لاشك في أن حرب أكتوبر غيرت موازين السياسة الدولية علي الأقل في فترة الحرب
ولفترة بسيطة تلتها. لكنها وبالرغم من أهميتها سياسياً وعسكرياً وحتي نفسياً
ومعنوياً، ليس فقط علي مستوي القادة والجنود ولكن علي مستوي السواد الأعظم من
الشعب المصري والشعوب والبلدان العربية سواء تلك التي شاركت في الحرب كسوريا أو
التي لم تشارك، إلا أن الغريب في الأمر أن تلك الحرب لم تحظ بما يليق بها من
عرض علي الشاشة الفضية فكانت إنتاجات السينما الروائية العربية عن حرب أكتوبر
ضعيفة وقاصرة بل وأضعف مما يمكن أن يُقدم عن تلك الحرب المجيدة. هذا في حين
تفوقت السينما التسجيلية علي السينما الروائية في نقل وقائع تلك الحرب أو وقائع
ما بعدها.
ويظهر ذلك القصور جلياً وبشكل سنوي مع الاحتفال بذكري الحرب المجيدة من خلال
تكرار عرض الأغاني الوطنية وبعض الأفلام التي صنع معظمها في أعقاب الحرب أي في
فترة السبعينات والكثير من هذه الأفلام لم يكن سوي قصص حب رومانسية علي خلفية
أحداث حرب أكتوبر ولم يتم تناول الحرب درامياً ولا فنياً علي النحو الذي يليق.
وربما يرجع بعض القصور في ذلك إلى تدخل الدولة - وأعني بالدولة هنا القوات
المسلحة خاصة إدارة الشؤون المعنوية- فهي القوة الخفية أو المُعلنة في الرقابة
علي تلك الأفلام من خلال ما يجب أن يقال وما يجب أن يصور وما لا يجب. فكبل ذلك
العديد من المبدعين عن نقل ما يرونه واقتصرت معظم الأفلام التي رأيناها علي تلك
القصص الرومانسية التي غالباً ما يكون أبطالها من المشاركين في حرب أكتوبر. ومن
المضحك في أفلام من المفترض فيها أن تكون جادة نوعاً ما أن لا يظهر الجانب
الإسرائيلي خلال المعارك التي رأيناها في تلك الأفلام سوي من خلال جندي واحد أو
حتي خمسة أو عشرة جنود على الأكثر كما لو كانت الحرب من جانب واحد فقط هو
الجانب المصري وكما لو كان المصريون يحاربون عدواً خفياً.
إن قيام المنتجين بصنع العديد من الأفلام عن الحرب في السنوات القليلة التالية
لحدوثها إنما هو دليل قوي علي النزعة الربحية التي سادت بين الكثير من المنتجين
الذين أرادوا إستغلال الحرب والنصر لجني المكاسب المادية من خلال شباك التذاكر
مدعمين هذا التوجه بنجم الشباك الأول في تلك الفترة محمود ياسين والذي قدم معظم
تلك الأفلام إن لم يكن كلها وشاركته البطولة أيضاً نجمة من نجمات تلك الفترة هي
الفنانة نجلاء فتحي. فمثلاً كان فيلما "بدور" و"الوفاء العظيم" قد تم الإنتهاء
من كتابتهما قبل الحرب وتمت إضافة الأجزاء الخاصة بعد الحرب.
وفي كتابه "أطياف الحداثة صور من مصر الإجتماعية في السينما" يُقسم الناقد عصام
زكريا الأفلام الروائية التي أنتجت عن حرب أكتوبر إلي ثلاث فئات :
1- الأفلام التي صُنعت عقب الحرب مباشرة وإتسمت بالتغني بالنصر ودوره في
إستعادة الكرامة وتوحيد الصف وتضم: أفلام الوفاء العظيم – الرصاصة لا تزال في
جيبي – بدور – أبناء الصمت – حتي آخر العمر – العمر لحظة وكلها أُنتجت ما بين
عامي 1974 و 1978
2- أفلام تعرضت لحرب أكتوبر من زاوية سياسية تري أن هذه الحرب صنعها البسطاء
والفقراء وكسب منها الإنفتاحيون والمطبعون وأثرياء الحروب ومن هذه الأفلام:
سواق الأتوبيس - بيت القاضي – العصابة - زمن حاتم زهران – كتيبة الإعدام –
المواطن مصري- العاصفة وهي أفلام صُنعت خلال الثمانينيات والتسعينات كتبها
وأخرجها سينمائيون يرفضون سياسة السادات ويعتبرونها إنتكاسة ونكوصا عن حرب
أكتوبر.
3- أفلام من إنتاج الدولة ممثلة في التلفزيون لم تتعرض لحرب أكتوبر نفسها (رغم
وجود مشروع ضخم لصنع فيلم عن الحرب لم يظهر إلي النور حتي الآن لأسباب إنتاجية
وسياسية) ولكنها تعرضت لفترة حرب الإستنزاف بإعتبارها جزءاً من أكتوبر مثل
حكايات الغريب – الطريق إلي إيلات – الكافير – حائط البطولات – يوم الكرامة.
