المستوى ذاته، في تأمليته، يقف (بازوليني) الذي يصر على انكار
(إن تكون فلسفة خاصة به ) وكأنه يهزأ من انتشار ادعاء هذه
المقولة، ولكن ادنى تأمل في رؤية (بازوليني) تكشف لنا إنه
يمتلك فلسفته الخاصة التي سعت اكثر من أي اتجاه آخر إلى حل
معضلة الذات والمحيط من زاوية فلسفية فبازوليني يسعى في رؤيته
إلى الجمع بين نقيضين: الفلسفة الماركسية: التي تحرك وعيه
وعقله ، والروحانية الصوفية: التي تغلف روحه وكأنه يسعى إلى
المزج بين الدين والعلم في نقاط التقائهما بحسب الرؤية
البازولينية التي تؤمن بوجود مثل هذه النقاط، على الرغم من نفي
الطرفين لوجودها ومن هنا كان بازوليني وحده الفنان الذي”
يكرمّه مركز كاثوليكي عن فلم وتحاكمه هيأة أخرى حول نفس الفلم
بتهمة الالحاد والاباحبة” ، وهو أيضا الملحد الوحيد الذي اخرج
فلماً عن المسيح لا مثيل له انسانياً، كما إن انشغاله بفكرة
المسيح في اكثر من فيلم يوازي انشغال بونويل بالفكرة ذاتها
ولها عندهما المصدر ذاته وهو البعد الروحاني العميق في
فلسفيتهما غير ان ما يميز بازوليني عن غيره هو اعلاؤه
للأيروتيكي في فنه وهذا الاعلاء الذي لا يشابهه به احد، من حيث
اسلوبية التناول وكمية الحضور وتكراره، يمثل عنصراً اصلاً في
فلسفته الايروتيكية التي جمعت خلاصة رؤاه السياسية والاجتماعية
فضلاً عن الروحية.
وتنبنى فلسفة الايروتيكا عند بازوليني على اعادة الاعتبار
للجسد الانساني وإنقاذه إلى التشيء والتسليع الذي اغرقته فيه
الحضارة المعاصرة ويتم هذا الانقاذ، عند بازوليني، بإتاحة
الفرصة للحب ـ بوصفه جنساً ـ للحضور بكثافة في الحياة ودون أن
يكون لهذا الحضور من مبرر سوى الحياة نفسها، ومن هنا يأتي
تركيز بازوليني على تعرية الجسد وكشف جماليته من زاوية ذوقية
خاصة، فهو يسعى دائماً إلى مخالفة العري السائد ورفضه غير أن
بازوليني الشغوف بالعري والذي يرغب بصدمة متلقية والعنف في
علاقته به، يغطي في فيلمه (اوديب ملكاً) عري الام، بل ويفقأ
عين المتلقي عبر فقأه لعين اوديب وهذا ما يكشف الرواسب الخفية
للثقافة الدينية/ الاجتماعية، حتى في وعي مناقض مثل وعي
بازوليني.
