خاص بـ«سينماتك»

 

فيلم «ريش» لـ «عمر الزهيري»..

لم يكن أهلًا للتصنيف

بقلم: منار خالد/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 

احتلت النظريات التي توجهت نحو فهم طبيعة الصورة السينمائية بالواقع مكانًا هامًا بين العديد من الدراسات السينمائية، وبات هناك سؤال دائم التكرار حول فكرة "ربط الصورة السينمائية بالواقع"؟

ووفقًا لما ورد في كتاب التذوق السينمائي ل "آلان كاسبير" فإن هناك اتجاهان يمكن رصدهما بصورة واضحة وصريحة لنجيب عن ذلك التساؤل: الاتجاه الأول هو اتجاهه المخرج السينمائي الروسي "سيرجي إيزنشتاين" الذي أتبع أسلوب الانفصال الحتمي بين الصورة السينمائية والواقع، أما عن الاتجاه الثاني الذي يمثله الناقد الفرنسي "أندريه بازان" حيث يؤيد من خلاله ضرورة وجود توافق تام ووثيق بين الصورة السينمائية والواقع، ويدلل "بازان" على ذلك بمخرجين عدة اتبعوا ذلك الأسلوب أمثال (وبرت فلاهرتي، جان رينوار، دي سيكا)..

ومثلما تم إسناد صحة القول إلى نماذج غربية، فأيضًا بات السؤال يطرح نفسه بين أكناف السينما المصرية، وتبنى جيل عاطف الطيب ومحمد خان على وجه التحديد في فترة ما بين ثمانينات وتسعينيات القرن الماضي، ما يعرف في تاريخ السينما المصرية بالاتجاه الواقعي، وكذلك اتجاه الواقعية السحرية، والواقعية الجديدة.. وغيرها من المسميات للعديد من الاتجاهات التي ربما تتشابه في مناطق وتختلف في أخرى..

واستمر الجدل حول نقل الواقع أو التعبير عنه ذات إشكال واسع بين القبول والرفض..

وبين المؤيد والمعارض دائمًا تبقى هناك عدة عوامل لا يمكن أن يترنح عنها العمل المتبني اتجاه تقديم الواقع أو حتى التماس معه، حول تقديم البيئة وتحديد المكان والزمان للحدث والاهتمام بالجوانب التاريخية والإنسانية وتطعيم الصورة بعناصر تكمل الخلفية العامة للواقع المُقدم، وبخلاف ذلك الإطار العام لا يمكن أن يصنف العمل بكل دقة نحو الاتجاه الواقعي أو ما يشبهه..

 

لم تُخلق كل الأعمال كي تُصنف

لذلك لا يمكن تصنيف فيلم "ريش" للمخرج عمر الزهيري -الذي شارك في المسابقة الرسمية لأسبوع النقاد الدولي التي كانت مقامة ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي بفرنسا في النسخة 74 وفاز بالجائزة الكبرى لمسابقة أسبوع النقاد الدولي وهو الفيلم المصري الأول الذي يفوز بالجائزة الكبرى في أسبوع نقاد مهرجان (كان)، ثم حصد أمس جائزة أفضل فيلم روائي طويل بمهرجان الجونة السينمائي-

ضمن الاتجاه الواقعي أو ما يميل إلى نقل الواقع أو حتى التعبير عنه بشكل كلي، وهذا يعود لعدة أسباب، من أهمها أن ثيمة الحدث الرئيسي تقع في محك بين الواقع والفانتازيا، حيث تدور أحداث الفيلم حول اختفاء رب أسرة فقيرة في أثناء الاحتفال بعيد ميلاد أحد أبنائه على يد ساحر يحول الأب إلى دجاجة، أي أن ذلك هو الحدث الرئيسي والأساسي الذي يجعلنا نتتبع باقي أحداث الفيلم التي تعبر عن أزمة الزوجة والأم لثلاثة أبناء بمفردها ومواجهة صعوبات المعيشة بدون الزوج، ومن هنا تنشأ ثنائية تضع الواقع أمام الفانتازيا، فتحول الرجل إلى دجاجة فكرة غير واقعية تتسبب في ارتباك الأحداث الواقعية التي ترصد ظروف وأعباء الحياة، ويبقى التأرجح بين هذا وذاك موجود حيث لا زمان ولا مكان محدد، فلا يوجد أي معلم يوضح في أي محافظة أو قرية تدور الأحداث، ولكن بالتأكيد هي البلد مصر لما يحويه الحوار المكتوب من جمل تُلقى بالعامية الدارجة، دون تحديد مكان محدد وواضح بهذا البلد، وكذلك هو الحال مع الزمان فبين أجهزة محمول قديمة نسبيًا وبعض أوراق النقود الورقية السابقة لعامنا هذا بأعوام قليلة لا يمكن وضع تحديد دقيق للزمن أيضًا، لكنه بالتأكيد ليس ببعيد عما نعاصره اليوم بمدة زمنية طويلة، وفي ظل ذلك التأرجح تظهر تفاصيل فنية وتقنية في غاية الأهمية يمكن لها أن تبعدنا عن وضع تصنيف دقيق للفيلم أو حصرة في اتجاه سينمائي بعينه.

