نعم، سوف أتكلم اليوم عن الناقد السينمائى الجميل سامى السلامونى (س . س) الذى
توفى فى مثل هذا الشهر عام 1991.
أنا لم أقابل (س.س) قط، لكنى تبادلت معه مراسلات عدة فى خطابات مطولة كان
يكتبها بخطه الأنيق ويرسلها مسجلة لعنوانى فى طنطا (وهو درس فى التواضع لن
أنساه أبداً) أما عن سبب عدم لقائى معه فهو سبب رومانسى جداً يناسب فتى فى
العشرينيات من عمره، ولا يريد أن يعرف أن كاتبه المفضل من لحم ودم وله ظل على
الأرض.. كان بوسعى دائماً أن أركب القطار إلى القاهرة، ثم أمشى لرقم 63 شارع
شريف حيث نادى السينما..
لكنى لم أجد قط الشجاعة لعمل ذلك.
كنت أعتبر سامى السلامونى موجوداً للأبد، فهو كائن سينمائى لا يمرض ولايموت،
مثله مثل تلك الأطياف الشفافة على أشرطة السليلويد.. ثم فتحت الصحف ذلك اليوم
الحزين من شهر يوليو عام 1991 لأجد الأستاذ أحمد بهجت ينعى الفارس الذى رحل..
عرفت أننى أخطأت التقدير وضيعت فرصتى الأخيرة للقاء هذا الرجل الذى تربيت على
كل كلمة كتبها.
فى آخر خطاب لى قال: "أحرضك على أن تحترف الكتابة.. لكنى لست مسئولاً عن
النتائج! "أنا نفذت هذا التحريض يا أستاذ سامى.. وهأنذا أقدم لك هذا المقال فهل
سيروق لك؟
الناقد السيئ ليس إلا مقدماً للأفلام، بينما الناقد الجيد معلم ومفكر وفنان
متخصص.. هذه هى كلمات جون سيمون فى كتابه (العقيدة السينمائية)، وقد ظللت أتذكر
هذا التعريف طويلاً كلما تعلق الأمر بسامى السلامونى.. إن كتاباته لم تكن نقداً
سينمائياً فحسب، بل هى خليط من الأدب الساخر والفلسفة والفهم المتكامل للحياة.
مازلت أرى أنك تتعلم الكثير عن الأدب من مقالات هيكل السياسية. ومقالات جلال
أمين الاقتصادية، ومقالات سامى السلامونى السينمائية.
تخرج سامى السلامونى فى المعهد العالى للسينما وحصل على دراسات عليا فى الإخراج
عام 1973، علاوة على ليسانس آداب قسم صحافة.. أى أنه صحفى سينمائى أو سينمائى
صحفى. بالإضافة لهذا كان نموذجاً للصعلوك البوهيمى الحقيقى الذى لا يعرف متى
ولا كيف يأكل، ولا أين يبيت ليلته، وبالطبع هو لم يتزوج برغم حبه المجنون
للأطفال. إن حكاياته طويلة مع الشقة الآيلة للسقوط التى كان يقيم فيها، وعندما
وعدته الفنانة البريطانية فانيسا ردجريف أن تزوره عندما تأتى مصر، كانت مشكلته
هى أنه لا يعرف أين يضع هذه السيدة لو فعلتها وجاءت.
أخرج سامى السلامونى أفلاماً قصيرة:
منها (الصباح) و(مدينة)، كما أنه ظهر ممثلاً فى أفلام
محدودة منها لقطة قصيرة فى فيلم (الحريف). وقد قدم عدداً من البرامج
التليفزيونية المهمة مع صديق عمره يوسف شريف رزق الله.
كان السلامونى فى كتاباته النقدية يستعمل لغتين: اللغة الوقور الأكاديمية
المخيفة التى استعملها مثلاً فى مقاله عن فيلم (المدرعة بوتمكين) فى مجلة
الهلال، وعن (كاجيموشا) فى مجلة الفنون، ولغة بسيطة ساخرة غير متحذلقة مثل التى
كان يستعملها فى مقالاته فى مجلتى الكواكب والإذاعة والتليفزيون. ولكنه اختار
اللغة الثانية دون تردد.
