أحمد زكي... «المتفرد» (6-15)
المعاناة
هبة الله يوسف
نجح صاحب الموهبة الاستثنائية في أن يحرز أول أهدافه في العاصمة، حيث
تمكّن، بقوة، من لفت الأنظار إلى موهبته التي كانت تتحين الفرصة للظهور،
رغم صغر مساحة المشاركة، وعلى الجانب الآخر تمكّن الأسمر من التواؤم إلى حد
بعيد مع الحياة والبشر من حوله، وباتت له «أسرته القاهرية»، برعاية والده
الروحي المبدع صلاح جاهين، الذي كان السند والدعم والحماية له. بـ «الجينز»
وقميص مفتوح الصدر، وشَعر أعلن الحرب، فظل مجعّدا، وموهبة بعرض الأرض
والسماء، وضع الأسمر المتألق بصمته الفنية الصغيرة جدا، وعبر مشاركة لافتة
للنظر من خلال العرض المسرحي «هاللو شلبي»، ومشاركات أخرى محدودة، كان
يتحيّن الفرصة لأدوار جديدة يعلن بها عن موهبته ليقتنص مكانته المستحقة وسط
ساحة لا تعترف إلا بالتميز. وعلى مستوى الدراسة لم يتخلّ أو يتنازل إطلاقا
عن جديته التي عرف بها منذ التحق بالمعهد، حيث كان دائما الأول على دفعته
طوال سنوات الدراسة، ورغم تفوّقه ونبوغه الدراسي، فإنه لم يركبه الغرور ذات
يوم، ولم يلعب النجاح برأسه، فيقبل على تمثيل أي أدوار تعرض عليه، أو يسعى
هو إليها يسانده تفوقه الدراسي. عن مشواره نحو القمة نواصل.
اختار زكي مسرحية «الامبراطور جونز» للكاتب الأميركي يوجين أونيل، لتكون
مشروع تخرّجه من المعهد، وكان هذا الاختيار مثيرا لدهشة رفاق دفعته، غير
أنه نجح في حصد الامتياز عن جدارة، ليؤكد أن قدراته وإمكاناته كانت مناسبة
لاختياره الصعب.
المخرج والممثل سعد أردش، (أستاذ زكي في المعهد)، كان قد تحدث عن موهبته
قائلا: «الأستاذ يمكنه التمييز بين طلابه، وزكي كان شديد التميز، ومن أول
يوم كان النبوغ واضحا عليه، وطوال دراسته في المعهد، وكان يظهر ذلك من خلال
وعيه بأدوات الممثل؛ الصوت والحركة والتعبير، ويستعد لكل شخصية بنفس القدر،
لهذا صدقه الجمهور وأحبه.
نفس المقولات أكدها د. أحمد عبدالحليم، (أحد الذين درّسوا لزكي التمثيل في
أحد الحوارات)، حيث قال: أحمد كان طالبا ناجحا بكل المقاييس، مبشرا،
ومتميزا عن أقرانه من جيله بالصدق الفني وقدرته على التوحد مع الشخصية التي
يقوم بها، لمست فيه دماثة الخلق والإنسانية وصمته الذي كان يعبّر عن تأمله
للناس على مختلف فئاتهم وشرائحهم.
اعتبر زكي نفسه أجاد مرتين؛ الأولى عندما اجتاز امتحان القبول بالمعهد،
والثانية يوم التخرج، سنواته الأولى بالعاصمة كانت صعبة ومثيرة في نفس
الوقت، إذ إن «ثلاثة أرباع طاقتي كانت تهدر في إيجاد طريقة للتعامل مع
الناس، في حين أن الربع الباقي للفن»، وفقا لما صرح به سلفا.
نقطة التحول
قبل أن يودع زكي سنوات الدراسة بالمعهد، كان قد التحق بالعمل في فرقة
«الفنانين المتحدين» للمشاركة في العرض المسرحي «مدرسة المشاغبين»، حيث
رشحه للعمل بها أستاذه الفنان سعد أردش، الذي كان بدوره مخرج العرض في
البداية، على أن تلعب بطولته الفنانة صفاء أبوالسعود ومجموعة من الوجوه
الشابة كان من بينهم زكي، إلا أن أردش اختلف مع صاحب الفرقة المنتج سمير
خفاجي، فأسند العمل للمخرج سمير العصفوري، الذي اعتذر عنه بدوره، لتصل
المهمة في النهاية للمخرج جلال الشرقاوي الذي أبقى على زكي ضمن فريق العمل،
بعد دعم من مؤلف العرض الكاتب علي سالم، أحد أعضاء «أسرة زكي القاهرية»،
التي كان زكي قد كوّنها من رواد مقهى «لاباس».
