يقول "فرويد" أن الأحلام عادم يُخرج فضلات الروح ورغباتها
المكبوتة، وأن العقل اللاواعي هو مستودع للمشاعر والأفكار
والذكريات التي صارت خارج عقلنا الواعي، وهي الرؤية التي أراها
تصيغ هذا الفيلم "ريش" للمخرج عمر الزهيري، الذي حصل على جائزة
النقاد في مهرجان كان وجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان الجونة،
وأخيرا جائزة التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج وجوائز أخرى،
فالفيلم لا يصلح معه التلقي التقليدي المنطقي أو الواقعي وإن
كان عن الواقع، فهو لا يحاكي الواقع بل يبدو انعكاسا له في
اللاوعي، كما يحدث في الأحلام الكابوسية، يبدو انعكاسا له في
ذهن بطلته، فنرى واقعها من خلال تأثيره في لاوعيها، ليبدو
الفيلم عند الخط الفاصل بين الحقيقة والحلم، فبرغم الحالة
الواقعية تظل تشعر بغرابته، وإن اعتبرته فانتازيا فقط فالواقع
مطل بشدة، الأمر الذي قد يسبب إرباكا بحسب منطلق قراءة
اللفيلم، كل ذلك ضمن سرد (وليس محتوى) شاعري، كما يُروى حلما
قاسيا، كل هذه الأمزجة المتضادة المجتمعة شكلت خصوصيته بمذاق
عبثي ساخر.
"ريش" فيلم ينتمي لسينما "القسوة"، وهو المسمى الذي أطلقه
الناقد الفرنسي فرانسوا تروفو كعنوان لكتاب جمع فيه مجموعة
مقالات للناقد الهام أندريه بازان، عن الأفلام التي يتسم
أسلوبها التعبيري بكشف الواقع وتعريته وكشف الجوهر الإنساني
بشكل حاد لحد القسوة، ويتماس هذا المسمى ووصفه مع مسمى "مسرح
القسوة" الذي أسس منهجه المخرج المسرحي الفرنسي "أنتونين
آرتو"، وهو منهج يعمل على التكسير الآلي العنيف للمألوفات
كوسيلة لتعرية الحقيقة وأشكالها النمطية، معتمدا على تعبيرات
بصرية سيريالية أو أسطورية، مستخدما الأصوات كمجرد "فونيتيكس"
لها تأثيرها السمعي أكثر من تعبيرها اللفظي، وعلى الصمت كتعبير
أساسي يكسر استخدامات الحوار المعروفة، كنوع من نزع تدجين
الأشياء والعلاقة الطبيعية معها فيغربها، لذلك تقريبا لم تضف
أي جملة حوارية شيئا للفيلم إلا من هذه الزاوية، كما ينزع
كثيرا المسافة الجمالية، التي اعتاد أن يحتمي بها المتفرج،
كتغريب إجمالي ينزع الألفة مع الواقع ليصدمك، كما سنرى.
يمزج الفيلم بين واقعية ذات تسجيلي قاتم، سواء في اختيار
الأماكن أو طبيعة الحياة، أو اختيار ممثلين جدد شديدي العادية،
يؤدون أداء يبدو كما لو كان مرتجلا؛ وبين الفانتازيا، مع تأثير
سيريالي نابع من مفردات واقعية مبررة، كلقطات القرد الذي يقفز
على السيارة في منطقة عمل السحرة، وقناع ميكي ماوس بأسلوب
تقديمه في حفل عيد الميلاد، واللقطة الغامضة لعجل يتبع حمارا
داخل مستشفى بيطري، هذا المزج بحد ذاته ينتج رؤية ساخرة عبثية
وفقت كثيرا، يعرض الفيلم حياة أسرة صغيرة مكونة من أم وأب
وطفلين ورضيع، في بيت شديد الفقر، لكنه واقعيا ليس بعيدا عن
بيئات كثيرة، يقدمه الفيلم ذلك متعمدا التخلي عن مبدأ
"اللياقة" في الفن، والذي يتجنب التركيز الصادم أو الإسهاب في
وصف القبح، قاصدا مهاجمة حواس المتلقي بهدوء قاس، وقد لا تكون
بعض المشاهد المختارة للتعبير عن هذا المنهج موفقة كثيرا، لا
من حيث قبحها بل من حيث مباشرتها خاصة مع تكرارها، كالمشاهد
الكثيرة داخل الحمام بتفاصيله، مما يبدو تعبيرا ميلودراميا
نوعا ما، لكنه أيضا يظل متسقا مع الحالة الكابوسية اللاواعية
داخل ذهن البطلة كما أراه، الأمر الذي يشبه منهج الجماعة
الدادية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، من تعرية القبح
والتركيز عليه كحالة ثورية على عالم لم يعد محتملا، حتى أن
الفيلم يتشابه مع رؤيتهم للحياة الآلية للإنسان؛ فكثيرا ما
شبهوا الإنسان في أعمالهم بشكل ساخر بالتروس والعجلات الآلية.
