واما الفيلم الثاني فهو فيلم المخرج البرازيلي هيكتور
بابنكو (قبلة المرأة العنكبوت) الذي يرصد نصياً تحول
الوعي بالمثلية من الرؤية السائدة إلى الرؤية الخلاقة،
من خلال علاقة سجين سياسي بزميله الشاذ جنسياً، اذ
يبدأ الفيلم بلوم السجين السياسي وتعنيفه لزميله على
شذوذه، ويتصاعد إلى لحظة إدراك السجين السياسي ان
البنى التي ترفض السياسي المختلف هي نفسها التي ترفض
اللوطي لأنه مختلف، وان الحرية السياسية هي حرية جنسية
اصلاً، ولذا فأن ايمانه بحق اختلافه وحريته لا يتحقق
إلا بأيمانه بحق اختلاف زميلة وحريته. وتكون قمة
التحول في انتقال الحوار من لغة الكلام التي كانت سلاح
هجوم السياسي على زميله إلى لغة الجسد، عندما يمارسان
الجنس معاً في مشهد رمزي متقن يفيض بالشاعرية
والاصالة، وتكون نتيجة هذا الحوار ان يصبح السياسي
لوطياً واللوطي سياسيا وتكون نهايتهما معاً هي الموت،
فاللوطي الذي يخرج لممارسة نضاله السياسي يغتال من قبل
رجال النضال أنفسهم لاعتقادهم انه واش للسلطة، فيما
يقتل السياسي الذي صار لوطياً تحت وطأة التعذيب في
السجن.
لا بد من اشارة إلى وعي (يوسف شاهين) بالمفهوم الحضاري
للأيروتيكا وهو ما نجده في فيلم (الآخر) في ممارسة موازية
للمألوف في بحثها عن التغاير الجنسي وفقاً لثنائية التضاد بين
(مارغريت ووالدة حنان) ووفقاً للهجين المولود الذي يحاول ان
يجمع طرفي الثنائية متمثلاً في علاقة آدم بحنان، فهما يمارسان
الجنس قبل الزواج مع الاحتفاظ بخصوصيتهما الحضارية الامر الذي
يؤسس للجيل الهجين الذي يراهن عليه شاهين مع تغافله عن خلل
المعادلة الحضارية في الفيلم حتى على المستوى الجنسي لأن تسويغ
الآخر جنسياً يأتي على حساب قيمة الاختلاف التي هي قيمة جوهرية
ايروتيكياً، ان مشكلة الرموز الفرويدية في السينما هي مشكلة
توظيف بمعنى انها توظف من قبل المخرج لإنتاج دلالة ما يرى
المخرج ان تلك الرموز والطريقة التي تقدم بها على الشاشة، هي
الحل الفني الامثل او الحل الاعلامي الامثل، حيث يكون الامثل
فنياً بوصفه لغته مجازية رمزية، ويكون الامثل اعلامياً عندما
ينجو الفيلم من خلال رموزه من مخاطر الرقابة الخاصة او العامة،
ومن مخاطر الفيلم بوصفه سلعة موجهة، غير ان هذا التوظيف لكي
يكون ناجحا او في الاصل ليكون دالاً وذا معنى، لابدّ له من
سياق فني يوظف فيه، ولابد له من مقدمات وعناصر مساعدة تدفع
دلالته المرادة إلى الظهور. ففي فيلم يوسف شاهين (الاخر) ثمت
دلالة خفية اهملها قراء الفيلم جميعاً، على الرغم من قصديتها