 

قسوة التصوير والوعي بالأدوات الإخراجية

قدم الزهيري صورة سينمائية قاسية فجة تنم عن الفقر الشديد والحالة المزرية التي يعيشها أبطال الفيلم، حيث تعتبر الصورة السينمائية هي عنصر من بين عدة عناصر أخرى داخل الفيلم السينمائي الواحد، ويمكن إسناد هذه القسوة والفجاجة إلى عدة مبررات مشروعة، من بينها هبوط عنصر التمثيل، فلا يمكن أن يسعنا القول أن نقيم أدوات الممثل داخل ذلك الفيلم تحديدًا لأن من قاموا بتأدية الأدوار ليسوا ممثلين متمرسين، ربما قصد المخرج المجيء بهم دون غيرهم كي يقترب إلى الواقعية ويعيدنا إلى حيرة التصنيف المذكورة سلفًا، ولكن هذا لا ينفي أنه مخرج واع يدرك أن القدرات التمثيلية الموجودة معه غير قادرة على أن تتحمل الكثير من العبء والأداء التمثيلي لم يكن بقوي، لذا أعتمد اعتمادا كليًا على الصورة السينمائية أولًا، ليحدِث توازن بعض الشيء، ومثلما أحدث توازن في الصورة السينمائية المرئية بين الأداء التمثيلي المتواضع والكادرات والإضاءة وزوايا التصوير المعبرة عن الأزمة الحقيقية، فعلى مستوى التصوير أيضًا قدم الفيلم "بالتة" ألوان متناسقة و"متويفيات" متكررة تثري الصورة العامة وتؤكد على ما تريد قوله، وقام مدير التصوير بتشكيل لوحات متناسقة الألوان يغلب عليها الطابع الرمادي الباهت المتناسق مع عوامل الطبيعة الترابية الملوثة المُعفرة، وكذلك هو الحال في تكرار التركيز على شكل النقود المتهالكة التي لا تختلف كثيرًا عن وضع أصحابها، وعلى غرار ذلك الأسلوب أحدث أيضًا التوازن نفسه في شريط الصوت، ومنها تقلصت الجمل الحوارية كثيرًا وجعلها محدودة يمكن عدها على الرغم من أن الفيلم مدته حوالي ساعتين تقريبًا، وفي المقابل قدم شريط صوت ثري متناغم للغاية، بل أن شريط الصوت في هذا الفيلم يمكن وصفه بإنه هو العنصر الأهم على الإطلاق، فبين أصوات طبيعية كخرير المياه، صوت اشتعال نيران، التلفاز، بكاء الرضيع، أغنيات فيروز وألحان بليغ حمدي، وغير ذلك العديد من المؤثرات الطبيعة والموسيقية التي تسيطر على الشريط يتخللها في بعض الأحيان القليل من الموسيقى التصويرية وبعض الجمل الحوارية العابرة

ليعبر الشريط بالمتفرج بين حالات عدة بين الفرح والحزن والتفاؤل والألم تنم عن التقلبات والمتغيرات التي لم يقدر الأداء التمثيلي والجمل الحوارية على إظهارها.

 

حالة إنسانية عامة تختنق إذا تم تصنيفها

قدم فيلم ريش حبكة متواضعة واضحة لا تحتمل الإسهاب، ولكن تناغم العناصر الموجود بالفيلم كان قادرًا على إحداث توازن ووضع مبررات لطول المدة الزمنية، وتكمن اجابة سؤال "لماذا طالت مدة الفيلم ووصلت قرابة الساعتين"؟، في شريط الصوت أيضًا، عندما ألقى على مسامع المتلقي أنغام بليغ حمدي لأغنية "حكايتي مع الزمان" في مشهد قتل الزوجة للزوج، فعادة ووفقًا للحصيلة المتراكمة من المشاهدات إذا كان هناك حدث قتل أو حدث خطر بوجه عام يتدخل شريط الصوت بوضع موسيقى تصويرية تعبر نغماتها عن حالة من الترقب والخطر والقلق وما إلى ذلك، لكن إصدار نغمات عذبة كهذه مع فعل القتل في ذلك الفيلم يعتبر بمثابة مشهد مفصلي ومجيب عن أسئلة عدة من بينها أن الفيلم كان يتتبع رحلة تلك الزوجة شيئًا فشيئًا أولًا، ثم يكسر حالة الإدانة والخطر المعتادة لأن الزوجة بفعل القتل تنجو من عبء الزوج المريض عليها، أما عن إيقاع الدراما فرتابته تخدم الحالة العامة وتغذي فكرة الانتظار الممل فلا يمكن وضع المُشاهد في إيقاع سريع مع حالة تنتظر السراب، أي أن الفيلم بذلك لا يريد أن يدين أو ينصف بقدر ما يريد أن يوضح مبرر الشخصية وما كان على المتلقي أن يعي مبرر الزوجة الحقيقي دون أن يتتبع رحلة شقائها بأدق تفاصيلها، وذلك هو المطلوب أن يصل له بما يحويه العمل من لمسات فنية دون أن يقدم رسالة أو حكمة وعظية.

سينماتك في ـ  23 أكتوبر 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004