قد نشاهد فيلماً قصيراً يتفوق على عشرات الافلام الطويلة؛
ويبقى ساكناً بداخلنا طوال حياتنا.. هذا ما فعله فيلم "سارق
النور" لـلمخرجة البارعة إيفا داود التي توغلت بنا في معنى خفي
وحميم وصادق وعصي على التفسير المنطقي المجرد، أنه فيلم يغوص
في معنى مأزق الحب حين يُسرق جوهره، إذ يتحول من معنى شفيف لا
تحد حدوده الانسانية ،الوجدانية والشعورية، إلى إشباع لحظي
مادي حسي فاقد لأي معنى سامي؛ ومنتصر فقط للغريزة البشرية
الفارغة من رحيقها الوجودي؛ تلك الغريزة التي في لحظة محمومة
يكون الفعل الحسي فيها من أعذب وأروع ما في الحياة؛ وفي لحظة
مقابلة ـ غير مكتملة الشروط ـ يكون فعلاً بوهيمياً وبهيمياً
لحظياً نفعياً حيوانياً.. لكلا الطرفين.. هكذا هو الاشتعال
الجنسي في لحظات الانتشاء المباحة ولحظات الإشباع النهمة، لذا
فالفيلم ينتصر للأنثى بحكم أنها المسروقة والمسلوبة بسبب تسليم
قلبها وجسدها لمن لا يستحق. وهو ينتصر أيضاً للرجل، لأن هناك
أنثى ستسلبه كيانه الرجولي لسبب أو لآخر.
خديعة الحب النفعي
إذن، يصحب الفيلم مشاهده خلال 19دقيقة في سياقات حلمية، تكاد
تبدو فانتازية ولكنها سرعان ما تكشف عن بعدها الواقعي الأليم
(درامياً)، لكي تُفسر معنى انتهاك الجسد ـ الروح بخديعة الحب
النفعي؛ الجسد حين تُسرق منه جذوته وفرحته وتحليقه، الانتهاك
الذي يغتال شغف الحب ونداء الوله، ويجعلنا نتسائل: ترى كيف
لقلب سُلب منه جوهر روحه أن يتغلب على خزي السلب ويستعيد نوره
وانبهاره وتوقه للحياة المحبة التي تتمناها كل امرأة.. كل
رجل.. كل انسان.
هل من الممكن أن يشع النور من الظلام؟ هل نحن جميعاً ضحايا حب
ما؟ هل الوجع ينسانا بعد صدمة خداع ونفعية الحب الزائف؟ هل
يتلاشى وجعنا؟..تلك الأسئلة وأكثر يجتهد الفيلم في الإجابة
عنها. ويجد المتفرج نفسه وقد سافر بخيال ووجدانه في معاني
غائرة داخله؛ في ذلك العمق العصي على التناول السطحي، لأنه هو
المدخل لفهم إشكالية أن يكون الحب بلا نبض، وأن يكون الشغف حسي
فج مجرد من سحره وكيمياؤه واحساسه الذي احتار فيه المحبون و
الشعراء والأدباء والمتصوفة.
يدور العمل، الذي نال 188 جائزة في مهرجانات عالمية وحظي بعروض
في بلدان وعواصم ومراكز ثقافية، حول فقدان "روح الحب.. شغف
الحب"، حول خيبات البشر عندما تصبح النساء كئيبات خاليات من
الحيوية، وعندما يصبح الرجال ذئاب سارقي الفرحة، ويتحول الواحد
منهم إلى زئر نساء.
سارق وضحية
تبدأ القصة بشخصية "أدهم- يؤدي الدور أنغيل دي ميغل" الذي يبدو
وديعاً ممتليء بالرجولة والجاذبية والوسامة، وكل ما يفكر فيه
أجساد النساء لأنها طريقه للإنتقام منهن. فكل ما يدور بخلده هو
إيقاع فرائسه في شباكه والاستحواذ على نورهن، ثم نعرج على
البطلة وكيف تغيرت شخصية "سوليين- ماريا بيدروفيجو"، بعد
انتهاكها وسرقة نورها وسعيها للإنتقام.
تبدو مشاعر الممثلين، ملامح وجوههم وتعبيراتهم ومكياجهم، وكل
تفصيل في أدائهم كان نوعاً من البوح الشخصي من خلال سبر الفيلم
للداخل الإنساني العميق للشخصيات، إضافة إلى إمكانية إسقاط
الموضوع المطروح في الفيلم على كثير من القضايا الحياتية. مثل
سرقة روح الوطن وحيويته وزهاؤه. لتصبح المدن التي نعيش فيها
قاتمة غائمة يترصدها البرق والرعد من هنا وهناك، كما فعلت إيفا
في الثواني الأولى لإستهلال الفيلم... في هذه المدن ذات الطاقة
السلبية تدور قصة أدهم وسوليين ونساء أخريات مسلوبات الحرية
والنور المشع بترياق الحياة.
تتحكم عدسة المخرجة المبدعة بالضوء في اللقطات الخارجية
ببراعة، تعبيرها المجازي الفانتزي للنور عندما يرحل من كيان
الضحية، وعندما يحل مرة أخرى، فكرة استعارة النور في حد ذاتها
لا تخلو من الشاعرية الايحائية، وهنا تكمن إبداعية السيناريو
الذي كتبته إيفا.. كذلك توظيف الضوء في المشاهد الداخلية التي
ساهمت في تكوين صورة بألوان تنسجم مع فكرة الفيلم وقصّته،
لتخلق صورة تعبيرية بصرية ناضجة.
وتم بأداء مجموعة من الممثلين الإسبان، الذين أدارتهم إيفا
داود باقتدار، ومنهم: أنغيل دي ميغيل (أدهم)، وماريا ريدروفيو
(سوليين)، وألوما إسكودير (لينا)، وجوليا فورنير (سارة)،
وبالتعاون الإنتاجي السوري البحريني المتميز مع الإسبانية لورا
مارتيل، وإسهام كل من مدير التصوير ميغيل دي أولاسو ماكغروغر،
ومونتاج سيرجيو روزاس، وموسيقى خورخي ماغاس. |