كان عدو التحذلق والتظاهر بالعبقرية. عندما شاهد فيلم (الجلد) للإيطالية
ليليانا كافانى، قرأ فى مقدمته كلمات للمخرجة تقول: "الجلد خارطة جغرافية
للعالم، سواء كان جلد إنسان أم جلد كلب" قال بطريقة تلقائية: "أقسم أننى لم
أفهم حرفاً من هذه العبارة، فهى ضخمة جداً وغامضة جداً بحيث لابد أن تكون عظيمة
وعميقة، وبحيث صار من لا يفهمها حماراً. وكثير من الأفلام يلجأ لهذه الحيلة كى
يبدو عميقاً بينما أعظم الأشياء كان دائماً أبسطها"ـ
فى شبابه كان متمرداً عصبياً أو كما يصف نفسه (ثائر الشعر والأفكار) ولم يكن
يتنازل أو يتساهل. وكان أستاذه العظيم أحمد كامل مرسى يقول له تلك العبارة التى
كان السلامونى يعشقها: طظ فى حضرتك. مع الوقت ازداد تسامحاً وقبولاً للآخرين.
مثلاً بدأ يدرك أن حسن الإمام مخرج متقدم جداً تقنياً برغم أنه أكثر ناقد هاجمه
فى حياته. لكنه ظل يمقت الادعاء والتصنع.. "آخر فيلم لجان لوك جودار تشعر بأن
الرجل صنعه لنفسه وأصدقائه من العباقرة فقط وجودار يقول فى المؤتمر الصحفى:
ليست لدى مخيلة.. لقد تخيل كارتر والخمينى كثيراً، بينما فللينى وروسللينى نظرا
للأشياء الحبلى بالمعانى. هذا كلام كبير جداً بس أنا مش فاهمه"ـ
سامى السلامونى كان طفلاً مندهشاً يعشق السينما بجنون، ولا يفهم قواعد تلك
اللعبة المسماة بالحياة ولم يبرع فيها قط. كتب كثيراً جداً لكنه مع الوقت بدأ
يعتقد أن الكتابة لا تغير شيئاً وأنه أصغر من أن يوجد السينما التى يحلم بها.
لعل السبب الأهم أن هذا صاحب أعوام الانفتاح الأولى، وقد رصد بحساسية تغيرات
المجتمع المصرى العجيبة..
رأى الجمهور الذى بدأ يسيطر على السينما فى ذلك الوقت، ففشلت أفلام عظيمة مثل
(روكى) و (جوليا) و(امرأة غير متزوجة)، وكتب يقول:
ـ"المأساة أن المشاهد المصرى لم تعد تعنيه أى جوائز فى العالم ما لم تحقق له
الأفلام مواصفاته هو الخاصة فى (السلطنة) .. مسألة مثل التوظيف الدرامى للإضاءة
التى نثرثر بها نحن النقاد، تبدو مضحكة جداً بالنسبة لجمهور اعتاد نور الكباريه
الساطع".. فى ذلك الوقت قتل بلطجى عجوز الشاب (عمرو عز العرب) حفيد جمال عبد
الناصر فى مشاجرة بسبب خروج السيارة من الجراج.. المثير هو أن العجوز ـ وهو رجل
أعمال كذلك ـ كان يحمل سكيناً فى سيارته أغمدها فى بطن الشاب. رأى السلامونى فى
هذا الحادث ما هو أكبر.. رأى عصراً يذبح عصراً آخر. لقد صار هؤلاء فى كل مكان
"لهم فتحة صدر الطرزانات، ولهم نفس الملامح ويستمعون لنفس المطرب وفى عيونهم
صفاقة من شبع بعد جوع.."ـ
هكذا ومثل كل هؤلاء الذين يحملون قلب طفل، تحولت الإحباطات والدهشة إلى جلطات
تسد الشرايين التاجية، وكان قلبه هو الذى قضى عليه. هؤلاء الأطفال الكبار لا
يموتون إلا عن طريق العضو الأكثر حساسية فى أجسادهم: القلب.