الواضحة واسهام عناصر السياق المختلفة في انتاج دلالتها، وهي
دلالة ذات منشأ فرويدي معكوس، أي انّ فيها ما يمكن ان يعدّ
أوديبية معكوسة الاتجاه/ اذ ثمة اكثر من اشارة بصرية ولفظية،
وسياقيه، تجعلنا نعتقد بالكمون الرمزي للجنس في علاقة الام
مارغريت (نبيلة عبيد) بأبنها آدم (هاني سلامة)، ولعل مشهد
مارغريت وهي تستعرض صور آدم وفي كيانها شهوية جلية يعززها
اهمال زوجها لها، لعل هذا المشهد يمثل قمة ما اراد شاهين
ايصاله حول هذه النقطة، وهو هدف يتجاوز ظاهره الرمزي لأنه يحمل
رؤية حضارية بعينها، يؤكدها عقد مقارنة بين الوعي الشهواني، ذي
الثقافة الفرويدية ـ بوصفها كسراً للثوابت الجنسية ومدخلاً
عقلانياً للإباحية ـ وبين وعي ام حنان (لبلبة) الصوفي ذي
الثقافة القدرية النقية ذات البنى الكتومة الحيّية، ان عدم
ملاحظة ناقدي فيلم (الآخر) لهذه الدلالة المرادة جعل من أفعال
مارغريت غير مبررة ومخالفة لسياقها وبنيتها، ولعل مراهنة
المخرج على ادراك المتلقي للمسكوت عنه، وحسن قراءته للرموز هو
الذي افضى بهذه الدلالة إلى الضياع والتلاشي في سياق غير
متماسك في ذاته، وان كان متماسكاً في خدمة عناصره لتلك الدلالة
وانتاج مغزاها، وأما فيلمه (وداعاً بونابرت) فأننا نجد فيه
اجرأ محاولة، في الوعي السائد، لإعطاء اللقاء الحضاري بعداً
ايروتيكياً ولكن هذه الجرأة سرعان ما تتبخر عندما تقدم
الايروتيكا على انها سيطرة حضارية من نوعٍ مخز، فالعلاقة
المثلية بين(كافيريللي وعلي) ليست مشروطة انسانياً وانما هي
وسيلة مخطؤة لاكتشاف الآخر عبر اغتصابه وموضعته والسيطرة عليه
واذا وضعنا في الحسبان صيغة اللواط بوصفها اهانة جنسية فان
النتائج من حوار الحضارة الذي اراده شاهين لن تكون في صالح
رؤيته، ولعل الغرابة كامنة في اختيار المثلية وليس الجنس
الطبيعي المقترن دائماً بالغزوات والفتوحات، فلو ان العلاقة
كانت بين فرنسي ومصرية لكان من الممكن تسويغها حتى على المستوى
الانساني ولكن جعل الشاب المصري موضوعاً جنسياً للفرنسي بوصف
هذه الموضعة حواراً، أمر يخل بموازنة الحوار عند الطرفين الذين
يريان في اللواط عاراً وليس اختلافاً يجب احترامه واختياراً
حراً مكفولاً شخصياً. ولذا فأن وعي شاهين رغم جرأته لا يخرج عن
بوتقة السائد وهو متأثر بنغمة منتشرة تؤسسها الاحادية الغريبة
ذاتها.
اما (بازوليني) فينحى ابداعيا في وعيه الخلاق ويذهب نحو
الحيوانية في فيلمه (حظيرة الخنازير) حيث يحكي القسم الثاني من
الفيلم عن ابن صناعي يرفض الزواج لأنه يمارس الجنس مع الخنازير
التي تنتهي بالتهامه.
