تجاسر الهنغاري الشاب لازلو نيمش في باكورته "إبن
شاوول"
(2015) على إختراق
العقيدة الإيديولوجية والضميرية للهولوكوست بشجاعة
نادرة وإسلوبية إنقلابيّة غير مسبوقة. بدلاً من مسايرة
دعاية متحزّبة تقليدية، إحتكم الى ضّمير السينما،
ليحكي عن لَّوعة أب يهودي معتقل في محرقة النازي،
وسعيه الى إيجاد رجل دين (حاخام) يُصلي على جثة إبنه
لتقابل روحه ربّها، وهي طاهرة. تلوب كاميرة نيمش مع
رجل مكلوم وشبه أخرس من دون تفخيمات لمكابداته. فهو
وأمثاله في جبَّ نار، ولن يفلتهم إيمانهم من حتف قاطع.
لكن ما هو فاجع حقاً، إن المكان ومحيطه وشخوصه وألوانه
وكَرْبه وجحيمه تصبح على يد المخرج الموهوب كتلة
متوهجّة من إلهام صوريّ ودرامي خارق التأثير، تحتفي
بقدرات كائن عادي ومهزوم، يكون أكبر من ميتته. صحيح،
إن هذه الأخيرة هي قدر لا مناص منه، بيد إن السينما
كقوّة أخلاقية، تستطيع دفع البلاء الى حين أن يُصفي
بطلها حسابه. هكذا، يتحايل هيو غلاس بطل "المُنبعِث"
(2016) للمكسيكيّ أليخاندرو غ. إناريتو على موته
الرمزي "ليقوم من قبره كنبيّ برّي، مدفوعاً بعزمٍ لا
يهون كي يقتصّ ممَنْ غدروا بإبنه". وهو التحايل ذاته
الذي يشدَّ من تصميم طيار شاب بريطاني، أُسقطت طائرته
خلال معارك الحرب العالمية الثانية، مُساجلاً القدر
بشأن حقيقة إن الحب لا يمكن أن يُكسَر بالهفوات
وجورها، في فيلم "قضية حياة أو موت" (1946) للثنائي
مايكل باول وإميريك برسبيرغر.
إن إشتغال نيمش وفرادته تفجَّرا ضمن وعي جديد وتصحيحي
حول جريمة تعرضت لمزايدات وغُلُوّ وغش. هذه البصيرة
وشجاعتها قادت زميله كانتيمر بالاغوف، المولود في
مدينة نالتشيك عاصمة جمهورية قبردينو – بلقاريا في
القفقاس الروسي عام 1991، في شريطه الثاني "بينبول"
(137 د)، الحائز على جائزة الإخراج في خانة "نظرة ما"،
وجائزة الفيديرالية الدولية لنقاد السينما(فبريسي)، في
الدورة الـ72 (14 ـ 25 أيار/ مايو 2019) لمهرجان كانّ
السينمائي الدولي، الى أن يقلب سؤال النصر الكبير الذي
دحر حصار مدينة لينينغراد(سانت بطرسبرغ)، وبطولات
الجيش السوفياتي آنذاك، الى سعي شخصيّ وإبداعي يبحث عن
سيرورات أخرى، تمثَّلت في جسارات نُسْوَة مجيدات، لم
تلتفت لها أو أغفلتها، سياسات الإشادات الرسمية
المزمنة. روسيات صغن من بقائهن على قيَّد الحياة، وتحت
عذابات أحد أسوأ الحصارات العسكرية في الزمن البشري
الملعون، ملحمة إنسانية معقَّدة بتواريخها، جارحة
بحكاياتها، مغمومة بخساراتها، مدهشة بهداياتها، صادمة
بوحشيتها، مستعصية على سُلوَّانها. ما فعله بالاغوف
بفطنة (على خطى نيمش وقراره) هو إقصاء الحرب ووقائعها
وفظاعاتها عن واجهة شّريطه. فهي سبب درامي، إفترض
الفيلم مرّورها قبل أول لقطة فيه، أي إننا لن نراها
مطلقاً.
المدينة مدمَّرة بعد النازي وهزيمته. لقطات مُخْتَزَلة
لمحيط خارجي جليدي. بشر يسيرون بوجل، لكن عزمهم يحثّهم
على الوصول الى وجهاتهم بأي ثمن. تجلّى هذا الإصرار في
مشهد هائل بتفاصيله، ولن يُنسى، لنافذة صغيرة من عربة
ترام مكتظّة بركابها. تسير الحياة، تنشط، تتراكم. ضجّة
يوم خريفي عادي تعود، وتطغي على ذكرى القصف والقنابل.
نتعرف على الشابة إيا(إداء قوي من فيكتوريا
ميروشينشنكو)، وهي شقراء طويلة القامة. أكسبها نحولها
لقب "بينبول" (المديدة النحيفة) بين زميلاتها ورفاقها.
