خاص بـ«سينماتك»

 

The Zone of Interest

الشّر كطفلٍ مدللٍ في الأسرة!

بقلم: عمّار ملص*/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 

في كتابها المعنون "أيخمان في القدس: تقرير عن عادية الشر" تقول حنا آرندت: "تكمُن عاديَّة الشر في أنه ليس له عمق، ليس له بُعد شيطاني. إنه مجرد مَيلٍ لعدم التفكير، الأمر الذي يؤدي حتمًا إلى جرائم فظيعة"، فنحن ونتيجة تأثرات ثقافية نستهلكها دون نقد، نقنع أنفسنا بأن الشر غير إنساني وبالتالي يجب أن يكون وحشًا يسهل التعرف عليه.

تُعلّمنا آرندت من خلال استخدامها مثال أدولف أيخمان أنّ الشر ليس كاريكاتيريًا ولا وحشاً غير إنساني، ولكنه قبل كلّ شيء أمرٌ عادي، ولهذا فهو إنساني للغاية ويصعب التعرف عليه. حتى أكبر المجرمين يحبّون أطفالهم وحيواناتهم بشرف وحقيقية. تماماً مثل أيخمان على سبيل المثال، ولنتذكّر أنّه كان مجرَّد شخص يؤدي وظيفته بضمير حي، وظيفة بيروقراطية، ويفي بالواجبات التي أُوكلت إليه وكان يأمل في الترقية في حياته المهنية.

يبدأ فيلم "منطقة الاهتمام" الحائز على جائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز الأوسكار 2023، بتوقيع الإنكليزي جوناثان غلازر، بعرض عائلة عادية من الطبقة المتوسطة. زوجان محاطان بأطفالهما وأصدقائهما ومربِّية، يسترخون في سكينةٍ على ضفاف النهر في يومٍ مشمس. لكن سُرعان ما يتّضح أنّ هذه العائلة ليست عاديَّة على الإطلاق - فهذه هي عائلة أول قائدٍ سيئ السمعة لمعسكر أوشفيتز، رودولف هيس، الذي كان أحد الشخصيات الرئيسية المسؤولة عن تنفيذ سياسة الإبادة الجماعية لليهود في الرايخ الثالث.

عائلة كبيرة وودودة لديها خدم تعيش في منزل واسع. يوجد حديقة في المكان. تحبّ الزوجة (لعبت دورها ساندرا هولر، الحائزة على جائزة أفضل ممثلة في برلين 2006 عن فيلم Requiem، إضافة إلى دورها المميز في فيلم Toni Erdmann عام 2016) حفر الأحواض والعناية بالزهور والتنزُّه متباهيةً حول ممتلكاتها. أمّا الزوج (كريستيان فريدل، شاهدناه في أدائين مميزين على الأقل في Never look away عام  2018 إضافة إلى دوره المميز في The white ribbon  بتوقيع العبقري مايكل هاينكه)، فمنغمس في العمل دوماً، يتجوّل في المنزل بهدوء ويعطي تعليماته عبر الهاتف. يلعب الأطفال بهدوءٍ على العشب، ويسبحون في المسبح ويضحكون. في عطلة نهاية الأسبوع، يذهب الأب والابن والابنة للتجديف في أقرب نهر، أو تتشمس تحت أشعة الشمس بجانب البركة.

الرعب من الهوامش

يتجنّب الفيلم تمامًا عرض الفظائع التي حدثت خلف جدران أوشفيتز. بدلاً من ذلك، يتبع الفيلم الحياة اليومية لعائلة هيس. ويتجلى الرعب الحقيقي في الطريقة التي يتعاملون بها مع روتينهم اليومي - الاستعداد للمدرسة، وتنظيف الحديقة، والسباحة في المسبح، واستقبال الضيوف، وقراءة قصص ما قبل النوم، وتناول العشاء، دون أي شيطنة لشخصيات الفيلم. يتجلى أيضاً في التعاطي البسيط مع أحداث يُفترض أنها تحمل طابعاً مرعباً، فنحن نرى الابن يلعب في غرفته بفكِّ بشري، وتقوم الخادمات والزوجة بفرز متعلّقات المنكوبين من أوشفيتز وكأن لا شيء يحدث هناك على مقربة من حياتهم الصافية.

تنشأ المشكلات الحقيقية للعائلة عندما يُعيَّنُ الزوج رودولف في موقع جديد، لكن زوجته ترفض رفضًا قاطعًا مغادرة منزل العائلة الذي أمضت سنوات في بنائه. لم يجبر أحد العائلة على العيش بجوار أوشفيتز مباشرة - كان الأمر ببساطة أكثر ملاءمة للأب لمراقبة ما يحدث هناك باستمرار. ولا يبدو أنهم يكترثون لكون منزلهم مليء برائحة الرماد، وأن الرماد البشري وبقايا العظام تطفو بشكل دوري في النهر بالقرب من المنزل. ويواصل الوالدان "المحبّان" إقناع الجميع بأن هذه بيئة صحيّة لتربية الأطفال.