إن بازوليني” بوصفه صانع اساطير” يؤسس وعيه الفلسفي على
ثنائية مستحيلة: الاسطوري/ العلمي، الغيبي/ الواقعي، الذاتي/
العام، وهو يدرك هذه الاستحالة التي تشي بالتناقص ظاهريا ولكنه
يجد نقطة التقائها جميعاً في مفصل واحدٍ هو الايروتيكا، ولذا
فأنه يحتفل بهذه المنحة في كل افلامه ومهما كان اتجاهها” لا
لأنه يسعى إلى الواقعية او إلى تجسيد رؤاه الذاتية” ، بل لأنه
يؤمن تماماً أن هذه النقطة هي الوحيدة التي يستطيع أن يبني
عليها لقاء الاضداد دون ان تكون اضداداً ،كما يستطيع من خلالها
تأسيس ونقد رؤيته للعالم وصياغته الفكرية والفنية لهذه الرؤية
، بأسلوب مختلفٍ تماماً وبرؤية متفردة يقود بازوليني السياسي
ـ الايروتيكي إلى آخر الشوط في فيلمه (سالو) الذي يؤسس لفكرة
غاية في الخطورة هي أن تغطية السياسي بأدواته القمعية للجنسي
لا يعني فقط أسلوباً في ممارسة السلطة وانتاج القيم الموازية
لها بل هو في الوقت نفسه ممارسة جنسية منحرفة وتشويهية، تحقر
الجسد عندما تجعله خالياً من محتواه الانساني وتسلبه حريته او
تغر به بالمعنى الفلسفي للكلمة عن ذاته وعن محيطة، كما أن
(سالو) يؤسس ضمناً لفكرة التكرار والدور التاريخي للسياسي ـ
الايروتيكي، أي أن ما يحدث الان وغداً هو نفسه ما حدث أمس،
مادامت القوانين التي تنظمه هي، وما دامت البنية التي تنتجه هي
ذاتها وحصيلتها من القيم المشوهة لا تختلف عن حصيلة المراحل
الاخرى.
غير أن هذه الرؤية التي تكتسب ضرباً من الحتمية، ليست حتمية
تماماً، بحكم البنى السائدة فقط، بل بحكم النفس المسكونة بالشر
اصالةً، وهنا يمارس (بازوليني) واحداً من اساليبه الخاصة
المعبرة عن فرادة وعيه الخلاق وهي حوارية العلمي والغيبي في
وعيه، إذ إنه يقيم حواراً مليئاً بالحركية والجدل كما هو مليء
بالحياة بين وعيه السياسي، ذي الصبغة الماركسية ووعيه الروحي
ذي الصبغة الصوفية، دون أن يقع فريسة لهيمنة احدهما لأنه” جعل
من طرفي الحوار أداة في صياغته الخاصة المتفردة لرؤيته”.
أن بنية (سالو) الظاهرية تبدو وكأنها صرخة ضد فاشية موسوليني،
مستعيناً بماركيز دي ساد في أيام سدوم، فالفلم بدءاً من
العنوان ومروراً بأجوائه التاريخية وانتهاء بنتائجه الدرامية
لا يخرج عن مكانه وزمانه ظاهرياً ولكنه في الحقيقة يحقق أهدافه
تحت هذا الظل القائم وتلك المسحة المكانية ـ الزمانية الصارمة.
فهو يؤسس رؤيةً فيها الكثير من المثيولوجيا عندما يستعير دوائر
(دانتي) في (الكوميديا الالهية) لتكون هيكلاً بنائياً لفيلمة،
ويستعير آلية (أيام سدوم المئة والعشرون) لتكون مبنى حكائياً
ويستعير ظروف جمهورية موسوليني الفاشية التي أقامها في (سالو)
بعد فراره بمعونة الالمان ولكنه في استعاراته الواضحة كلها من
هذه المصادر، يخلق كعاعدته، اسطورته الخاصة إذ لا شبه إلا
ظاهرياً بين المستعير والمستعار منه، فسالو، رؤيةً واداءً
”لا تنتمي إلا إلى رؤية بازوليني الخلاقة حول الجنس والسلطة”
تلك الرؤية التي لمح لها في معظم أفلامة، التي حظي فيها الجنس
بوصفه تعبيراً انسانياً وعلامةً على الحرية، بكثير من العناية
والاهتمام.
فالعلاقة الجنسية في سالو” هي رمز لأمرٍ آخر، رمز لامتلاك
اشخاص معينين لأشخاص آخرين، أي لما سماه ماركس بالتسليع -
الجسد وقد مسخ إلى سلعة- السلطة لم تتغير بدلاً من أن تتعامل
السلطة الان بالأجسام وعلى طريقة هتلر القاسية فإنها تتعامل
بتلك الاجسام لكن بطريقة أخرى وفي كل من الاحوال تفلح السلطة
في تشوية الجسم البشري وفي تسليعه وفي مسخه إلى مجرد بضاعة
للأستهلاك”. |