تعمل ممرضة في مستشفى خاص بالمحاربين القدامى. حين
نلتقي بها في المشهد الإفتتاحي، برفقة الطفل باشكا (3
سنوات)، المتكفَّلة بالوصاية عليه في غياب والدته،
تخطفنا حيويتها وألقها وقوّة شخصيتها وملائكيتها. كائن
حقيقي ظفر بحريته في حرب ضروس، لإنه آمن بجماعية
المقاومة وبسالاتها. بيد إن هناك "إختراقاً" ربّانياً
لآدميتها وتوازنها، يحيلها الى روح معذَّبة، ونّذارة
لنوائب تكتسحها وتنتهكها. يتعرَّض هذا المخلوق ذو
العفَّة الى نوبات حادة، كرّد فعل لإضطراب ما بعد
الصدمة، تدفع بجسدها ووعيها الى التجمّد والشلل
(فالج)، مع حالة تنفّس متعسّرة، ترغمها على إصدار صوت
نشاز لشخص يغصّ، ويجاهد من أجل الحصول على حصّته من
هواء، لن تنقذه عملياً بل تُنهك طاقته. هذه المشقة
تقودها، في واحد من أصعب المشاهد السينمائية، الى خنق
الصغير من دون قصد، خلال تعرضها لنوبة مفاجئة، وهما
يلعبان على الأرضية الخشبية في شقتهما الصغيرة.
من هنا، يتحوّل نصّ بالاغوف، الذي إستوحاه من كتاب
"ليس للحرب وجه إنثوي" (1985) لمواطنته الحائزة على
نوبل الآداب سفيتلانا أليكسيفيتش، الى عالم مجنون
ومغرق باللا إنصاف والقهر. إن الشابة إيا الآن هي لعنة
فردية. امرأة مرجومة بعقاب سماوي لجريمة إرتكبتها
سهواً. تُرى كيف يحاسب نظام مدينة خارجة للتو من
الجحيم جنايتها؟. سؤال لا يقع جوابه ضمن أحكام قانون
وضعي ومواده، بل على يد صديقة عمرها ماشا (فاسيليسا
بيرليغينا)، صاحبة الشعر الأحمر والعينين اليائستين
والإبتسامة العصابية. الأم الحقيقية لباشكا التي تركته
في عهدة رفيقتها كي تنخرط في قتال الألمان، والإنتقام
لمقتل زوجها. عندما تكتشف ماشا وفاة صغيرها، وعلمها
المسبَّق بإستحالة إنجابها مرّة أخرى، بسبب تداعيات
جروح شظايا، تطالب صديقتها إيا بإنجاب طفل بديل.
حُجّتها إنها مُدينة لها بـ"تعويض حياة"!. هذه ليست
عاقبة إثم شخصي بل مَغَبَّة حرب ما زالت تستلب الضمائر
والأعراف والوازع الأخلاقي.
يحشد بالاغوف، البالغ من العمر 28 سنة وتلميذ صاحب
"الفُلك الروسي" (2002) و"فاوست" (2011) المعلّم
ألكسندر سوكوروف، الفصول الأولى من فيلمه النسويّ
بإمتياز، بالحكاية وشخصياتها الكثيرة والمتراكبة
والصدامية. لن يتريَّث كي يستوعب مشاهده صواعقها،
وإنما يرميه وسط حبكتها، قبل أن يجبره ومعه مديرة
التصوير الموهوبة سينيا ساريدا على التمعَّن بما هو
مدهش وخلّاب في خلاصات بصرية باهرة أبدعاها. إذ يحتوي
الفيلم على لوحة ألوان غير معهودة في ما يخصّ أشرطة
تقارب الحروب وأجواء شناعاتها. إن فيوض اللونين الأصفر
(من نوع الـ"أوكر") والأخضر بتأججهما وحرارتهما، تُضفي
لمسات ملحمية ذات طعم توراتي، تغالي بقدرية المصائب
ومسرحية محيطها. عليه، تتحوّل إيا وماشا في كلّ مشهد
داخلي، وأعدادها كثيرة وغالبة، الى تقمّصات إيقونية
مستولة من صور الكنائس الأرثوذكسية، خصوصا إيقونة
"عذراء فلاديمير" المُنجزة في القرن الـ12 حسب
اللّيتورجية الكَنَسيَّة. كتب بالاغوف يقول: "عندما
شرعت في دراسة مذكرات الأشخاص الذين عاشوا خلال الفترة
تلك (1945)، توصَّلت الى حقيقة إن رغم المصاعب
والدمار، كانوا محاطين بألوان زاهية كل يوم. إنه صراع
بين ألوان بهيّة وطبيعة حياة ما بعد حرب". إذن، تتحرك
كلا الشخصيتين وسط محيط مضغوط وبركاني، لكن خلفياته
مفعمة بالإشراق والنضارة، وحتى نوبات إيا صوَّرتها
ساريدا ضمن إطار تعاطفيّ ذا بريق بصريّ وتشكيليّ حالم،
يجعل النوبات أقرب الى حالات جزع إنساني، لا يملك
مشاهدها سوى الغرق برأفته تجاه شابة مُكلفة بـ"بيع"
بكارتها لأيّ رجل ثمناً لدَيْن مجحف ومرير، شبيه بما
واجهته نظيرتها إيلانا بطلة باكورة بالاغوف "ضيّق"
(2017)، ذات الطلّة الذكورية والتي تصبح قضية خطفها
هجاء لأنانيات متعاظمة، ولا أبالية أفراد عائلة لن
يتردُّدوا في إجبارها على زيجة مرّتبة، كمقابل ماليّ
لإطلاق سراحها!.
