أحمد زكي... «المتفرد» (4-15)
طريق الأشواك
هبة الله يوسف
موهبة الفنان أحمد زكي، التي تلمسها الجميع مع إطلالته الأولى، كان يمكن أن
تتكسر على أرض الواقع، لولا الإصرار والعزيمة والتحدي، لهذا نجح في اجتياز
اختبارات القبول في معهد التمثيل، وكان الأول على دفعته رغم تعثره في
المحاولة الأولى، كان يدرك أن طريقه ليس مفروشا بالورود، وأن مشواره يحتاج
إلى جهد وتعب وصبر وأشياء أخرى كثيرة، فالموهبة وحدها لا تكفي للوصول
للنجومية.
المتأمل لقصة حياة الأسمر الموهوب سيكتشف أن «الأزمات» كانت تشكل العمود
الفقري لحياته، ورغم قسوتها في أحيان كثيرة فإنها لم تستطع أن تثنيه عن
عزيمته، فقد كان يؤمن بموهبته، وطموحه كان بعرض السماء، ولولاه لاستسلم
لقدره بأن يكون «ميكانيكياً» أو على أفضل تقدير صاحب ورشة.
كانت فرحته لا توصف يوم رأى اسمه في كشوف الطلبة المستجدين المقبولين في
معهد الفنون المسرحية، وزادت سعادته حينما تصدر القائمة، والأهم أنه نجح
دون «توصيات» فقط بموهبته.
يومها طاف الأسمر شوارع القاهرة يتأمل واجهات دور السينما والمسارح وصور
النجوم تتصدر إعلاناتها، كان يتوقف طويلا ويسأل نفسه هل سيأتي اليوم الذي
سيرى اسمه على هذه الإعلانات التي تملأ الشوارع. عن سيرة الأسمر صاحب
الموهبة الاستثنائية ومشواره نحو النجومية نواصل...
لم يكن طريق الأسمر الموهوب مفروشا بالورود، فالحياة لم تكن أبدا سهلة
لطالب يتيم فقير، فأول مشكلة واجهته كانت الإقامة، أين سيقيم أربع سنوات؟
وكيف؟ خصوصا أنه بدون دخل ثابت ومضمون.
عن هذه الأيام حكى زكي في أحد حواراته قائلا: «حساسيتي المفرطة في قبول
المساعدة من الآخرين كانت دوما تعذبني، لكني، مضطرا، ولفترة انتقالية، قبلت
الإقامة عند أحد أقاربي، إلى أن أتمكن من تدبير ظروفي المعيشية، وقررت
العمل إلى جانب الدراسة حتى أخفف عنهم العبء وأتحمل مسؤولية نفسي، وبالفعل
وعن طريق عم صقر، أحد معارف أستاذي ومعلمي وفيق فهمي، وكان يعمل نجارا
بمسرح القاهرة للعرائس بالعتبة، تمكنت من العمل «كالأسير» في المسرح (وهو
الشخص الذي يقود المشاهدين بالكشاف ليجلسهم على مقاعدهم التي حجزوها)، وهو
عمل أتاح لي أن أضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، فمن ناحية كان يناسب دراستي
الصباحية في المعهد، كما أتاح لي الاقتراب من الوسط الفني بعكس العمل في أي
ورشة».
الشوارع... حواديت
رغم سعادة زكي بأنه بات على أعتاب حلمه والتحق بمعهد التمثيل فإنه كان يشعر
بالغربة دوما، وذكرياته ظلت مرتبطة بالزقازيق، البيوت التي تنقل بينها،
الشوارع التي باح لها بأسراره، مدرسته أول مكان اكتشف فيه موهبته، ناظر
المدرسة وتشجيعه له، والذي عوضه عن الحب والحنان الذي طالما افتقده.
كان الفتى الأسمر بطبعه يميل للانطواء، مثل كل الذين حرموا من رعاية ذويهم
وحنانهم، لهذا كان يفضل العزلة والوحدة، ولولا الفن لما وجد سعادته
الحقيقية والوحيدة على حد توصيفه.
وخلال حواره بإحدى الصحف حكى زكي عن تلك الأيام قائلا: «لم أكن تائها في
شوارع القاهرة المزدحمة فقط بل وفي ناسها وعلاقتهم ببعض، فالحياة عندي أبيض
وأسود، لكن هنا في القاهرة، القاسية، على حد توصيف شاعرنا سيد حجاب، وجدت
الناس على جميع الأنواع، فبعضهم يلتقيك بالأحضان لتكتشف أنه يطعنك في ظهرك،
وللأسف قلة الصدق والادعاء والكذب أكثر ما صدمني، ليس فقط في أيامي الأولى
ولكن طوال حياتي فيها، بل ظلت هذه المشاعر السلبية المترسخة في وجداني مع
طول إقامتي بها، لم أستطع التعايش معها، رغم أن كل ما كنت أبحث عنه هو
الطمأنينة والأمان».
