يتناول المخرج السينمائي الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي في
كتابه النحت في الزمن الذي ترجمه إلى اللغة العربية الأديب البحريني أمين
صالح والصادر حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ووزارة الثقافة
والإعلام في دولة البحرين جملة من القضايا والمفاهيم المتعلقة بتجربته
السينمائية الثرية والتي طالما شغلت أعماله اهتمام النقاد وعشاق السينما
والدراسين والمهتمين بالذائقة السمعية البصرية والارتقاء بها.
تاركوفسكي الذي غيبه الموت العام 1986 في السويد بعيدا عن وطنه
الأصلي اعتبره المخرج السويدي المعروف انجمار برجمان بأنه واحد من أفضل
السينمائيين في الزمن المعاصر نظرا لشغفه اللامحدود بأدق التفاصيل في العمل
السينمائي والذي يراعي تلك اللقيات الفنية التي تنطوي على فهم عمق للغة
الصورة الآتية من التشكيلات والتكوينات وتوظيفهما الخلاق في خطاب الفيلم
الفكري والجمالي.
كما يتحدث الكتاب الذي صدرت نسخته منذ عقدين بأكثر من لغة
عالمية عن رؤية وذكريات وأفكار المخرج صانع التحف السينمائية الخالدة:
أندريه روبلوف، طفولة ايفان، المرآة، ستالكر، الحنين، والتضحية. وجميعها
تكشف حجم القلق والعزلة والحيرة وتسبر جوهريا إلا في حدود ضيقة عن طبيعة
الإبداع البصري وعن المعضلات الخاصة بالفن السينمائي والمعاني والإشارات
الشعرية فيه وعن ضرورة الفن وحاجة الإنسان إليه التي يعيشها الإنسان في
سائر محطاته.
يتساءل تاركوفسكي فيما كان يعد المسودة الأولى لمقدمة الكتاب
عن جدوى تأليفه ومدى ضرورته في إبراز منهجيته الجمالية والنظرية التي
تتزامن إبان صناعته للأفلام بدلا من الاكتفاء بممارسة الإخراج كفعل إبداعي
لا يقل شانا عن التنظير والبحث عن دفائن الصنعة وهو المخرج الذي غدا احتفاء
النقاد في أرجاء المعمورة بكل إنجاز جديد له يعوض عن سنوات عديدة أمضاها
متأملا ودارسا وباحثا عن فوارق أسئلة الإبداع السينمائي مقارنة مع الحقول
الإبداعية الأخرى .
بقراءة وإعادة قراءة العديد من المؤلفات حول نظريات السينما
يتوصل تاركوفسكي إلى نتائج مخيبة للآمال وهي أن تلك الكتب لم تقنع مخرجا
مثله أو تشبع رغبته بالبحث الرصين عن معضلة جدوى صناعة الفيلم .. بشكل عام
أدرك المؤلف /المخرج مبادئه الخاصة في العمل عبر استجواب النظرية السائدة
من خلال الرغبة في التعبير عن فهمه الخاص للقواعد والنظم والأحكام والأسس
لنسيج الشكل الإبداعي البصري والمتوائم مع الخطاب الفكري الذي ينشده..
وأيضا كان للقاءات المخرج المتكررة مع جمهور متلقي متنوع جعلته يشعر بضرورة
تقديم بيان كامل ومفصل قدر الامكان ، فالجمهور كان يرغب جديا في فهم كيفية
وسبب تأثير السينما وأفلامه بوجه خاص وقدرتها على تحريك مشاعرهم وأحاسيسهم
.. فهم كانوا يبحثون عن أجوبة على أسئلة لا تحصى من اجل إيجاد نوع من
المستوى أو القاسم المشترك لأفكارهم العشوائية والمضطربة بشان السينما
والفن عموما.
يستشهد المخرج في مواضع عدة من كتابه النادر في حقل المكتبة
السينمائية العالمية بالعديد من الشهادات لأفراد عاديين اخذوا على عاتقهم
مخاطبة المخرج عبر رسائل البريد موضحين فهمهم المتنوع والمتضارب أحيانا
لموضوعات أعماله التي كانت تعرض بين حين وآخر ولئن بدا اغلب تلك الشهادات
ينم عن ثقافة سينمائية رفيعة تؤكد على التواصل بين المبدع والمتلقي فأنها
في مواضع أخرى تثير في نفسية المخرج اليأس الشديد أمام سؤال يلازمه دائما
لمن يحقق أفلامه؟ ولماذا؟ ..لكن هناك نوعا آخر من الرسائل تمنح المخرج
بصيصا من الأمل رغم ما تعكسه من الم ومرارة وحيرة وارباك نظرا لقدرة
أصحابها على التعبير بعفوية وطلاقة ورغبة صادقة في فهم ما شاهدته هذه
الشريحة من المتلقين لأفلامه التي طالما وصمتها أقلام النقاد بأنها نخبوية
.
يخلص المخرج تاركوفسكي في كتابه الذي أبصر النور لأول مرة
العام 1986 باللغة الألمانية إلى أن الإبداع الفني برغم كل شيء ليس خاضعا
لقوانين مطلقة سارية المفعول من عصر إلى عصر ..فان له عددا لا متناهيا من
الأوجه ومن الصلات التي تربط الإنسان في مجاله الحيوي المفتوح على شتى
ألوان المعرفة والعلوم الإنسانية .
الرأي الأردنية
في 22 يونيو 2006