وكما إجتمعت الشخصيات حول إيلانا، بين محرّضين
ومتشفّين وعاجزين، تتآلف جمهرة مقابلة حول إيا/ ماشا،
منهم الرجلان الوحيدان والملعونان بخراب سلوكهما
الإجتماعي والعاطفي. الأول طبيب المستشفى نيكولاي، وهو
رجل براغماتي لكنه معتدّ بنفسه الى حد القرف، والأخر
ساشا، وهو إبن أحد مسؤولي الحزب الشيوعي. شاب مقدام
وحيويّ لكنه أقرب الى البلاهة، تُخطط ماشا الى إيقاعه
في شباكها ودفعه للزواج منها، قبل أن تطردها والدته
المتسلّطة!. تتحرك هذه المجموعة داخل غرف المستشفى
وأروقتها من دون الإلتفات الى ما يتوجَّب على البطلة
أن تُضحي به: بكارتها وكرامتها وتطامنها. ترى مَنْ
يتحمّل مسؤوليّة الإمساك بنوائب سائرة بعناد نحو
غيّها؟ أهو القانون أم الموت؟ أهو الغفران أم إستبداد
النفوس واللا إنصاف؟. هذه أسئلة تصبّ بحرقة في ضرر
داخلي يعصف بالجميع، مثلما تمتحن توازناتهم المحفوفة
بالخسارات بعد حرب مجنونة، والمُخترقة باليأس ضمن حياة
شديدة التقشف والفقر. يُسيطر الصراع بين التطامن
المعدوم والمستقبل الغامض، على الفصل الأخير لهذا
الشريط المُتْرَف بأناقته الباهرة، التي تُحسب للمصمم
الموهوب سيرغه إيفانوف، قائداً الشخصيات نحو جحيم
مريع، عليها أن تدفع فيه إستحقاقات مواجهات مستترة،
وتحسم نصراً مخجلاً قائماً على دّية مؤجلة، يقود الى
عفن بطيء لكن موته محتوم.
هذا الحتم الذي قاد بطل شّريط لازلو نيمش "إبن شاوول"
الى الركض بين جزعه، لن يتجلَّى في معارك أو مشهديات
دّم أو إعدام أو غيرها، بل يلوح على محيّاه العصابي
والصادم. لذا، يصبح وجه الممثل رورينغ غيزه وسماً
رؤيوياً، يعكس أبوكاليبتية رجيمة، تصنعها إرادات قتلة،
وقرارات مجرمي حرب. بالمقابل، يطغي التعبير الخالص
ذاته على محيّا الشابة إيا وطلّتها لكن من باب توابع
وَعْد أشدّ هولاً، تتجسَّد فظاظته على وجه الممثلة
فيكتوريا ميروشينشنكو وطول قامتها وضمور جثتها، ويصنع
منها، إضافة الى الإغتصاب الجنسي الذي تتعرض لها،
عاراً متحرّكاً وذلاًّ مفترساً يصيبان مشاهدهما
بالخزيّ. لعل أبلغ علامات هذا الأخير ما صاغه المخرج
بولاغوف في مشهد صاعق، حيث تستمع الممرضة الشابة الى
تضرعات جندي مصاب بالشلل من الرقبة إلى أسفل جسده،
يطلب فيها إزهاق روحه شفقة وخلاصاً من عطبه. فيما
تناصر زوجته موته الرحيم بصلابة وحدّة غير معهودتين.
المفارقة إن الشابة إيا التي يتوجب عليها زرع حياة
جديدة، تجد نفسها ـ بسـبب عملها وواجبها ـ مُلزمة
بالشهادة على رجل يرغب في"إعدام" نفسه على يدها، ما
يُشكّل إنتهاكاً درامياً إضافياً لطبيعتها كوجه إنثويّ
"جسور" للحرب (كما هو عنوان كتاب أليكسيفيتش).