنية في
11/09/2009 |