لم يكن قد مضى من عمر السينما إلا ما يقارب السنتين فقط، عندما قام المخرج جورج
ميليه بتحقيق حزمة من الأفلام التي عقدت القران، مبكراً، فيما بين السينما
والحرب. حينها انشغل هذا المخرج الرائد بإنتاج وإخراج أربعة أفلام عن حوادث جرت
في الحرب اليونانية، وعن انفجار المدرعة «مين»، في مرفأ هافانا سنة 1898، الذي
أشعل فتيل الحرب الإسبانية الأمريكية، وذلك قبل أن ينتهي إلى إخراج فيلمه
الأشهر «قضية درايفوس» عام 1899، ليضع الحرب وملابساتها على طاولة التناول
السينمائي.
وخلال العقدين الأولين من عمر السينما، سوف تولد مجموعة أخرى من أهم الأفلام في
تاريخ السينما العالمية، التي لا تكاد تبتعد عن الحرب والمحاربين، بدءاً مما
اقترفه المخرج الرائد ديفيد غريفيث، ما بين العامين 1915- 1916، في فيلميه
«مولد أمة»، و«التعصّب»، وصولاً إلى رائعتي المخرج الكبير سيرغي ايزنشتين في
«الاضراب» عام 1925، و«المدرعة بيوتمكين» عام 1926، اللذين سيصبحان من أشهر
كلاسيكيات السينما.
سيبدو من المثير حقاً أن العلاقة ما بين السينما والحرب، أو حضور الحرب في
السينما، راسخة إلى حدّ أنها لازمت عمر السينما العالمية، منذ أفلامها الأولى،
وحتى اليوم. وسواء أكانت الأفلام روائية أو وثائقية، فإن الحرب لا تكاد تختفي
من أهم أفلام السينما. بل إن أهم قصص الحب والبطولة والشجاعة، وحكايات الوفاء
والإخلاص، أو الخيانة والخديعة، في تاريخ السينما، غالباً ما أتت في خضم
الحروب، سواء أكانت الحرب في واجهة الأحداث، أو تشكل الخلفية، أو البيئة..
قبل أن تظهر الحروب الافتراضية بزمن طويل، كانت السينما منشغلة بموضوعة الحرب
التي جرت أو تجري في الواقع حقيقة.. وإذ استلهمت السينما حكايات أفلامها من
روايات وقصص أدبية، أو من سير شخصيات حقيقة.. فإن وقائع الحرب بذاتها، أو
حكايات من ذهبوا إلى الحرب ولم يعودوا، أو من ذهبوا إلى الحرب وعادوا منتصرين،
أو من ذهبوا إلى الحرب وعادوا منكسرين، بقيت موضوعات أساسية في أفلام أكثر من
أن تعد وتحصى..
وفي وقت برزت نزعة أفلام نحو إدانة الحرب، وتبيان آثارها المدمرة على الإنسان
والطبيعة، فقد تمّ توظيف طائفة من الأفلام في سبيل الدعاية لمصلحة طرف ضد
آخر!.. فخلال الحرب العالمية الأولى قدمت السينما أفلاماً حاول صانعوها إثبات
شرعية الطرف الذي ينتمون إليه، وإبراز تفوقه، مقابل فضح همجية الطرف الآخر
وعدوانه.. هكذا كانت الأفلام الإنجليزية والفرنسية تظهر الألمان في صورة
المجرمين الأجلاف، في حين ركزت أفلام السينما الألمانية على التفوق والانضباط
العسكريين، وعلى شجاعة الجندي الألماني وصلابته في مواجهة أعدائه.. وستعاد
الأسطوانة ذاتها في الحرب العالمية الثانية، ولكن بدخول السوفييت والامريكيين
واليابانيين والايطاليين.. هذه المرة!..
كان من الممكن أن تبقى الحرب مرصودة للسينما الوثائقية، ففيها من قوة الصورة ما
يغني عن الحكاية، إن لم تكن هي الحكاية ذاتها.. ولكن رغبة عدد من السينمائيين،
خاصة أولئك الذين ذاقوا ويلات الحرب أو خبروها بأنفسهم، وعنايتهم بأن يعيدوا
علينا سرد ما يفوق الخيال، هو ما فتح المجال أمام الحرب لتلج الفيلم الروائي من
أوسع أبوابه.. زاد من ذلك اتكاء بعض الأفلام على أعمال أدبية، من روايات وقصص
ومذكرات.. وتوفر الامكانيات الانتاجية لإعادة تجسيد مشاهد حربية مذهلة.
يمكن هنا أن نشير إلى أمرين اثنين: أولهما أن الفيلم الحربي، وهو المفترض به أن
يتناول الحرب سينمائياً، قد تداخل مع الفيلم السياسي، وهو المفترض به أن يناقش
علاقة السيطرة السائدة في المجتمعات، والموقف منها.. وهذا التداخل شوَّش هوية
كل منهما.. وصار من المتعذر تحديد التخوم الفاصلة بينهما، ومعرفة أين ينتهي
الفيلم السياسي، وأين يبدأ الفيلم الحربي.. وانتقل هذا ليشوش على الفيلم
النضالي، أو الفيلم الوطني، أو أفلام الكفاح التحرري، والثورات، والانتفاضات،
والهبات الشعبية، وحتى تمردات العامة، أو التمرد الفردي، والفوضوي.. ولتتصل
بأفلام الكاوبوي، والعصابات، والمافيات.. ونرى أنه من الضروري جداً التدقيق
والتمييز، هنا!..
ثانيهما: أن حالة الاشباع السينمائي من تناول الحروب الواقعية، التي جرت عبر
التجربة البشرية، منذ بدء الخليقة حتى اليوم.. وازدياد الخشية من مدى الضراورة
التي وصلت إليها البشرية، وقدرتها المتزايدة على تدمير ذاتها، دفع إلى نشوء
تيارات من أفلام تتناول الحروب الافتراضية القادمة، سواء بين البشر ومخلوقات من
الفضاء، أو البشر وما أنتجوه من أسلحة وآلات.. انتهاء بالبشر أنفسهم.. مما يكشف
حالة الخوف من رعونة الإنسان نفسه..
يبقى أنه من المؤسف أن السينما العربية، وحتى اليوم لم تستطع امتلاك روايتها
لأي من الحروب التي مرت بها الأمة العربية.. تماماً كما فشلت في بناء الوثيقة..
لقد فشلت السينما العربية في تحقيق فيلم حربي يتحدث بشكل مؤثر عن نكبة 1948، أو
نكسة 1967، أو اجتياح لبنان 1982، أو غزو العراق 2003، أو حروب العدوان التي
تتالت على لبنان وغزة.. وبين هذا وذاك، ضاعت حرب أكتوبر 1973، مع الوعودات
الكثيرة بالفيلم المُظفّر الذي من المُفترض أن يأتي ليحكي حكاية حرب كان من
الممكن أن تُكتسب تماماً!. |