يقدم الفيلم عالما ديستوبيا (تحت الطبيعي) بصياغة منيمالية
شديدة التجريد والتبسيط، سواء في الصورة قليلة المفردات رغم
دقة تفاصيلها، مع فراغات الأماكن بألوانها الشاحبة، أو في
السيناريو الذي لا يعبأ بشرح تفاصيل الأحداث، أو في الحوار
القليل جدا الآلي، والذي يبدو تلقائيا لكنه يمنع اندماجنا معه،
أو في الأداء التمثيلي الذي يبدو مرتجلا فاترا بشكل مقصود، وهو
ما كان يناسبه جدا فكرة الوجوه الجديدة عديمة الخبرة، التي
وجدت لا لتمثل ولكن لتحضر بشكلها شديد الطبيعية، مع سعي
للتحييد وإلغاء التأثيرات الدخيلة، أو في المونتاج الحاد الذي
ينهي المشاهد ببساطة دون اكتراث، وزوايا التصوير واللقطات
المبتورة التي لا تلقي بالا للأشخاص بذاتهم، فهم فقط متواجدون،
في حالة مهمشة لقيمتهم، مع تسييل للزمن والأماكن والنقلات
بينها، فالأماكن شديدة التشابه تتداخل مع بعضها، وألوانها
متقاربة شاحبة، وذلك برغم الحفاظ على سرد خطي، كما نجد الوجوه
غالبا غير واضحة التفاصيل بشكل متعمد، حتى في الصور التي كانت
تعرض على الزوجة لمعرفة الساحر.
كثير مما سبق يعد نوعا من "الجروتسك" وهو أسلوب فني يشوه
الأشياء بهدف إبراز ما خلفها، يضاف إلى ذلك العملة الورقية
الباهتة المتسخة من فئات قليلة مع كثرة الأوراق، فهي لا تحقق
شيئا ولا تغني رغم كثرة عددها، مع التركيز على الكادرات
المهملة بعيدا عن الحدث، واللقطات الثابتة الطويلة بلا جديد
كزمن ميت، وتناقض الموسيقى مع الأحداث والتي دائما ما تنبع من
داخل المشهد، كصوت أغنية من كاسيت السيارة، أو صوت موسيقى أو
أغنية في التليفزيون، كل ذلك يوصل رؤية الفيلم لواقع آلي أقرب
للموت، دون كثير من التعبير، بلا تحديد واضح لأسماء الأماكن أو
الأشخاص، يخلط بين مستشفى بشري ومستشفى بيطري، وبين التطبيب
لمريض أو تغسيل ميت، حيث نرى الزوجة تغسل جسد زوجها العائد
وتعالجه في مكان في مستشفى يبدو كمشرحة تبدو كمن تغسّله فيها،
فالفيلم ينزع الإيهام والتأثير النفسي المباشر، لنبدو في عالم
غرائبي هذياني يرتدي ثوب الواقع.
الزوج الدجاجة..
ظهر الزوج والذي أدى دوره سامي بسيوني، بشكل ملفت في طبيعيته،
يشير لموهبة جيدة، وإن كان دوره سمح له بهذه المساحة، يبدو أبا
محبا لأولاده، الذين بالمناسبة كانوا أيضا شديدي الطبيعية بشكل
موفق جدا، يقدم لهم السعادة من خلال نظرة استهلاكية سطحية
تحاول الإيحاء بحياة مرفهة، تنم في حقيقتها عن سفه وشعور
بالنقص الشديد والضآلة، فهو يجلب لهم أشياء لا يحتاجونها بينما
البيت المعدم يحتاج الكثير، يشتري نافورة لتعطي مظهرا أنيقا،
بينما لا يتخطى طعام أسرته الباذنجان الذي يحدده للزوجة
بصرامة، ويقيم عيد ميلاد لابنه، لتبدو الزينة فيه والبلالين
شديدة التناقض مع رماديات المكان القاتم، يعد فيه لفقرة ساحر
يكون هلاكه على يديه بطريقة من الفانتازيا الساخرة، حيث يدخله
الساخر في الصندوق فلا يخرج منه إلا دجاجة، في موقف كوميدي
أسود، دون تفسير، فالقضية ليست في الأحداث بل في ما ورائها وما
تعبر عنه، يذكرني مشهد إدخاله الصندوق بخداع "ست" في الأسطورة
المصرية القديمة، لأخيه "أوزيريس" حين أوهمه بإهدائه له صندوقا
طالبا من أوزيريس النوم فيه للتأكد من كونه يناسب مقاسه،
ليغلقه عليه فيكون هو تابوته، وهنا يدفع الساذج ثمن سذاجته
بقسوة. |