بالنسبة للممثلين
كان السلاموني يؤمن بأهمية الممثلين القصوى، فلم يستطع أن ينظر لهم تلك النظرة
المتعالية التي نظرها لهم هتشكوك "قطيع الماشية" أو يوسف شاهين الذي استخدمهم
كشاحنات تنقل أفكاره.. يوسف شاهين اختار لبطولة فيلم "اليوم السادس" محسنة
توفيق ثم فردوس عبد الحميد ثم سعاد حسني ثم داليدا....
يتساءل السلاموني: كيف يصلح لسعاد حسني ومحسنة توفيق ما يصلح لداليدا؟
...هذا
يدل علي أن شاهين يعتبر الممثلين مجرد قطع شطرنج ولا فارق بين ممثل وآخر.
ذات مرة احتدت الفنانة شهيرة علي جمهور المسرح الذي قاطعها، فشتمتهم وانسحبت،
خرجت الأقلام الحادة تمزقها تمزيقا، لكن سامي السلاموني قال: من حق أصغر
كومبارس أن يصغي له الناس ويحترموه، لكن هذا الجمهور المتوحش الذي يعتقد أنه
اشترى كل شيء بفلوسه يستحق ما فعلته شهيرة.. كان سامي السلاموني من النقاد
القليلين الذين جرأوا علي نقد الجمهور نفسه، فهناك أفلام عجيبة فعلا، لكن
الجمهور جعلها تنجح مما يعني أن الجمهور نفسه ليس على ما يرام تماما.
بالنسبة للمخرجين
لم يتحفظ في إبداء إعجابه بالمخرجين الشباب الراغبين في عمل شيء مختلف، ومنهم
عاطف الطيب ومنير راضي ومحمد خان، لكنه ظل علي احترامه للرواد، بالنسبة ليوسف
شاهين كان يعتبره مخرجا عبقريا بحق، لكن يجب أن يبتعد عن السيناريو نهائيا، لأن
ما يقدمه يبدو مضطربا غريبا مترجما إلي العربية. على يوسف شاهين أن يقدم لنا
بديلا لحسن الصيفي، فإذا كان هذا هو البديل فإن حسن الصيفي يربح بالتأكيد..
كانت بينه وبين حسام الدين مصطفى حرب ورق لكنه وقف معه في معركة "درب الهوى"
الشهيرة، ورأى أن حسام الدين مصطفى مخرج محترم برغم أسلوب المراهقة أحيانا في
الإفراط في زوايا الكاميرا الغريبة واستعمال الزووم، صلاح أبو سيف هو الأستاذ
برغم إيمانه العجيب بأنه لا يوجد نقاد في مصر.. سمير سيف واضح ومحدد... إنه
يؤمن بأن سينما الأكشن الأمريكية هي السينما الحقيقية، ومهمة الفيلم هي الإمتاع
دون أن نحمله أي أعباء أخرى.. إنه صادق وينفذ ما يؤمن به بشكل محترم.
الصهيونية
لم يخلط السلاموني قط بين اليهودية والصهيونية، وكان أول من حذر مبكرا من تسلل
الإسرائيليين إلي التليفزيون المصري مثلما ظهر مناحم جولان صاحب شركة كونان في
برنامج زووم الذي تقدمه سلمي الشماع، واعترف بأنه تعلم الكثير من سينما اليهود
من كتابات أحمد رأفت بهجت، التي علمته معني أن يكون اسم البطلة سارة أو هانا
والبطل روبين أو ديفيد، ينقل لنا ما قاله شارلي شابلن اليهودي: لو كان ينبغي أن
نقيم وطنا ليهود العالم في فلسطين، فعلينا أن ننقل كل كاثوليكيي العالم إلي
فلسطين!... علي الأمم المتحدة ألا تسمح بإقامة دول عنصرية لأقليات ولأسباب كهذه
لم يستطع قط أن يبتلع العبقري وودي ألين الذي يقحم يهوديته بدون مناسبة في كل
أفلامه
الرقابة
كانت له صدامات كثيرة مع الرقيبة الحديدية نعيمة حمدي التي قالت في حوار لها:
إنها مع التطبيع قلبا وقالبا، وقالت في حوار آخر: إن ثورة يوليو انتزعت ثروات
علية القوم.. لكنه برغم كل شيء لم يستطع أن يرفض الرقابة بقلب مستريح كدأب
المثقفين، وذلك عندما استدعاه مدير الرقابة سامي الزقزوق لعرض خاص لفيلم رائع
هو "القمر" تحفة برتولوشي، الفيلم ساحر الجمال لكنه يحكي عن علاقة عاطفية بين
أم وابنها!... بعد ما رأى الفيلم شعر بأنه عاجز فعلا عن اتهام الرقابة بضيق
الأفق.
