الناس على قدر نيّاتهم. أعرافها تقوم على الإخلاص. إذا
سقط الأخير يموت يقينهم. تقارب باكورة التونسي مهدي
برصاوي "بيك نعيش" (96 د) هذه المعادلة العقائدية من
باب الشفاعات. زوج وزوجته وإبنها الصبي، عالم صغير
مفعم بحبور ومودات، ووجوب تعايش على محبة وسماحة.
ثالوث مقدس، مجازه أن غنى الدنيا تحكمه أقدار لا راد
في لوعاتها وفظاعاتها، ما لم يحافظ المرء على حد أدنى
من الزهادة. بمعنى أن لا تثق بما في يدك أكثر مما تثق
بما في يد خالقك، وما يرسمه في طريقك القصير في دنياك
العابرة. ما سيواجهه الثنائي فارس ومريم، حينما تقع
مصيبة "الغدر" بصبيهما عزيز (10 سنوات)، هو سؤال شائك
وخاص بالإئتمان. يهتم برصاوي بحصافة سينمائية على
مساجلة تلك المواثقة بينهما بترو ورصانة، معطياً
مشاهده جرعات متتالية من مفاجآت، خصوصا ما يتعلق
بإعتباراتها الأخلاقية، فيما تتوافر السياسة خارج
نسقهم الأسري كتهديد لأي خطوة يقوم بها الأب لنجدة
ولده، من دون مراعاة وتحسب مقدار إستقامة من حوله،
وأولهم زوجته.
هذه عائلة تونسية متفتحة على الحياة. تتمتع بطبقية
متحصّنة بنجاحاتها العملية والمالية والمنصبية (وهذه
الأخيرة حاسمة لفهم تصرفات البطل وتعاملاته المتعالية
مع محيطه وبشره). نلتقيها في سفرة ريفية قرب مدينة
تطاوين الجنوبية. تشارك ثلة أصدقاء يحتفلون بترقية
الزوجة مريم (نجلاء بن عبد الله) في عمل "قد" يقودها
الى عاصمة خليجية!. أما فارس فهو مدير شركة محلية
أسسها بعد عودته من مهجره الفرنسي، ولها إرتباطات
أوروبية، ما يعني إن عقليته أشبه بالوافدة الى تونس
التي تعيش ولادة ثورتها على نظام شديد الوطأة
والتوتاليتارية (العام هو 2011، وأحداث الفيلم تجري
بعد ثمانية أشهر على سقوط نظام زين العابدين بن علي).
في ذلك اللقاء الجماعي نسمع سجالات مسيّسة حول حركة
النهضة وتزمت شيوخها، وغمزات لما حدث من هزّات لحكم
كان يزهو بقبضته الحديدية، إضافة الى عدد من النكات
الجنسية وتهكماتها الجندرية. خلاصة المشهد الإفتتاحي،
أن تونس المتخفّية (واللا متحفّظة) تستجير بجماعية
تستقوي بأمانة أفرادها، وتكاتفهم حول مصالحهم. يمطّ
برصاوي (ولد في تونس العاصمة في العام 1984) جوه
الإحتفائي الى زمن أطول قليلاً، بمشهديات لأسرة فارس
داخل سيارتهم الفارهة، وهم يستمعون تكراراً لأغنية
عصرية، يعشق الغلام سماعها. هنا تركز كاميرة أنتوان
هابرلي الحيوية كثيراً على وجه فارس (إداء قوي من
التونسي الفرنسي سامي بوعجيلة)، تورية الى إن فاجعته
ستكون مزدوجة، بسبب إصراره على تكرار نيَّاته المادية
التي ستتجلى لاحقا بمكالماته الهاتفية مع أحد مسؤولي
شركته، ومحاولة معالجة تهديدات عماله بالإضراب،
وختاماً تعامله المشحون مع رجل غريب يعرض عليه صفقة
لإنقاذه من كربه بمال كثير. داخل السيارة هو عالم مصغر
لغُمَّة عائلية مقبلة. فكلما رفع برصاوي منسوب فرحتهم،
يزداد حظوظ الفاجعة. لن يطول الأمر، قبل أن يجد
الثلاثة أنفسهم وسط تبادل رصاص كمين لمسلحين أسلاميين
نصبوه على طريق صحراوي لإصطياد أعوان الأجهزة الأمنية.
تصيب أحداها الصبي في كبده وتتلفه.