ينتقل الفيلم بعدها إلى فضاء آخر، فضاء العمل، رب الأسرة هنا يصبح رب العمل، وننتقل من الاجتماع الأسري في الحديقة إلى احتفال يجمع موظفي النظام النازي. يخرج رودولف إلى الشرفة المطلة على إحدى الغرف - كان الحشد في الأسفل يتحدثون عن شؤونٍ يومية ثانوية؛ وبينما راح البعض يناقشون المسرح، تذكَّر آخرون إجازتهم. لكن رودولف كان يفكر حصريًا في العمل، وكان يحاول معرفة كيفية خنق السجناء بالغاز، وهو تحدٍ آخر بسبب ارتفاع سقوف مخيمات الإبادة.

يثير هذا التعاطي المبالغ في بروده التساؤل عن فظاعةِ تحوّل البشر العاديين إلى وحوش بيروقراطيين. لا يحتاج الأمر إلى أوامر صريحة بالمشاركة في الفظائع. يكفي فقط غضّ الطرف عن المعاناة التي تحدث خلف الجدار، والتركيز على الشؤون اليومية الاعتيادية.

 
 
 
 

تقنيات سينمائية أخرى.. أبطال يعملون بصمت!

هناك بداية الأصوات المزعجة خلف الجدار. بالتوازي مع اللقطات الحياة اليومية للعائلة، يسمع المشاهدون باستمرار ضوضاء مكتومة مخيفة. طلقات، أوامر بالألمانية، صرخات ألم. ومن المفارقة أنّ هذه الأصوات تندمج في بعض الأحيان مع صرخات أطفال هيس ومحادثاتهم المبهجة، لدرجة أنه في بعض الأحيان يكون من المستحيل تحديد من يصرخ - طفل أم ضحية من وراء الجدار؟

يمكن اعتبار الصوت إذاً أحد الشخصيات الرئيسية في الفيلم - فهو يعكس جوهر المقتلة ويُجسّد بشكل مثالي جوّ الرعب الذي ساد بالقرب من أوشفيتز. الصوت هو دليلنا الوحيد على الفظائع التي تُسمع في الخلفية طوال الفيلم.

ينسج كل من مدير التصوير لوكاس زال ("إيدا" و"الحرب الباردة") والملحنة ميكا ليفي، ومحرر الصوت جوني بيرن نسيجاً متماسكاً، فبينما تصور الإطارات الثابتة واللقطات البعيدة والزوايا الواسعةُ الهدوءَ السطحي لحياة الشخصيات، تكسِرُ موسيقى ليفي وتصميم صوت بيرن هذا الهدوء برعبِ المعسكر. إذ تصدَعُ صرخاتٌ بعيدة وأصوات إطلاق نار مكتومة وهديرُ الفرن الصناعي الباهت الواقعَ اللطيف، يتخللها نشازٌ موسيقي. تصبح هذه العناصر أدوات رواية قوية، حيث تتحوّلُ الصور المبتذلة - زي قوات الأمن الخاصة المكوي بعناية، والتنزه في شوارع مدينة محتلة، والوهج الناري للمعسكر - إلى شهاداتٍ على رعب يفوق الوصف.

تم استخدام الموسيقى والصور في الفيلم بطريقة غير معتادة؛ في البداية، عندما يختفي العنوان، تظل الشاشة مظلمة مع موسيقى نابضة لبضع دقائق، وتدريجيًا سنسمع تغريد الطيور وثرثرة الناس. يظهر مشهد فاصل مقلق في منتصف الفيلم، عندما تقترب الكاميرا وتقتحم بالفعل زهور الحديقة بصور متنوعة لورود الحديقة قبل أن تتحول الشاشة بكاملها لمساحة حمراء دموية وفي الخلفية أصوات المعذبين.

يتعامل جلازر مع موضوع المحرقة بحساسية، ولكن بثوريّة أيضاً. فنحن نلاحظ الحياة اليومية لعائلة سعيدة عادية. وفي عملية المونتاج، اختيرت أفضل اللقطات من مئات الساعات المسجَّلة، لتغدو هي الفيلم الذي نشاهده. ومن اللافت أيضاً أنّ أحداً من طاقم التصوير أو الطواقم التقنية الأخرى لم يكن موجوداً في موقع التصوير، إذ جلَسَ المخرج وطاقمه الفني كاملاً في مقطورة صغيرة يرصدون التدفٌّق السلس للحياة فيما يشبه تصويرٍاً وثائقياً.