وقد فسر الفيلم وفقاً لتصريح (بازوليني) نفسه تفسيراً
استعارياً حيث ((يعيش ابن الصناعي في عالم من الخنازير
البشرية، فلطالما قورن ابواه بالخنازير وشبه العالم حولة
بزريبة خنازير))، وهذا التفسير الذي يوازي بين البرجوازيين
والخنازير، لا يعني ان الفيلم قد وقع تحت هذه المباشرة كما لا
يعني ان القراءة النقدية يفرض عليها الالتزام بهذا التفسـير
فبازوليني نفسه يرفض المطابقة المباشرة بين وعيه وادائه، وعليه
هنالك بعداً آخر لهذه الحيوانية، وهو بعد مبني على التراث
الشعبي والديني، فمعلوم ان الخنازير محرمة عند المسلمين
واليهود ومحللةّ عند المسيحيين، رغم ان التراث التوراتي جزء من
البنية المسيحية ومعلوم ايضاً ان المسخ الذي وقع لأصحاب
أوديسوس، كان إلى خنازير، وانهم كادوا يأكلون رفاقهم على هذه
الصفة، ومعلوم اخيراً، ان التعبير الشعبي عن الخنزير انما هو
كناية عن المنحط جنسياً، المغرق في بهيميته الجنسية لا سيما في
المخيلة الايطالية، ومن خليط هذه المعلومات يمكن ان نقول ان
صفة المباشرة، رغم استعاريتها التي تحدث عنها بازوليني في
تصوير علاقة البرجوازيين ـ الخنازير، انما تمثل مستوىً اول في
قراءة الفلم، لأن الفيلم في عمومه حكاية عن الرفض والسعي إلى
الاختلاف باعتراف بازوليني نفسه دون ان يسعى الرافض إلى صدمة
المتلقي لأنه في شغلٍ بنفسه عنه أي ان هذا الرفض انما هو خلاصة
محنة الوجود في الانحطاط، رغم ان المفترض ان لا يقع مثل هذا
الوجود، وتعبيراً عن هذه المفارقة يذهب الرفض إلى ابعد ما
يمكنه، بوصفه موقفاً ينأى عن التفسير والعقلنة تماماً كنأي
الوجود عنهما، فبطل القسم الاول من الفيلم يقتل اباه ويأكل
لحوم البشر ويعلن ذلك بفرح وابتهاج، وبطل القسم الثاني يضاجع
الخنازير حتى الموت التهاماً، وهو فرح باختياره الذي هو خلاصة
من عفن الماحول، لا بوصف البرجوازية وحدها بل بوصف الماحول
حضارياً بكل تجلياته واشكاله، فالاختيار انما هو ايغال في
اعلان الرفض الشامل لكل ما تمثله الحضارة، دون تفريق بين شكل
وآخر.
بدرجة اقل وعيا وأكثر تماهيا مع السائد، يقف فيلم (بواب الليل)
للمخرجة ليليان كافياني، الذي يحاول تفسير التشوه النفسي الذي
خلفته الفاشية تفسيرا جنسيا من خلال علاقة مريضة بين المشوهين،
مع اختلاف الطريقة، فالضابط النازي شوهته الايديولوجيا التي
ينتمي اليها اما المعتقلة السابقة فشوهها الاعتقال ولكنها ليست
بعيدة في اصولها من التشويه الايديولوجي. وعلى الرغم من ضعف
الفيلم، رؤية، في تفسير الكثير من عناصره، لاسيما الشغف الجنسي
المتبادل بين البطلين وعلى الرغم من قسوة النازي مع التعامل مع
المعتقلة (فهو يهديها رأس أحد زملائها مثلا تعبيرا عن اعجابه
برقصها)، غير ان نقطة القوة المذهلة في هذا الفيلم هي في
اعتبارها النازية والفاشية عموما منتجا حضاريا شاملا، لا يخص
احدا، وان امتلك اسما المانيا او ايطاليا، لأنه في الحقيقة ابن
طبيعي وان كان مجرما للروح التي تبثها الحضارة الرأسمالية بكل
تجلياتها السياسية والاجتماعية والدينية.
وهذا هو التفسير الوحيد لقبول البطلة بعلاقتها الشاذة مع بواب
الفندق الذي كان ضابطاً في معتقلها، كما انه التفسير الوحيد
لخروجهما الاحتفالي، هو بزيه النازي وهي بثوب السهرة، في
طريقهما إلى الموت على يد النازيين الآخرين، فالرؤية التي بنت
عليها كافياني فيلمها تمتلك خصوصيتها من هذه الشمولية في
التفسير وان كانت عناصرها التكوينية اقل نجاحا لأنها اقل
خصوصية واختلافا، فالفاشية والنازية، بحسب كافياني، ((انما هي
صورة قاتمة للتشوه العميق الذي اصاب الروح الغربية عبر
ايديولوجياتها المختلفة))، وليس غريبا ما دام الامر كذلك ان
يظهر النازيون الجدد في المانيا الغربية (الرأسمالية) ولا
يظهرون في المانيا الشرقية (الاشتراكية) فيما مضى لأن البنية
التحتية التي أنجبت النازية، وهي التي ما زالت تنجبها، انما هي
متأصلة في الايديولوجيا الرأسمالية بوصفها خليطاً من الاجتماعي
والسياسي والاقتصادي الذي يشوه الانسان في نقطة قوته الروحية:
ايروتيكيته.