والعرض الذي حقق نجاحا مدويا واستمر سنوات، كان من بطولة الفنانة سهير
البابلي، وعادل إمام، وسعيد صالح ويونس شلبي، وهادي الجيار والفنان
عبدالمنعم مدبولي، قبل أن يعتذر عن عدم الاستمرار فيه، ويحل بديلا له
الفنان حسن مصطفى بسبب طول مدة العرض، التي كانت تزداد يوميا بسبب خروج
أبطاله عن النص، وبعد إذاعته تلفزيونيا حقق كل من شارك فيه نجاحا مضاعفا،
لذا اعتبره كل نجومه نقطة تحول في مشواره الفني، ومن بينهم الأسمر الموهوب.
وعن رأيه في تجربته مع «مدرسة المشاغبين» كان قد صرح قائلا: «لا أنكر أن
مسرحية مدرسة المشاغبين كانت تجربة مهمة في مشواري الفني، رغم أن دوري فيها
كان صغيرا و«متواضعا فنيا»، وبينما كان المطلوب من بقية الأدوار الإضحاك،
كان المفروض من دوري أن يثير الإشفاق فقط، ولكنني كنت حريصا على أن أقدم
الأبعاد الإنسانية لشخصية أحمد المراهق الشاعر، كان الجهد الفني والنفسي
كبيرا وشاقا وصعبا، إذ كان عليّ أن أصل بالدور، بحيث يكون له شخصية وكيان،
ومن دون الخروج على النص، حيث لم يكن مسموحا لي بذلك، كما يفعل الآخرون،
وأعتقد أنني استطعت، رغم ذلك، أن أجسد بصدق شخصية التلميذ المراهق الشاعر،
بدليل أنها لفتت أنظار بعض المخرجين والمنتجين.
وعلى الرغم من أن الدور كان «مقصوص الأطراف»، كما وصفه المبدع الراحل، أو
«متواضعا فنيا»، فإنه صمم على أن يجعل منه شيئا كبيرا، وفعلا نجح في تحقيق
ما أراد، حتى أعلن الدور عن ميلاد نجم كبير بسيط صادق مقنع يؤدي بسلاسة
وسهولة واقتدار أيضا الجانب الكوميدي (على الرغم من بساطته)، مثلما أدى
الجانب المأساوي في ذات الدور.
كان الفنان عبدالمنعم مدبولي، الذي قام بدور ناظر المدرسة مع بدايات عرض
المسرحية، قد قال عنه في حوار سابق: «أحمد زكي سيكون في القريب جدا فنانا
لامعا ونجما كبيرا، وهو الوحيد بين نجوم جيله الذي يمكنه تجسيد الملهاة
والمأساة، بل والجمع بينهما في دور واحد، إنه فنان كبير مرن، وقابل للتشكيل
حسب وجهة نظر أي مخرج جيد وفاهم لقدراته وإمكاناته، ينقصه فقط التفاؤل
الداخلي والثقة بالنفس.
نعم كان ينقص الأسمر الموهوب في تلك الفترة التفاؤل الداخلي، وثقته بنفسه
وليس بموهبته، وربما لهذا نجح بامتياز في تقمص شخصية الشاعر أحمد مكسور
الجناح، الفقير الغلبان، فالدور ظهر لمن يعرفون أحمد وكأنه نسخة كربونية من
حياته، بائس فقير، كما في الدور، وهكذا أيضا كان في الحياة، متفوق في
دراسته والأول على دفعته، لكنه أقرب لليأس من الحياة، أي أن الدور كان صورة
تتوافق مع ظروفه الحياتية، ربما لهذا نجح في تجسيده بكل هذا الصدق.
حول المشترك بين أحمد الممثل وأحمد الشاعر الذي جسد دوره في عرض
«المشاغبين»، كان زكي قد اعترف في حوار سابق قائلا: «في أحد المشاهد كنت
أقوم بتقطيع قصائدي وأنا أصيح في وجه المدرّسة سهير البابلي: «أنا زهقت يا
أبلة زهقت»، وعندما أخرج من على خشبة المسرح كنت أسمع تصفيق الجمهور، فأسأل
نفسي: هل أحمد الشاعر هو الذي صاح زهقت، سئمت، أم أحمد زكي الممثل؟
وفي نفس الحوار واصل قائلا: «المشاغبين» كانت ظاهرة اجتماعية أكثر منها
عملا مسرحيا، ظاهرة عاشت عدة سنوات ولاتزال، قد يختلف أو يتفق المراقبون
على مدى إيجابيتها وسلبياتها، ولكــــــن لا يختلف أحد على أنها صنعت نجوم
سطعوا في سماء الفن المصري والعربي، بعضهم بفضل نجاح المسرحية وبعضهم برغم
أنف المسرحية.
