في خطوة تصحيحية حاسمة، أعاد مهرجان أنطاليا
السينمائي في تركيا، بدورته الـ56 (26 أكتوبر ـ الأول
من نوفمبر 2019) الروح الى السينما الوطنية، بعد غياب
عامين إثر "الإنقلاب" الذي إستبعد إدارته النسوية
السابقة، التي يُذكر لها قوّة إرادتها وتنوع كفاءاتها
وحُسن إختياراتها ووسع علاقاتها الدولية، وعملت بجد
على جعل المهرجان واحداً من أشهر الواجهات التي تحتفي
بالسينما.
ما حدث آنذاك، هو قرار سياسي جاء إثر وشايات وسوء نيات
وغدر إداري، جُلبت على أثره قيادة بريطانية برئاسة شخص
مغمور، كانت أول قراراتها إلغاء المسابقات الخاصة
بالشريط القومي، مُتحصّنة بحجة العالمية وتوسيع رقعة
الدعوات للسينمات الأميركية والأوروبية. كانت هذه
المرحلة القصيرة نتاج ما بعد أحداث عاصفة مرت بها
البلاد عام 2016، وإستهدفت الإطاحة بنظام الرئيس رجب
طيب أردوغان وحزبه "العدالة والتنمية" المتحكم بمقادير
الحياة السياسية، وما أعقبتها من حملات تطهير طالت
مختلف إدارات الدولة. حاول فريق مهرجان إنطاليا
السينمائي (أو ما تبقى منه) مسايرة حالة سياسية حادة،
فخصص دورة ذاك العام، التي حضرتها شخصياً وكتبت عن
أجوائها في صحيفة "السفير" اللبنانية قبيل إغلاقها،
الى عروض أفلام منتقاة حول "المجد التركي" ورموزه
ونقلاته التاريخية. كانت تلك الدورة أشبه بهتاف مسيس
فاقع، أصدر المهرجان بموازاة عروضه كتيباً دعائياً
غريباً، فصلت فيه مسارات الإنقلاب العسكري، وحُشدت على
صفحاته صوراً بطولية لمَنْ ساهموا في دحره. كان كل شيء
متوتراً ومليئاً بالشكوك. كانت أغلب العروض يومذاك شبه
فارغة، ذلك إن المزاج لم يكن سينمائياً بل مجنداً الى
الولاء.
أطلق المهرجان على دورة 2019 أسم ملفت هو "العودة الى
الجذور"، علامته إسترجاع الملف المحلي ومسابقتيه
للفيلم الروائي الطويل والوثائقي، مكلفاً شخصين
خبيرين، هما أحمد بوياتشوغلو وباشاك إيمره، للإشراف
على إدارته الفنية، والعمل على إحياء الروابط
الإبداعية بين المواهب الجديدة ونظرائهم من القامات
السينمائية البارزة سواء في تركيا أوخارجها، عبر جمعهم
تحت مظلة واحدة في المنتجع الشهير الواقع عند شواطيء
المتوسط.
