انتهيت قبل لحظات من مشاهدة فيلم مصري قصير رائع
عنوانه «واحده كده» إخراج مروان نبيل، الفيلم جميل
لدرجة أني شاهدته مرتين (14 دقيقة) خلال ساعة واحدة.
لغة بصرية عالية المستوى، رمزية بليغة، انسيابية سردية
مريحة وأداء تمثيلي باهر لبطلته ريهام عبدالغفور. وفوق
كل ذلك معالجة اخراجية غير تقليدية.
يدور الفيلم في يوم يبدو روتينيًّا في حياة سيدة شابة رقيقة في
منتصف الثلاثينات من عمرها أو هكذا يبدو، عمر النضج واكتمال
الشخصية، ولكن ما أن يبدأ يومها حتى يقودنا سياق الفيلم
لنتفاجأ بنظرة الناس لها، بكم الأحكام التي يصدرها مَن هم
حولها عليها مع اختلاف درجة قربهم لها، حتى وإن لم ينطقوا بتلك
الأحكام أو يقولو ما يشير إلى انطباعاتهم عنها، ولكن نقل صور
ذهنية تمثل أحكامهم عليها ونظرتهم لها، وهذه الصور لا يجهد
المخرج ولا كاتب الحوار والسيناريو (هيثم الشال) في نقلها
للمشاهد بحوار مباشر أو أداء درامي تمثيلي يكشف ما يكن
بدواخلهم، إنما بتوليفات بصرية فانتازية كأنها تدخل
الكاميرا/المشاهد الى جوانية عقليات هؤلاء الأشخاص الذين
يتعاملون معها، ومنها نعرف وصفهم وحكمهم عليها و نظرتهم لها،
وبالطبع حتى يتم ذلك المعنى اعتمد المخرج على لعبة خداعية
وحرفية تصويرية باتباعه للغة بصرية تقول في غير مباشرة ما لم
تقوله الكلمات. نتبين منها كيف أن آراء الناس ظاهرياً تكون في
كثير من الأحيان مغايرة للحقيقة، وبالتالي مغايرة لحقيقة هذه
السيدة الشابة المحبة للحياة. وتريد أن تحل مشكلاتها بروية
وحنكة وصبر. هي لا تنفعل بحدة أو تثور بشدة عند مناقشة خطيبها
لاختياره شقة ستبعدها عن موقع عملها وعن منطقة اقامة والدتها.
عينا الكاميرا هي التي تنظر، وتقول للمشاهد خذ عيوني وشوف
بيها: والدتها تراها طفلة. جارها "المتدين، المتزمت كما يبدو"
يراها فتاة لعوب. خطيبها يراها مرة فتاته الغندورة الحلوة،
ومرة يراها أمين شرطة الذي سيضع الحديد في إيده. سايس السيارات
يراها هانم ارستقراطية ثرية. زميلها في العمل يراها حمارة..
وغير ذلك من النظرات التي تصنفها، وهي غير ذلك كله. هي واحده
كده، بسيطة، حالمة، مبتسمة لقدرها، هي كده بسيطة ببساطة.
ثمة حوار عميق ويمثل محور ثقل الفيلم، يدور بين بطلتنا وزميلها
في العمل عن ضغوط الحياة. تقول له "اشمعنى نحن بننضغط بسهولة
أوي كدا؟" يرد عليها: "المفروض أنه ما تسيبيش نفسك للدنيا
والناس عشان تضغطك وتحطك في قوالب."... "حياتك أسهل أحلى من كل
الهموم اللي انتي شايلها دي".. إعتبريه زي الجيم، تمرين، نرة
في مرة حيبقى جزء من الروتين بتاعك وحتتعودي عليه وحتتخلصي من
كل النيجاتف خالص".. تضحك بخفة عابرة وتواصل ابتسامتها وكأنها
غير مقتنعة بفكرة النماهي مع الضغوط.... أداء هادئ عميق ومعبر.