الكواليس
مع استمرار عرض المشاغبين بنجاح ولسنوات، جزء كبير من مشاكل زكي المادية
وجد لها حلا، لكن معاناته النفسية ظلت بسبب صعوبة التجانس مع من حوله، ما
يفسر لماذا لم يكن يغادر غرفته في الكواليس إلا ليؤدي دوره فقط، بل كان
يحرص على عدم دخول غرف الآخرين إلا فيما ندر، وبعد إلحاح من أصحابها، مما
يفسر لماذا صرح قائلا: «إن الأصعب من العمل على خشبة المسرح هو الساعات
التي تقضيها في الكواليس، وفي مرات كثيرة كنت أشعر بأنني مقهور، صغير،
معقّد لعدم تمكّني من التفاهم مع مَن حولي.
المؤكد أن الأسمر الموهوب، الذي قضى حياته في الزقازيق مع أناس بسطاء،
بعيدا عن هيستيريا الشهرة، والوعود والأحلام، حياة واضحة ومحددة، إما بيضاء
أو سوداء، لم يستطع التواؤم مع «مقالب المشاغبين»، مما يفسر لماذا لم يجتمع
زكي طوال مسيرته السينمائية (ما يقرب من 57 فيلما) مع «شلة المشاغبين» في
عمل سينمائي مشترك، فقط فيلم وحيد «صانع النجوم» للمخرج محمد راضي وعرضين
مسرحيين «أولادنا في لندن» و»العيال كبرت» مع سعيد صالح ويونس شلبي وحسن
مصطفى (كان مشاركا فقط في العروض المسرحية).
وفي حوار سابق كان قد اعترف: عانيت كثيرا من فرقة المشاغبين أثناء عملي
معهم، كانوا يسخرون من طيبتي وبساطتي، فمثلا ذات يوم اتفقوا على أن يرسلوا
لي خطابا مكتوبا بالإنكليزية على أساس أنه مُرسل لي من مخرج عالمي يريدني
أن أعمل معه، ومع رده فعلي وسعادتي بهذا العرض، اكتشفت أنه مجرد «مقلب»
للسخرية من سذاجتي والتندر عليّ، وخلال سنوات العرض تكررت «المقالب»،
فكانوا مثلا يستغلون حرص بعض المشاهير على الصعود للمسرح لتحية فريق العمل
في نهاية العرض، في أن انتحلوا في اليوم التالي أصوات مشاهير آخرين، لدرجة
أنني «شتمت» يوما الفنان عبدالحليم حافظ، عندما طرق باب غرفتي لتحيتي مع
بقية الزملاء، فقد ظننت أنه مقلب كغيره بغرض السخرية مني، لكنني فوجئت فعلا
بعبدالحليم حافظ بشحمه ولحمه يثني على أدائي، بل يعدني بمشاركته فيلمه
القادم «لا»، الذي رحل مع الأسف قبل أن يقدمه، باختصار كانت «المقالب»
كثيرة ومتنوعة، وكلها تهدف للسخرية مني، لذا تركت أثرا سيئا على نفسيتي
وإحساسي فعلا بالقهر.
وهكذا كانت «شلة المشاغبين» بشكل ما تضغط على أحمد زكي، تاره على خشبة
المسرح (بحكم الدور الذي يلعبه المثير للشفقة والسخرية في نفس الوقت)،
وأخرى في الكواليس (استنزفت طاقته في المقاومة)، وفي المجمل كان هناك نوع
من المهانة استشعرها الممثل والإنسان، فبقيت عالقة بقلبه وعقله لتحسم قراره
الصارم بالمقاطعة.
محلك سر
رغم أن الأسمر الموهوب بدأ مشواره الفني على خشبة المسرح، وكتب شهادة
ميلاده الفني من خلال عرض «هاللو شلبي»، قبل أن يؤكد موهبته في «مدرسة
المشاغبين»، فإن تجاربه المسرحية خلال مشواره كانت قليلة مقارنة بأعماله
السينمائية، فبعد نجاحه في «المشاغبين» لم يوجد على خشبة المسرح إلا في
عملين فقط، هما «أولادنا في لندن» و«العيال كبرت»، وهما من إنتاج «فرقة
الفنانين المتحدين» (لصاحبها المنتج سمير خفاجي)، وقد اقتسم بطولة هذه
العروض مع بعض أعضاء «شلة المشاغبين» حسن مصطفى وسعيد صالح ويونس شلبي،
الأولى كانت من تأليف علي سالم
وإخراج كمال ياسين، والثانية كتبها سمير خفاجي وبهجت قمر وأخرجها سمير
العصفوري، وبينما «أولادنا في لندن» لم تحقق نجاحا، كما كان منتجها يأمل في
استثمار نجاح «شلة المشاغبين»، فإن «العيال كبرت» حققت نجاحا معقولا،
بالأخص عندما عرضت في التلفزيون.