تشارك في المسابقة الوطنية للأفلام الروائية الطويلة
10 عناوين تركية جديدة، أُنتقيت من بين 50 شريطاً
تقدمت للمشاركة في المنافسات. تتمتع 6 منها بعرض عالمي
أول. تحدد لاحقا لجنة تحكيم يرأسها المخرج زكي
ديميركوبوز الفائز بجائزة "البرتقالة الذهبية" في
أنطاليا لإفضل مخرج عن فيلمه "قدر" (2011)، إضافة الى
كل من الكاتبة لطيفة تيكين، والممثلة شيبنام بوزوكلو،
وكاتب السيناريو والممثل مارت فرات، والمصور السينمائي
إيمره إركمن، أسماء الفائزين بجوائز 14 فئة، تبلغ
قيمتها الإجمالية 720 ألف ليرة تركية (125 الف و580
دولار)، بما في ذلك جائزة أفضل فيلم، ونظيرتها لأفضل
فيلم أول. والأفلام المتنافسة هي: "مغامرات شوكرن
الأعرج" لأونور أنولو، "الأنتيل" (الهوائي) لأورتشن
بيهرام، و"نَفَس" لأوزكان يلماز، و"كرونولوجيا" لعلى
أيدين، و"لا مبالاة جميلة" لكيفانج سيسزار، و"حب،
تعويذات وكل شىء" لأوميت أونول، و"جاهل" لليلى ألماز،
و"عمر ونحن" لمارينا أر قورباخ ومحمد بهادير أر،
و"السهب" لعلي أوزل، وأخيرا " شجرة الجوز" لفيصل
سويسل. أما المسابقة الوطنية للأفلام الوثائقية، فتضم
10 أفلام، أُختيرت من بين 73 فيلماً، وتتنافس على
جائزة أفضل فيلم وجائزة لجنة التحكيم الخاصة. فيما تضم
مسابقة الأفلام القصيرة الوطنية 15 فيلماً قصيراً. وفي
بادرة غير مسبوقة تُحسب الى القيادة الجديدة، أعلن
المهرجان لأول مرة عن جائزة ستُقدم لأفضل مخرجة
سينمائية تركية، وتحمل أسم جاهدة سونكو التي تعتبر
أحدى رائدات السينما التركية، وأول مخرجة في تاريخها.
على صعيد المسابقة الدولية التي تضم 10 أفلام،
والمتنافسة على جائزة "البرتقالة الذهبية" لأفضل فيلم
ومخرج وممثل وممثلة، فستكون رهن تداولات وقرارات لجنة
تحكيم يرأسها صاحب الكوميديا السياسية المرموقة "وداعا
لينين" (2003) المؤلف والمخرج الألماني وولفغانغ بيكر،
ومعه فريق مكون من الكاتب والمخرج الأيسلندي رونار
رينارسون والممثلة الهولندية جوهانا تيرستيجي والمنتج
البولندي إيوا بوشيتشنكا، وأخيرا مدير مهرجان بوسان
السينمائي في كوريا الجنوبية جاي جون. على صعيد
الأشرطة المتنافسة، ضَمَن التونسي مهدي برصاوي
وباكورته "بيك نعيش" (96 د، عنوانها العالمي هو
"الإبن") مكاناً بعد مشاركته في خانة "آفاق" في مهرجان
فينيسيا السينمائي الـ76، والتي حصل فيها بطل الفيلم
سامي بو عجلة على جائزة أفضل ممثل. حكاية كفاح عائلة
لإنقاذ إبنها البالغ من العمر 10 سنوات، والمصاب بجروح
خطيرة في تبادل إطلاق نار إثناء هجوم مسلح. خلال
معالجة الصبي، تواجه الأسرة سراً دفيناً ومؤلماً، تؤدي
تداعياته الى الكشف عن معضلات أخلاقية معقدة. أما صاحب
"حجر الصبر" الأفغاني الفرنسي عتيق رحيمي، فيقتبس
رواية الراوندية سكولاستيك موكاسونجا "نوتردام النيل"
(2012)، حول "يوميات مدرسة داخلية كاثوليكية للفتيات
الراونديات، تحمل الأسم ذاته، ليصبحن النُّخبة
النسويّة الجديدة في وطنهن. مراهقات ينتمين الى عائلات
ثرية أو أُسر ديبلوماسيين رفيعي الشأن أوعسكريين من
ذوي النفوذ، يعشن تكافلاً محصَّناً بالإيمان وتزمَّت
الإدارة والتقاليد الأفريقية. بيد إن ما يحاك خارج
أسوار "الليسيه"، المشادّة على إرتفاع ألفي متر،
والمطلّة على منبع مفترض للنهر الخالد، هو إعلان سياسي
لخصومات عميقة، ستغيَّر مصير الصبيَّات الحالمات
بمستقبل واعد، مثلما ستدفع بالجميع الى أتون حرب
عرقيّة دمويّة". في نصّه الجديد "قلعة الأحلام" (86
د)، يسرد مخرج "تحت ضوء القمر" (2001) و"مكعب من
السكر" (2011) المؤلف والمخرج الإيراني رضا ميركريمي
قصة مأساوية لعائلة. أب فاشل، يجد نفسه مضطراً لرعاية
أطفاله بعد غياب سنوات طويلة، ليكتشفوا خيبتهم الكبيرة
في رجل ظلوا يحلمون بعودته ذات يوم. كرمت لجنة التحكيم
الدولية في مهرجان شنغهاي السينمائي الأخير برئاسة
المعلم التركي نوري بيجلي جيلان، شريط ميركريمي
بجوائز أفضل فيلم ومخرج وممثل.
