تقنيات سينمائية أخرى.. أبطال يعملون بصمت!
هناك بداية الأصوات المزعجة خلف الجدار. بالتوازي مع اللقطات
الحياة اليومية للعائلة، يسمع المشاهدون باستمرار ضوضاء مكتومة
مخيفة. طلقات، أوامر بالألمانية، صرخات ألم. ومن المفارقة أنّ
هذه الأصوات تندمج في بعض الأحيان مع صرخات أطفال هيس
ومحادثاتهم المبهجة، لدرجة أنه في بعض الأحيان يكون من
المستحيل تحديد من يصرخ - طفل أم ضحية من وراء الجدار؟
يمكن اعتبار الصوت إذاً أحد الشخصيات الرئيسية في الفيلم - فهو
يعكس جوهر المقتلة ويُجسّد بشكل مثالي جوّ الرعب الذي ساد
بالقرب من أوشفيتز. الصوت هو دليلنا الوحيد على الفظائع التي
تُسمع في الخلفية طوال الفيلم.
ينسج كل من مدير التصوير لوكاس زال ("إيدا" و"الحرب الباردة")
والملحنة ميكا ليفي، ومحرر الصوت جوني بيرن نسيجاً متماسكاً،
فبينما تصور الإطارات الثابتة واللقطات البعيدة والزوايا
الواسعةُ الهدوءَ السطحي لحياة الشخصيات، تكسِرُ موسيقى ليفي
وتصميم صوت بيرن هذا الهدوء برعبِ المعسكر. إذ تصدَعُ صرخاتٌ
بعيدة وأصوات إطلاق نار مكتومة وهديرُ الفرن الصناعي الباهت
الواقعَ اللطيف، يتخللها نشازٌ موسيقي. تصبح هذه العناصر أدوات
رواية قوية، حيث تتحوّلُ الصور المبتذلة - زي قوات الأمن
الخاصة المكوي بعناية، والتنزه في شوارع مدينة محتلة، والوهج
الناري للمعسكر - إلى شهاداتٍ على رعب يفوق الوصف.
تم استخدام الموسيقى والصور في الفيلم بطريقة غير معتادة؛ في
البداية، عندما يختفي العنوان، تظل الشاشة مظلمة مع موسيقى
نابضة لبضع دقائق، وتدريجيًا سنسمع تغريد الطيور وثرثرة الناس.
يظهر مشهد فاصل مقلق في منتصف الفيلم، عندما تقترب الكاميرا
وتقتحم بالفعل زهور الحديقة بصور متنوعة لورود الحديقة قبل أن
تتحول الشاشة بكاملها لمساحة حمراء دموية وفي الخلفية أصوات
المعذبين.
يتعامل جلازر مع موضوع المحرقة بحساسية، ولكن بثوريّة أيضاً.
فنحن نلاحظ الحياة اليومية لعائلة سعيدة عادية. وفي عملية
المونتاج، اختيرت أفضل اللقطات من مئات الساعات المسجَّلة،
لتغدو هي الفيلم الذي نشاهده. ومن اللافت أيضاً أنّ أحداً من
طاقم التصوير أو الطواقم التقنية الأخرى لم يكن موجوداً في
موقع التصوير، إذ جلَسَ المخرج وطاقمه الفني كاملاً في مقطورة
صغيرة يرصدون التدفٌّق السلس للحياة فيما يشبه تصويرٍاً
وثائقياً.
لا يمكن أيضاً تجاهل السينماتوغرافيا، بأسلوبها الجميل لكن
القاسي، والذي قد يذكرنا بسوريالية أعمال روي أندرسون ومشاهده
الثابتة الطويلة.
من غير المنطقي هنا الحديث عن هذا الفيلم دون أن نُعرِج على
أداء الممثلين. بالإمكان القول بقدرٍ من الثّقة أنَّ أدائهم
يشكل ملمحاً بارزاً من ملامح هذا الفيلم، ولا سيّما أداء
ساندرا هولر المثير للإعجاب. نحن أمام شخصية توافق على الوضع
الحالي وتحاول تحقيق أقصى استفادة منه. يلعب كريستيان فريدل
دور شخصيته بطريقة مشابهة، ربما أكثر صرامة، حيث يشكل هَوس
جنديٍ مخلصٍ ليس فقط للحزب، ولكن أيضًا للنظام بأكمله الذي
يديره ويخدمه بالفعل. لا يُظهر أبدًا علامات الندم، ناهيك عن
العداء والازدراء تجاه السجناء، معتبرًا إياهم أرقامًا بسيطة
في معادلة الحل النهائي، لدرجة مناقشة استخدام الغاز مع
المهندسين النازيين بينما يقدّم الخدم (اليهود) الشاي في
الغرفة المجاورة.
المحرقة وتكرار الذاكرة
قد يحسَبُ المرء أنّه ليس لدى السينما والأدب ما يضيفاه من
جديدٍ عن المحرقة بعد كلّ هذا الوقت. سابقاً في فيلم وثائقي
بعنوان "أوسترليتس"، أظهر المخرج سيرجي لوزنيتسا سيَّاحًا
يضحكون وهم يلتقطون الصور في معسكرات اعتقال سابقة. لقد تحولت
المحرقة إلى ترفيه، لكن لا يمكن نسيان أهوال الحرب العالمية
الثانية، لذلك يعود صناع السينما إلى الموضوع الرهيب مرارًا
وتكرارًا.
تُظهر العديد من الأفلام (قائمة شندلر، والحياة جميلة، عازف
البيانو) صراحة الجحيم الذي مر به سجناء داخاو وأوشفيتز. لقد
عُرضت أهوال المحرقة خارج الشاشة من قِبل ألين رينيه في الفيلم
الوثائقي القصير "الليل والضباب". تتحرك الكاميرا فوق أنقاض
أوشفيتز بينما يصف صوت الراوي المحايد انتشار الأيديولوجية
النازية. وبدره، اتَّبع كلود لانزمان نفس النهج تمامًا في
فيلمه الوثائقي الضخم "Shoah".
إذ يتذكر الحراس الألمان السابقون وسكان القرى البولندية
وسجناء معسكرات الاعتقال الماضي، وهم يقفون على خلفية الغابات
والحقول حيث قُتل الناس عمداً خلال الحرب العالمية الثانية.
"منطقة الاهتمام" فيلم قوي ومزعج، يثير العديد من الأسئلة حول
طبيعة الشر، واللامبالاة البشرية، وقدرة الناس على التكيف مع
ظروف الحياة المرعبة. لا يقدم الفيلم إجابات جاهزة، لكنه يترك
المشاهد مع شعور بعدم الارتياح وعدم الرغبة في نسيان أهوال
الماضي. يجبرنا الفيلم على التفكير في دور الفرد في نظام أكبر،
وفي سهولة التواطؤ مع الشر حتى دون المشاركة المباشرة فيه.
إنه تذكير قوي بأن الوحشية لا تحتاج دائمًا إلى وجوه ملثَّمة
أو أسلحة مشرعة. يمكن أن توجد أيضًا في المنازل ذات الحدائق
الجميلة وفي نفوس الآباء والأمهات الذين يحبون أطفالهم. |