لا يمكن أيضاً تجاهل السينماتوغرافيا، بأسلوبها الجميل لكن القاسي، والذي قد يذكرنا بسوريالية أعمال روي أندرسون ومشاهده الثابتة الطويلة.

من غير المنطقي هنا الحديث عن هذا الفيلم دون أن نُعرِج على أداء الممثلين. بالإمكان القول بقدرٍ من الثّقة أنَّ أدائهم يشكل ملمحاً بارزاً من ملامح هذا الفيلم، ولا سيّما أداء ساندرا هولر المثير للإعجاب. نحن أمام شخصية توافق على الوضع الحالي وتحاول تحقيق أقصى استفادة منه. يلعب كريستيان فريدل دور شخصيته بطريقة مشابهة، ربما أكثر صرامة، حيث يشكل هَوس جنديٍ مخلصٍ ليس فقط للحزب، ولكن أيضًا للنظام بأكمله الذي يديره ويخدمه بالفعل. لا يُظهر أبدًا علامات الندم، ناهيك عن العداء والازدراء تجاه السجناء، معتبرًا إياهم أرقامًا بسيطة في معادلة الحل النهائي، لدرجة مناقشة استخدام الغاز مع المهندسين النازيين بينما يقدّم الخدم (اليهود) الشاي في الغرفة المجاورة.

المحرقة وتكرار الذاكرة

قد يحسَبُ المرء أنّه ليس لدى السينما والأدب ما يضيفاه من جديدٍ عن المحرقة بعد كلّ هذا الوقت. سابقاً في فيلم وثائقي بعنوان "أوسترليتس"، أظهر المخرج سيرجي لوزنيتسا سيَّاحًا يضحكون وهم يلتقطون الصور في معسكرات اعتقال سابقة. لقد تحولت المحرقة إلى ترفيه، لكن لا يمكن نسيان أهوال الحرب العالمية الثانية، لذلك يعود صناع السينما إلى الموضوع الرهيب مرارًا وتكرارًا.

تُظهر العديد من الأفلام (قائمة شندلر، والحياة جميلة، عازف البيانو) صراحة الجحيم الذي مر به سجناء داخاو وأوشفيتز. لقد عُرضت أهوال المحرقة خارج الشاشة من قِبل ألين رينيه في الفيلم الوثائقي القصير "الليل والضباب". تتحرك الكاميرا فوق أنقاض أوشفيتز بينما يصف صوت الراوي المحايد انتشار الأيديولوجية النازية. وبدره، اتَّبع كلود لانزمان نفس النهج تمامًا في فيلمه الوثائقي الضخم "Shoah". إذ يتذكر الحراس الألمان السابقون وسكان القرى البولندية وسجناء معسكرات الاعتقال الماضي، وهم يقفون على خلفية الغابات والحقول حيث قُتل الناس عمداً خلال الحرب العالمية الثانية.

"منطقة الاهتمام" فيلم قوي ومزعج، يثير العديد من الأسئلة حول طبيعة الشر، واللامبالاة البشرية، وقدرة الناس على التكيف مع ظروف الحياة المرعبة. لا يقدم الفيلم إجابات جاهزة، لكنه يترك المشاهد مع شعور بعدم الارتياح وعدم الرغبة في نسيان أهوال الماضي. يجبرنا الفيلم على التفكير في دور الفرد في نظام أكبر، وفي سهولة التواطؤ مع الشر حتى دون المشاركة المباشرة فيه. إنه تذكير قوي بأن الوحشية لا تحتاج دائمًا إلى وجوه ملثَّمة أو أسلحة مشرعة. يمكن أن توجد أيضًا في المنازل ذات الحدائق الجميلة وفي نفوس الآباء والأمهات الذين يحبون أطفالهم.

* عمّار ملص

·      من مواليد دمشق 1978.

·      خريج المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق - قسم الدراسات المسرحية عام 2004.

·      أنشأ مع مجموعة من الخريجين عام 2004 فرقة "استوديو المسرح" التي قامت بمجموعة من العروض المسرحية بين سوريا والمملكة المتحدة.

·      في عام 2006، انتقل إلى المملكة العربية السعودية حيث أسس مع مجموعة من الأجانب فرقة "Riyadh Community Theatre" والتي قدمت مجموعة من العروض المسرحية.

·      أخرج بعضاً من هذه المسرحيات.

·      بين عامي 2012 و2016، أدار نادياً للسينما، حيث تم عرض مجموعة من الأفلام التي تشكل حضوراً هاماً في السينما، وكان يتبع عرض الأفلام جلسة لنقاشها.

 
 

سينماتك في ـ  15 يوليو 2024

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004