تشرد بتفكيرها، ربما تتأمل كلمات زميلها، بينما منظر رائع
ولوحة فنية طبيعية سريعة يبدعها مدير التصوير عبدالسلام موسى،
تستدعي اعادة مشاهدة اللقطات والمشاهد التي تصور الحياة
الجميلة التي تراها من حولها.. هي تدرك جمال الحياة، لذلك تعبر
عنها موسيقى موحية لثوان قليلة.
تغادر موقع عملها، تجلس في المقعد الخلفي للسيارة، فهي مقادة
وليس قائدة. تغفو قليلاً لتتراءى لها الصور/الانطباعات/الأحكام
الصامتة التي يطلقها المجتمع عليها، تتخيل نفسها وكأنها تستحم
وتغتسل من كل هذه الهموم، وهنا يختلط استيعاب السرد لدى
المتلقي، هل هو راوي الفيلم/مؤلفه/ كاميراته هم اللذين يروون،
أم أن دواخل صاحبتنا هي التي تستوعب نظرة المجتمع لها وتدرك
أنهم لا يفهمونها.. تطلق صرخة يأس وضيق وجنون.
تفيق من غفوتها، وربما لا زالت تحلم، تفتح زجاج نافذة السيارة.
صخب الحياة الحلوة. وجهها مشرق كما هو دائماً. تنظر تتأمل..
حياتها أمامها، جزء من هذا الصخب البديع.
مشهد أخير ذكي ونابه، يذكرنا على نحو ما بسينما فلليني..
المدينة المسرح. المدينة السيرك. المدينة المولد. مدينة
الدراويش والراقاصات والأموات الأحياء. والمايسترو.. (إييييه
وما الدنيا إلا سيرك كبير) كل ذلك وهذه الواحدة تجلس على مقعد
خشبي في منتصف الشارع لتتفرج على كرنفال الحياة. هي واحدة كده
ضمن ملايين النساء اللي كده. وهي كده لأنها كده، مبتسمة
ابتسامتها العذبة لكل ما يدور حولها. أداء تمثيلي يذكرنا
بميريل استريب التي تقوم بأدوارها الصعبة فنشعر أنها سهلة.
كذلك فعلت الجميلة المتمكنة ريهام عبدالغفور.
نعم، يبدو واضحاً أن مروان نبيل يحمل بداخله سينما غير معتادة،
سينما عذبة كابتسامة صاحبتنا، سينما تتأمل الحياة وتحبها ولا
تعترض عليها. لغة رومانسية واقعية، حية وموحية، سينما التأمل
والانتظار والأمل الذي سيأتي مع العصافير التي تطعمهم صديقتنا
ولا تنهار بسبب ضغوط الحياة.. ينتهي الفيلم وتظل صورة ريهام
عبدالغفور الرقيقة بأدائها البسيط/العميق عالقة في الذهن.
نظراتها تلك في المشهد الأخير وهي تجلس للتفرج على صخب الحياة
التي حولها ولا تملك لها سوى ابتسامة سلام وحيرة في مواجهة
مشكلتها.
مروان نبيل وهيثم الشال جديران بأن يكونان ثنائي سينمائي
يتحفنا بسينما جديدة وممتعة ومختلفة. وكما يبدو أنهما بذلا
جهداً كبيراً في تحقيق الفيلم بهذا المستوى، فهناك تجويد في كل
دقيقة في الفيلم.
«واحدة
كده» بطولة ريهام عبدالغفور، سلوى عثمان، محمد على رزق، حازم
سمير، قصة وإخراج مروان نبيل في أولى تجاربه الإخراجية،
سيناريو وحوار هيثم الشال، مدير التصوير عبدالسلام موسى،
مونتاج منى ربيع، وإنتاج شركة هارموني وشركة allusionist pictures
وشركة هاي ميديا.
الفيلم عرض في مهرجان القاهرة السينمائي 2020
وهو الآن بمنصة نتفليكس