تقودنا هذه المصيبة الى أروقة مستشفى، ومنها الى سر
حارق يصيب وجدان فارس، ويضع الصدق في مواجهة شك ومكيدة
وغش. بطل هذه الفقرة المطوَّلة هي المفارقة التي من
دونها يتحوَّل شريط برصاوي الى ميلودراما فارغة
المعاني، ذلك إن مباغتاتها تخطف مزاج الفيلم تماما،
وتدفع بمشاهدها الى حسم دفاعه أو ميله الى جانب أيّ من
الزوجين. إن إصابة عزيز هي عامل مساعد مركزي يُسهل من
فضح طويَّة غادرة. لكن هل ما حدث جرى قبل زيجتهما أم
خلالها؟ إذا كان في وقت ذلك الـ"قبل"، فهذا يعني إن
الغدر قابل للمسائلة، أما إذا تحقق في ذلك الـ"أثناء"،
فهذا يعني إن الطامة حاسمة، ولا عودة عن مجازاتها،
ودفع قصاصها. حينما يطلب الطبيب من الزوجين إجراء
تحاليل دم وحمض نووي، لمعرفة أي منهما تتوافق خلايا
كبده لزرع قطعة منه، وتعويض الـ 80% ما تلف من كبد
الصغير، يكتشف المسؤول الطبي إن الصبي ليس من صلب فارس
الذي يُصاب بنكبة، تقيَّد عواطفه، وتجمد ردود فعله.
كائن تُمُحنه نائبتان: زنا زوجة وخيانتها، وموت يقترب
رويدا من قلب إبنه وحياته. يتعمد المخرج مهدي برصاوي
بفطنة تحاشي تفاصيل العلاقة الآثمة لمريم التي كلما
حاولت إخبار زوجها بالحقيقة، يصدَّها ويعنّفها، قبل أن
تشتمه وتعيَّره بـ"هذه هي رجولتك". إن فارس مغدور
بقيمه العائلية وشرفه ولا ظنه بامرأة نكثت وعدها
الزوجي في أن تضع كل ماضيها أمام شفافيتهما. فيما تبقى
مريم أسيرة إقتراح الطبيب بضرورة الإتصال بالرجل
الغائب لإنقاذ "ولده" البايولوجي. وهو فعل يجعل منها
ضحية مزدوجة. أولاً من باب "عبوديتها" الى تاريخ عَبَر
ذاكرتها، وظنت إنه مات، بيد إنه يفاجأها بقرع باب
فضيحتها، ومن باب أخر "رضوخها" القسري على قبول حقيقة
إنهيار زيجتها، رغم تشبثها بحياة يافعها، ذلك إن عنوان
شريط برصاوي "بيك نعيش" هو ملك للأم أكثر منه الى
فارس، بمعنى إن نجاحها في جلب الوالد الحقيقي ودفعه
للتبرع بقطعة من كبده،هو مبدأ عرفاني لحقيقة إن الحياة
دائما على صواب، وهي لا تموت جزافاً بل يحث ذلك الفناء
حسب إشتراط رباني محسوب في توقيته وإستحقاقه.
في المقطع الأخير، يرسم برصاوي مسارين درامين منفصلين.
أحدهما لسباق البطلة، مع الزمن والحُرْقَة، في الوصول
الى عشيقها السابق، المُصرّ على قوله في وجه فارس "نحب
ما يعرف عني حد أي شي"، ذلك إن ما جرى بينه ومريم هو
بحكم الغائب كصورته وتاريخه ومغامرتهما. المشكلة هنا
إن الأب المُنْجِد، وبسبب هذه الهزّة الضميرية، يعيش
بين جحيمين. إكتشاف أصل نُّطفة عزيز، ما يعني في أعراف
نزاهته إنه خارج دائرة إبوة مخترقة، بيد إن فارس يصرَّ
على إنسانيته وولائه الى فتاه حتى أخر شوط حياته،
اللتين تقوداه الى لقاء عابر مع رجل غريب، يعرض عليه
صفقة لا يستطيع رفضها، رغم الشكوك حول تفاصيلها. أما
"ناره" الأخرى فتحرق ما تبقى من توبة ممكنة في كيانه،
ذلك إن فارس لن يتمكن من تحقيق قصاصه من خائنة عهد.