بين الدراسة صباحا والعمل ليلا مرت شهوره الأولى بالمعهد، القراءة كانت
صديقه الأول والمحبب لقلبه، فراح يلتهم عشرات الكتب والمسرحيات والروايات
الموجودة في مكتبة المعهد، وكأنه وقع على كنز فتح أمامه آفاقا أكثر رحابة،
وساعده على تنمية معرفته وثقافته، ما انعكس لاحقا على اختياراته ورؤيته،
حتى في فترات الراحة بين الفصول كان يذهب جانبا يطالع كتابا أو يمارس هواية
التأمل في البشر والأشياء من حوله، وربما «يدندن» مقطعا من أغنية للعندليب
الأسمر، كما حكى زميل دفعته الفنان صبري عبدالمنعم، ويلتف حوله الجميع
يطالبون بمزيد من الأغنيات، فيبتسم خجلا قبل أن يرتفع صوته بالغناء مجددا،
وأحيانا كان يقلد الزعيم جمال عبدالناصر في خطبه الحماسية، وأخرى الرئيس
السادات بنفس مفرداته وعباراته الشهيرة، أما إذا قلد الراحل العظيم محمود
المليجي فلن يكون للضحك نهاية.
حرص زكي على أن يركز في دراسته عمليا ونظريا لذا تفوق على دفعته (واصل
تفوقه خلال سنوات الدراسة الأربع) كما لفت نظر أساتذته جميعا، وفي مقدمتهم
د. رشاد رشدي أستاذ الأدب الإنكليزي الذي أزعجه مستوى زكي الضعيف في مادته
مقارنة ببقية المواد، والتي كان يتحصل فيها على الدرجات النهائية، لذا كان
يهتم به ويرعاه بشكل خاص.
زكي كان قد حكى عن ثلاثة من أساتذة لن ينسى فضلهم أبدا واهتمامهم به
ورعايتهم له طوال فترة دراسته، وهم الأستاذ رشاد رشدي الذي دأب على تشجيعه
وتقديم العون له، والدكتور علي فهمي الذي قال عنه «مهما قلت عنه لن أوفيه
حقه ولا قدره أبدا، منه تعلمت أسس وأصول فن التمثيل»، كذلك الفنان كرم
مطاوع هو الآخر قال عنه «أحببته على المستوى الفني والإنساني، قد لا يسألني
طول العام، لكن عندما يشرف على مشروع تمثيل داخل المعهد كان يناديني
ويعطيني الفرصة، كان يحتويني ويشعرني دوما أنه يخاف علي ويحبني».
الصدمة الأولى
حينما التحق زكي بمعهد التمثيل لم يكن مشغولا بفكرة النجم، ربما بحكم
مكوناته البيئية والنفسية والمعرفية كان أبعد ما يكون عن هذا الحلم، لكن في
أعماقه الدفينة كان الحلم قابعا داخله يتحين الفرصة كي يحلق عاليا، فهو يعي
تماما موهبته وقدراته.
وجاءت أولى الفرص بمناسبة الاحتفال «بألفية» مدينة القاهرة، وهو الحدث
الثقافي الهام الذي أعلنه وقتها، وكان أحد معالم الاحتفال تقديم أوبريت خاص
بهذه المناسبة كلف بكتابته المبدع الراحل صلاح جاهين، واستدعي لإخراجه
الألماني أرفين لاستر، ولأن العمل كبير وضخم رشح زكي ضمن مجموعة من طلبة
المعهد للعمل في الأوبريت «كومبارس» وفي أدوار صغيرة، وبالطبع طار زكي من
الفرحة، فالعمل كبير وضخم ومهم وسيشاهده رموز الفن والثقافة في مصر باختصار
يمكنه لفت الأنظار لموهبته بغض النظر عن مساحة دوره.
ولأن المخرج ليس لديه أية حسابات تحدد اختياراته لبطل العمل، فقط الموهبة
ومدى توافقها مع الشخصية التي سيلعبها المرشح للبطولة، لذا لفت نظره الأسمر
النحيل ذا الشعر المجعد الذي تلمع عيناه وتتوهج موهبته، وهو يؤدي دورا
صغيرا جدا، راح يتقنه بتفهم ويؤديه بإتقان وحساسية، وبالفعل رشح لبطولة
العمل، بل وتمسك بهذا الاختيار، رافضا عددا من الترشيحات لنجوم كبار، فلقد
أدرك بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الفتى ليس من طينة عادية، فموهبته حاضرة
وبقوة.