تحضر العائلة أيضا في فيلم المخرج النرويجي داغ يوهان
هاوغرود "أحذروا الأطفال" (157 د)، لكن هذه المرة حول
تداعيات حادث مأساوي تتسبب فيه الصبية ليكيكي (13
عاماً)، وهي إبنة عضو بارز في حزب العمل اليساري ، في
إصابة جيمي، نجل سياسي يميني ذائع الصيت. وعلى
منوالهما، تصبح عائلة العامل السلوفاكي ميلان، في جديد
المخرج ماركو سكوب "ليَكُن هناك نُور" (93 د)، مهددة
بسطوة عنف جماعي يسعى الى خطف إبنه المراهق، عبر
مجموعة شباب مهووسين بالعسكراتية والحروب وعنفها
ودمويتها.
في حين يقتبس صاحب "هاري هنا لمساعدتكم" (2001)
الألماني دومينيك مول رواية الكاتب الفرنسي كولن نيل
"الحيوانات فقط" (116 د) حول امرأة غامضة تختفي في
عاصفة ثلجية، وغرباء خمسة يجدون أنفسهم محاصرين في
شبكة أحداث وتحولات غير متوقعة، ليسرد وقائع متداخلة
من منظور كل شخصية على حدة، وهم عالقون في منطقة جبلية
نائية. هذا النأي، يصبح خلفية بصرية خاطفة الجمال في
باكورة الممثل المتحول الى الإخراج الياباني جو
أوديغيري "يقولون إن لا شيء يبقى على حاله" (137 د)
حول مراكبي عجوز، مهنته تسهيل عبور الناس بين ضفتي
نهر. تنقلب حياته المتطامنة حين ينقذ صبية غريبة،
وجدها تطفو فوق الأمواج وهي غائبة عن الوعي. أما بقية
عناوين المسابقة الدولية فتأتي من كرواتيا عبر مشاركة
المخرجة دانا بوديسافيلفيتش وباكورتها "مذكرات ديانا
بي" (88 د) الحائزة على الجائزة الذهبية في مهرجان
بولا السينمائي 2019، وأصبحت بذلك أول مخرجة تفوز بها
منذ العام 1957. من هنغاريا، يشارك المخرج برناباس توث
بعمله الثاني "مَنْ يبقون" (88 د) حول القدرة على
التعاطي مع الفظاعات التي جرت في المعسكرات النازية
والناجين من محرقتها، عبر عيني فتاة هنغارية صغيرة بعد
الحرب العالمية الثانية. أخيرا، يأتي عمل الفنانة
البصرية البرازيلية ساندرا كوغوت "ثلاثة مواسم صيف"
(94 د) الذي تقارب فيه تحولات سياسية عاصفة، وتستعرض
تأثيراتها الإجتماعية الحاسمة عبر عيني مدبرة منزل
(تؤديها إيقونة السينما البرازيلية ريجينا كاسي) على
أفرادعائلة ثرية ويومياتها وسلوكياتها. |