تتجلَّى هزيمته وبقوّة درامية مختزلة وصاعقة في اللقطة
الختامية، عبر نظرات مكسورة يتبادلها فارس مع مريم،
وهما يتواجهان داخل رواق مستشفى شهد عارهما المتأخر،
ليصبح عنوانه الجارح هو إن "التوبة ندم".
المسار الأخر، وهو الأضعف في الوجهة المؤدلجة لشريط
برصاوي، نظراً لغلبة طابع إعلامي فقير الحجة على فصل
عاني من مغامرات سطحيّة، ومتعجَّلة التهمة، متعلق
بالحرب المندلعة بين أمراء المليشيات في ليبيا. هذا
الإقحام الدرامي لا يُنظر في تبريره سوى إصرار "بيك
نعيش" على "حشر" قضية سرقة أعضاء الأطفال وتهريبها
وبيعها في السوق السوداء. نعم! هذا عار إنساني ومُدان،
إلا إن الطريقة التي قارب بها برصاوي تفاصيلها خصوصا
"سرقة مال صفقة" فارس من قبل رجل بدين لا يحمل سوى
سكين صغير يهدد بها عنق طفل مسروق، ورحلة شكري الى
"قلب الظلام" الكونرادي الليبي، ترتبت فصولهما وكأنهما
خلاصة تأثيمية لجريمة أكبر من جنحة مريم وزناها التي
يجب على الجميع، بما فيهم مشاهد الفيلم نسيانها، أوعدم
جعلها أولوية للتحامل على نكران العشرة الذي تردد صداه
في المشهد اللئيم، حين توقع مريم على ورقة التفويض
لزوجها المغدور، وتكليفه "مطاردة" الأب الأصلي، وجلبه
الى غرفة العمليات.
يعرض برصاوي في هذا الفصل الحركي، عصابات تحرس عشرات
الأطفال في بيوت صحراوية، وحرس حدود متورطون في عمليات
تهريب وفساد ورشاوى ووشايات، وميليشيات موتورة تحرق
وثائق جرائمها!!، وفوق هذا، فرق من الأخيار لا أحد
يعرف أصل ولائها، تظهر فجأة لتطارد الكلّ، ولتنقذ
الكلّ. ما عدا ذلك الصغير الذي يقترح المجرم البدين
على والد عزيز: "قطعه زي ما تحب"، قبل أن يصبح هذا
العبء فجأة، كما لو كان شبيهاً بحمل إبراهيم بين يدي
فارس ومأزقه المعقَّد. هل يعقل أن تمتد يداه الى كبد
وليد غريب؟ الجواب مباغت. يقود فارس سيارته مع "الأبن"
الجديد والطارىء الى مسجد قريب، ويسلمه الى أولياء
الدين وحصاناته الإنسانية.
تنتهي ضائقة فارس بسرعة والى حين، على عكس حكاية الرجل
الغامض المدعو شكري (إداء لافت من صلاح مصدق)
وتعقيداتها وإلتباساتها، الذي يصل الى قلب محنة رجل
الأعمال، عبر "جاسوس" مسرب داخل المنظومة الطبية، وهو
ممرض يدعى منير، ينقل اليه تفاصيل بلايا تجري بين
جدران بلا مرحمات. يمثل شكري وجهاً أسود لنذالات، تبدو
على سحنتها إمارات الأسى والغضب، لكنها تداور على
لسانها كلاماً تلفيقياً على شاكلة "خربوها البلاد"،
أو"في هذه البلاد، يفرضون على الأب أن يدفن ولده"، قبل
أن تعلن بعزم تشجيعي: "قادرين نصحح العوج"، غير إن هذا
الأخير ضارب في كل مكان وفي كل النفوس. وحده فارس يبقى
نقيّاً حتى وهو يستقبل العشيق السابق متبرعاً بقطعة
كبد لـ"فلذة كبده الحقيقي"، ليعلن شريط " بيك نعيش"،
الذي سيفتتح خانة "آفاق السينما العربية" في مهرجان
القاهرة السينمائي 2019، وقبلها مشاركته في المسابقة
الرسمية للدورة الـ56 (26 أكتوبر ـ 1 نوفمبر 2019)
لمهرجان إنطاليا السينمائي في تركيا، إن لا خيار لنا
سوى في تكافلنا جميعاً من أجل ضمان حرياتنا التي يجب
أن لا تُنتكس أو تُسرق، تماما مثل توباتنا التي قد
تتحول الى ندامات، حين يعمينا موت يقيننا.