هناك مشاهد لا يمكن أن نسمح للمشاهد بأن يراها "إن المتفرج يعامل بتقاليد
رقابية صارمة طيلة العام، ثم نأتي في المهرجانات لنفاجئه بلقطات تذهب عقله دون
مراعاة للظروف التربوية والاجتماعية لهذا المشاهد"ـ
وعندما رأى الفيلم الأسباني "المراهقات" قال: الفيلم ينتهي بنصيحة بلهاء للبنات
ألا يفعلن هذا، بعد ما علمهن لمدة 90 دقيقة كيف يفعلن هذا! يطالب بأن تتساهل
الرقابة مع الأفلام المحترمة العميقة خاصة السياسية منها، أما حذف اللقطات
الفاحشة، فمسألة يمكن أن يفهمها.
المعارك
معارك سامي السلاموني الصحفية تستحق كتابا كاملا، خاصة معركته مع مخرج إيراني
غامض كاد يصبح ظاهرة سينمائية لفترة هو "فريد فتح الله منوجهري"
الذي قدم فيلمين في غاية الرداءة لكنهما نالا تسهيلات تصوير
وإنتاج غير عادلة في مصر، بالطبع اتهمه المخرج الإيراني بأنه شيوعي، واتهمه
بأنه يشاهد الأفلام وهو نائم... رد السلاموني بأن منوجهري يخرج الأفلام وهو
نائم، هناك معارك كثيرة مع حسام الدين مصطفى، وإن اعترف له بأنه متحضر.. "لم
يرسل بلطجية لضربي أو يجعل راقصة تحدد لي موعدا للقائها كما فعل مخرجون
آخرون!".... كانت هناك معارك عنيفة مع غرفة صناعة السينما التي تبعث للخارج
بمجموعة معينة من النقاد، بينما تتجاهل السلاموني ورفاقه تماما
وفي سبتمبر 1981 وجد نفسه ضمن المبعدين في مذبحة سبتمبر الشهيرة، بالطبع كان
الكثيرون قد تطوعوا في تقاريرهم السرية باتهامه بالشيوعية، وهي التهمة الجاهزة
ضد أي متمرد مختلف يقول كلاما لا يفهمونه.
تراثه
ترك السلاموني الكثير من المقالات المتناثرة التي تشكل مرجعا مهما لحقبة
سينمائية كاملة، وأعتقد بلا فخر أن عندي أكمل مجموعة منها بعضها من مجلة
الإذاعة والتليفزيون وبعضها من مجلة الكواكب أو الفنون أو الهلال... وجدت أن
الأستاذ "يعقوب وهبي" قام بجمع مجموعة الأفلام العربية في أربعة مجلدات ممتازة
صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وكان رئيس التحرير هو أحمد الحضري لكن
لم يقم أحد علي قدر علمي بجمع ما كتبه السلاموني عن السينما الغربية، وهو تراث
ثمين جدا بدوره، فماذا كتب بقلمه الساحر عن "إي تي
"و"حرب
الكواكب" و"الفك المفترس"... إلخ...؟
هذا هو العرض الذي أقدمه لأي جهة ترغب في إصدار هذا الكتاب المهم، صدقوني إن
س.س يستحق هذا وأكثر. |