وهي أفلام حديثة الإنتاج بدأت الدولة في إنتاجها تحت الضغط الإعلامي الذي يتكرر
سنوياً في ذكري الحرب بضرورة صُنع أفلام وطنية عن أكتوبر وقد بدأ الإتجاه
لإنتاج هذه النوعية مع النصف الثاني من التسعينات.
نظرة علي بعض أفلام أكتوبر
"الرصاصة لا تزال في جيبي 1974" اتخذ صناع هذا الفيلم من الرمزية منهاجاً
للفيلم. فالوطن هو فاطمة والنكسة هي إغتصاب فاطمة وأكتوبر هو النصر لفاطمة أي
النصر لمصر. ويذكر الناقد محمود قاسم في كتابه "الفيلم السياسي في مصر" أنه قد
أجمع العديد من النقاد علي أن أقوي ما بالفيلم هو معاركه الحربية التي تم إعادة
تصويرها ثانية تحت إشراف القوات المسلحة، ولكنه ليس فيلماً سياسياً بالمعني
العام. في حين تبدو الرؤية السياسية أكثر وضوحاً بعض الشئ في فيلم "أبناء
الصمت" ( 1974 ) فنموذج الصحفي أحمد راجي يعطي بُعداً سياسياً حقيقياً للفيلم
فهو ليس إنتهازياً ولكنه عرف المعاناة في السجون السياسية وتعب من قسوة المعتقل
وذله فاستكان ورضي بأن يكون مجنداً لأي تصرف من تصرفات السلطة في مواجهة
المحررين الشبان الثائرين علي وضع الجريدة. وهذا الصحفي هو بلا شك الشخص الوحيد
الذي يمكنه أن يلعب دوراً سياسياً أو حزبيا، ولذا فإن كافة المجندين والعسكريين
في هذه الأفلام عليهم فقط تنفيذ الأوامر بعيداً عن السياسة سواء كانوا معارضين
أو غير منتمين سياسياً قبل التجنيد ولذا فإن السياسة لم تدخل إلي القوات
المسلحة لا في هذه الأفلام ولا في غيرها. وأيضا يقترب فيلم "العمر لحظة" (1978)
من الجانب السياسي للحرب من حيث إدانة الصحفيين الكبار الذين يبدون بالغي
السلبية إزاء ما يحدث وعلاقة الصحافة بالجو العام في مصر وحالة الإحساس الدفين
بالهزيمة والنكسة.
ويعتبر فيلم "أغنية علي الممر" ( 1972) من أهم الأفلام علي الجانب التقني
والإنساني عن حرب أكتوبر ومن المفارقات الغريبة أنه قد تم صنعه قبل الحرب بعام،
فالفيلم يرصد مجموعة محاربين أثناء المعارك واستبسالهم للدفاع عن الأرض ورغبتهم
الشديدة في النصر. هذا إلي جانب فيلم "أبناء الصمت" (1974) الذي يعلق عليه
الناقد علي أبو شادي في كتابه "السينما والسياسة" قائلاً: "استطاع محمد راضي في
"أبناء الصمت" أن يقيم بناء فنياً متكاملاً كشف فيه عن الانفصام الحاد بين
البنية الفوقية- رئيس التحرير وكاتب التبرير والممثلة – وبين البنية التي
يمثلها المقاتلون علي الجبهة : المدرس الصعيدي والموظف والفلاح المنوفي والعامل
السويسي وغيرهم من البسطاء الذين حملوا عبء الحرب وحققوا الإنتصار، مضيفاً أن
خمسة من الأفلام الستة التي صنعت عن الحرب كانت معركة العبور عام 1973 طرفاً
زائداً فيها، لأن السينما المصرية استبدلت أحداثها العارضة وحوادثها المفاجئة
في ميلودراميتها الرديئة بأحداث الحرب فهي - أي السينما- لم تستطع أن تغير من
طبيعتها وأسلوبها فاحتوت الحدث الكبير وقزمته فبدا في أفلامها متضائلاً،
متقلصاً ،و بلا جذور.
أخيراً، وإجمالاً لما سبق وبنظرة متأنية لما قدمه السينمائيون من أفلام وسينما
لحرب أكتوبر نجد أنها لم تقدم سوي النذر اليسير وفي رؤى مضطربة، وميلودراميات
فجة، وسطحية في التعامل مع الحرب وتناولها، كما أنها جاءت فارغة من المضمون
الحقيقي للحرب فيما عدا تجربة أو تجربتين لأسباب كثيرة قد نفرد مساحة أخري
للحديث عنها. ولكن المؤكد أنه وحتي اليوم فليس لأكتوبر ذلك الفيلم السينمائي
الذي يُحتفي به لأنه لا يوجد فيلم احتفي بحرب أكتوبر ونصرها التاريخي المجيد. |