وخلال أحد حواراته حكى زكي عن هذه الفرصة قائلا: «كانت سعادتي لا توصف يوم
رشحني أساتذتي في المعهد مع عدد من زملائي للمشاركة في هذا الأوبريت، نظرا
لأهميته إعلاميا، لهذا كنت حريصا على التركيز في دوري، الذي كان أقرب
لكومبارس ناطق، خصوصا أنه أول عمل فني أشارك فيه بعد شهور قليلة من دخولي
المعهد، لكن لم يخطر في بالي للحظة أن مخرج العمل يمكن أن يختارني بطلا،
يومها لم أصدق نفسي والألماني يثني على أدائي بقوة، ثم فوجئت به يطلب مني
أن أؤدي مشهدا من دور بطل العرض، لم أفهم للحظات سر هذا الطلب، ثم خشيت أن
أصدق أن الحلم قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وبصعوبة تمالكت نفسي وضبطت
أدائي، ثم طلب مني أن أؤدي مشهدا آخر، وثالثا ورابعا، ثم صعدنا لخشبة
المسرح وقدمت نفس المشاهد بالحركة، متلافيا كل الملاحظات السلبية، وما إن
انتهيت حتى فوجئت بالمخرج الألماني يعرب عن سعادته بأدائي، بل يعلن عن
ترشيحي في دور بطل العمل، وبالطبع طرت من الفرحة، ولم أصدق ما حدث، خصوصا
أن حماس مخرج العمل لم يكن منفردا، بل شاركه نفس الحماس مؤلف الأوبريت
الشاعر المبدع صلاح جاهين الذي تلمس هو الآخر موهبتي وتحمس لهذا الترشيح».
مرة أخرى لا تأتي الرياح بما تشتهيه السفن، إذ فوجئ الجميع بسعيد أبوبكر،
مدير المسرح آنذاك، يرفض وبشكل قاطع هذا الترشيح، بحجة أن زكي مازال وجها
جديدا أو على حد توصيفه «ده لسه عضمه طري».
وعبثا حاول لاستر الألماني والمبدع صلاح جاهين إقناع أبوبكر بالعدول عن
رأيه والدفع بموهبة جديدة واضحة وضوح الشمس من شأنها تثري الساحة الفنية
وتجدد دماء الفن، وتثبت أن مصر ولادة دوما بالمبدعين، إلا أن مدير المسرح
تمسك برأيه الرافض لأي مغامرة أو التفكير خارج القوالب المعتادة، بل استخدم
حقه كمسؤول عن الإدارة بضرورة وجود بطل معروف له اسمه.
تعامل أبوبكر «المسؤول» بقوانين الموظف لا بحس ورؤية فنان لا يمكنه تجاهل
موهبة استثنائية مثل أحمد زكي، موهبة استوقفت الألماني لاستر والمبدع صلاح
جاهين، لكنه لم يستطع المغامرة والتحليق بعيدا عن قواعد سوق الفن وشروطه
وينتصر للموهبة «الاستثنائية».
بالتأكيد كانت لحظة أخرى صادمة عاشها الفتى الأسمر، مزيج من القهر والظلم
ولأسباب غير منطقية، فطالما آمن بأن الموهبة هي الفيصل في النجاح، لو
متفردة حتما ستفرض نفسها، لكنه وكما اعترف في حوار سابق كان أصغر من أن
يفهم حسابات السوق والشروط الواجب توافرها والعلاقات وتفاصيل أخرى كثيرة
أدركها لاحقا ولكنه ظل فاشلا في التكيف معها وقبولها، وفي كل الحالات ليس
أمامه إلا إجادة دوره وتجسيده كما يستشعره ويفهمه.
الأب الروحي
تأثر زكي كثيرا من موقف أبوبكر ورفضه له، حزن بشدة وفكر للحظات في أن ينسحب
من العرض، لكنه رجح كفة العقل وقرر الاستمرار حتى لو «كومبارس»، فقد أدرك
أن هذا المخرج يمتلك من العلم والخبرة ما سيضيف له، ومن ثم يستفيد في تطوير
أدواته الفنية، وهو مازال في بداية مشواره الفني بحاجة لكل خبرة ليتعلم
منها.