غير أن زكي لم يحقق تقدما على مستوى خطواته الفنية بمشاركته في هذه العروض،
وحتى على مستوى التقييم النقدي لم ينل قبولا على حد توصيف بعض الأقلام التي
رأت أنه لم يؤد بإجادة تحسب له، في حين أرجعت أقلام أخرى السبب لضعف
النصوص، المؤكد أن أحمد لم يتوهج في هاتين المسرحيتين، وقد يكون قبوله
للمشاركة بهما نوعا من الاستمرارية الفنية لا أكثر.
وفي حوار سابق كان قد اعترف بأنه قدم أدواره في هذه العروض وفقا للقيود
الفنية التي فرضها النص وتعليمات الإخراج التي درستها، باختصار كان ملتزما
بطبيعة الشخصيات التي قدمها.
مرة أخرى، هل فشل هذه العروض في الدفع بالأسمر الموهوب خطوات إلى الأمام
كان السبب وراء عزوفه عن الوجود المسرحي خلال مشواره الفني؟
كانت الأسئلة قد حاصرته، فصرح قائلا: «ليس لدينا مسرح حتى أعود إليه، لن
أعود إلا إذا عاد نعمان عاشور ويوسف إدريس وألفريد فرج وغيرهم من كتّاب
المسرح الكبار.
بعد تصوير عرض «العيال كبرت» تلفزيونيا، استقال زكي من فرقة الفنانين
المتحدين، رغم أنها كانت توفر له الحد الأدني من الأمان المادي، لم تكن
لديه خطط بديلة أو تدابير للمعيشة، لكنه فعل فقط ما ارتاح له ضميره كعادته
دائما.
الفدائي
مع انتصار السادس من أكتوبر عام 1973، عرفت السينما موجة من الأفلام ترصد
جميعها لحظات الانتصار، وكيف التأمت جراح الهزيمة من رفع العلم المصري على
أراضي سيناء، ورغم أن الإبداع لم يكن بقدر الحماس، فإنه نجح في حفر هذه
اللحظات داخل عقول ووجدان الشعب قبل ذاكرة السينما.
زكي كان سعيدا بالوجود على خريطة السينما بشكل عام، لكن زاد من سعادته
ارتباط مشوار البداية بتلك الأفلام التي ترصد أهم الأحداث في تاريخنا
المعاصر، ولحظة الانتصار التي انتظرناها طويلا.
كانت البداية بدور صغير في فيلم «بدور» (1974)، أول الأفلام التي تناولت
انتصار أكتوبر 73، وهو من تأليف وإخراج نادر جلال، ولعب بطولته الفنان
محمود ياسين ونجلاء فتحي مع مجموعة من النجوم، وبعدها رشحه المخرج محمد
راضي للمشاركة في فيلمه «أبناء الصمت» (1974)، وهو عن قصة للأديب مجيد
طوبيا، وكان من بطولة ميرفت أمين ومحمود مرسي ونور الشريف، وجسّد من خلاله
دور شاب يتم تجنيده في صفوف الجيش بعد النكسة التي تسببت في رحيل أمه
بقذائف العدو، لينمو داخله دافع قوي للانتقام، وهو ما يحققه من خلال
مشاركته في حرب الاستنزاف والمهام التي يشارك فيها حتى استشهد في حرب
أكتوبر.
تميّز أداء زكي في «أبناء الصمت» حمس المخرج محمد راضي لإشراكه في أفلامه
التالية، غير أن هذه البداية السينمائية «المتواضعة فنيا» كان يمكن أن تكون
مختلفة، أكثر قوة ومن ثم تختصر سنوات من تخبط البدايات وتضع الأسمر صاحب
الموهبة الاستثنائية في مكانته المستحقة، إلا أن الرياح أتت مع الأسف بما
لا تشتهيه السفن.
·
أحمد زكي فنان كبير مرن قابل للتشكيل... ولكن
·
لم يتخل عن جديته منذ التحاقه بالمعهد فكان الأول على دفعته دائماً
·
«مدرسة المشاغبين» صنعت نجوماً بعضهم بفضل نجاح المسرحية وبعضهم برغم أنفها |