وعلى الجانب الآخر رفعت هذه الواقعة أسهم هذا الطالب الفقير المعدم في
أوساط المهنة بشكل عام، وفي المعهد بشكل خاص، خصوصا وسط زملائه الذين
تعاطفوا مع زميلهم، فأن يحصل طالب في السنة الأولى على بطولة أوبريت ضخم
محاط بكثير من الدعم الإعلامي والثقافي، كان بمنزلة انتصار للموهبة ضد كل
شروط السوق وآليات العمل التي تحدد مصير المواهب.
ولأن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فإن الجزء الأهم في هذه الواقعة هو ما
قدمته كواليس هذا العمل للطالب المغمور، حينما أتاحت له التعرف على واحد من
أبرز رموز الفن والثقافة هو المبدع الراحل صلاح جاهين الذي أدرك من الوهلة
الأولى أنه أمام موهبة استثنائية، يخطف البصر بوجهه الأسمر، وبما في عينيه
من بريق متحفز للمعرفة والاكتشاف، لذا راح يسانده معنويا ويحتويه انسانيا
في محاولة للتخفيف عنه بسبب حزنه على ضياع «فرصة العمر».
وإذا كانت علاقة زكي وجاهين قد بدأت بلحظة تعاطف إنساني وفني، فإنها تحولت
مع انتهاء العرض لأبوة حقيقية ورعاية إنسانية وفنية لم تتوقف أبدا.
كان زكي حكى عن جاهين في حوار سابق قائلا: «صلاح جاهين كان بالنسبة لي الأب
الروحي والصديق الصدوق، نجح في التعامل مع حالتي النفسية، ويخفف كثيرا من
تشاؤمي، وحقق لي نوعا من التوازن النفسي الذي كنت أحتاجه بشدة، كان يشجعني
باستمرار مؤكدا لي «انت حتكون كويس جدا»، وهي كلمات كانت كالسحر بالنسبة
لي، وشعرت معه بالأمان الذي كنت أفتقده، خصوصا بعدما عرف مجمل ظروفي،
تبناني جاهين نفسيا وفنيا، لدرجة أنه مثلا رفض نيابة عني وبشدة عرض المخرج
الألماني بالسفر معه لبرلين للعمل معه، مؤكدا ضرورة أن أكمل دراستي أولا،
كذلك مشواري المهني الذي يجب أن ينطلق من بلدي لأصل بعدها للعالمية، فقد
كان رحمه الله يعشق بلده ويتمنى له كل الخير، وفي نفس الوقت كان يرى أن
قدومي من الزقازيق للقاهرة نقلة كبيرة بالنسبة لي، فما بالنا من الزقازيق
إلى ألمانيا، باختصار نجح جاهين في أن يتفهم طبيعتي وظروفي النفسية ومن
الوهلة الأولى، لذا ظللت أحمد الله أنه عوضني بهذا الأب الحنون الذي ظل
يحمل همي حتى آخر لحظة في عمره.
تجاوز الأسمر الموهوب صدمته فكيف واصل مشواره؟
هذا ما سوف نعرفه في الحلقة القادمة.
من أول نظرة
لم يودع الأسمر مدينته، عشقه الزقازيق، التي ظلت محفورة بوجدانه وعقله
فحسب، لكنه ودع أيضا «أول خفقة» وأول لهفة، حبه الأول الذي اشتعل من أول
نظرة، ورغم ذلك لم يستطع الصمود ومواجهة الحياة، فهو الفقير اليتيم لا
يمتلك إلا حبه وأحلامه والتي كانت أكبر من أن يستوعبها العقل، وهي ابنة
إحدى العائلات التي احتوته، وقدمت له الرعاية والحنان في سنوات طفولته
وصباه، غير أن الظروف اضطرتها إلى أن تقبل «العريس الجاهز»، صدمه الخبر
فبكى بحرقة على الحب الذي كان، والذي وقف عاجزا عن حمايته والدفاع عنه، لم
يلمها يومها، كذلك عائلتها التي حرص على أن يمد دوما حبل الود معها، عرفانا
بالجميل، فيما حبه وذكرياته ظلت عالقة بالقلب مطمورة مع غيرها في صندوقه
الأسود.
·
اختاره المخرج الألماني للبطولة ورفضه مدير المسرح د. علي فهمي ود. رشاد
رشدي والفنان كرم مطاوع... ثلاثة أساتذة في المعهد لم ينس زكي فضلهم أبداً
·
في أوبريت «القاهرة في ألف عام» ضاع الحلم وكسب قلب وعقل صلاح جاهين |