الأميركي كوينتن تارانتينو دائرة معارف سينمائية
(إنسكلوبيديا) بشريّة. رمز لـ"بوب" سينمائي لا يخشى
إستعادات أو إستعارات من حقب هوليوودية مجيدة. هو
إبنها الحداثي وحفيد روادها. في متجر كبير في حي
"مانهاتن بيتش" بكاليفورنيا، جالس الفتى تارانتينو
(ولد عام 1963) مئات من أشرطة الفيديو. كان موظفاً
يؤجرها لزبائن عابرين. يحثَّهم على مشاهدة ما كان
يسحره، وما كان يجتهد في مشاهدته بتأن. يدقّق في
فصولها. يبحث عن جذورها بدقّة. يحفظ حواراتها وأسماء
نجومها عن ظهر قلب. يرسخ أشهر فقراتها في ذاكرته
وكيانه. كان الصبي الحماسي يعيد صياغة وعي فيلمي،
وينمي قدرات. يوظبهما حسب جدولة خاصة، تُمفصل
"الميزانسين" حسب رؤية تقوم على مونتاج شخصي وتخيَّلي،
يقوده لاحقا كي يكون أحدى علامات جيل "خرق القواعد".
أبقى تارانتينو تراكماته ضمن عالم ديناميكي وثوروي
النزعة، تتداخل فيه كل أصناف "الجنر" (النوع)
السينمائية، من دون أن يخشى تضارب أذواقها وأمزجتها،
المستدعية لسرديات متنوّعة، تتجاور سياقاتها بفعالية
درامية مدهشة، وخصوصية فنية متجدّدة، ومتعة لا تضاهى.
إنه في هذا الأمر، لِصّ سينمائي يرتدي قفاز وقاحة
الإعتراف، مع تصريحه الشهير عام 1994: "أنا أسرق من كل
فيلم ظهر في أي وقت. الفنانون العظماء يسرقون. إنهم لا
يقدمون ثناءات تقدير أوتحيات سينمائية (هوماج)". عليه،
يجد المشاهد الفطن نفسه محاصراً بمئات التوليدات
المبتكرة والمحاكات المباشرة للحظات شهيرة شعّت في
أعمال مخرجين جهابذة سابقين. تارانتينو، الذي يصّر على
"حين يسألني الناس إذا ما درست في معهد للسينما،
أخبرهم: "لا، ذهبت إلى السينما مباشرة""، هو صانع
فطريّ لـ"الفيلم الوسيط" الذي يصبح سلعة هجينة بين أصل
تاه وسط خزين سينمائي متوالد على الدوام، وبين
فيلموغرافيا ذاتية واسعة التأثير، تراكمت على مدى تسعة
أفلام لحد الآن، مع جديده "كان ما كان ...في هوليوود"
(2019).
باكورته "كلاب المستودع" (1992)، على سبيل المثال، هي
تحوير هوليوودي لشريط "مدينة تحترق" (1987) للمخرج
رينغو لام (من هونغ كونغ). فيما يتواجد أجداد "بالب
فيكشن" في قوائم عناوين الموجة الجديدة الفرنسية،
خصوصا تجريبيات جان لوك غودار. أما "جاكي براون"
(1997) فهو حفيد سينمائي سافر لنوع الـ"بلاكسبولتيشن"
الأفروأميركي الذي شاع في هوليوود السبعينات، المستند
الى رواية ألمور لِنيد. نُّطفة "إقتل بيل" (بجزأيه،
2003 ـ 2004) مسروقة علناً من نصوص إستوديوهات
"الأخوان شو" الصينية (شنغهاي) المتخصصة بنوعية
الـ"كونغ فو" القتالية منذ العام 1958. حصار شخصيات
شريط "المتكارهون الثمانية" (2015) مستول بوقاحة من
عوالم المخرج الذائع الصيّت جون كاربنتير في "الشيء"
(1992). بينما تستعير الروح الأوبرالية في "جانكو
طليقاً" من نظيرتها لدى المعلّم الإيطالي سيرجيو ليوني
من دون وجل. هذه وغيرها، جعلت من سينما تارانتينو ليست
فاسدة النّسب وحسب، بل إنها الوحيدة التي إمتلكت أباء،
لا تضارعها اي سينما أخرى في كثرة أسمائهم. إذن، هل
كلَّ المجد الذي كونه تارانتينو أصيل الصنعة؟ الجواب
ثابت: تارانتينو يتقن صناعة أفلامه، يبتكرها، يخترعها
لكنه لن يخلقها. هو ليس خلّاقاً، بمعنى "توليده"
منجزات فريدة وخالصة الأصول. أنه عجّان ماهر وعاقد
العزوم وسليط.
الى ذلك، ركز تارانتينو إهتماماته على حشد مستقبله
السينمائي بوفرة موسيقية متضاربة الأنماط. هو إنتماء
سمعيّ الى حقبة سبعينات فوّارة بالتبدَّلات، شاعت فيها
إنقلابات حاسمة قادتها فرق ومغنيين (غالبيتها من
بريطانيا آنذاك) وموجَّهة نحو ذائقة ما زالت أمينة
لصرعات عارمة، تنتظر بفارغ الصبر طاقات تفجيرية
وتجديدية، تشكلّت لاحقا عبر تزاوجات موسيقية باهرة بين
الـ"بوب/ متيل" و"بلوز/ روك" و"الجاز الألكتروني".
مشاهدو تارانتينو تسلبهم "ألبوميته" الصوتية. خياراته
أشبه بمفاجآت متوالية، منثورة في كل لحظة وعلى طول
نصّه الضافي. يسمعون شذرات من جوني كاش أو إينيو
مورّيكوني أو ديفيد بوي أوهيدكي كاجي أو نانسي سيناترا
أو دِك ديل ودِل تونز أو فريق "تورنيدوز" أو تشك بيري.
يغنون مع فقرات أيرج أوفركيل في فيلم "بالب فيكشن"،
ومع أرماندو تروفايولي أو سانتا أزميرالدا أو ذا لونلي
شبيرد في "إقتل بيل". يأخذهم الطرب مع موسيقى جورج
بيكر أوهاري نيلسن في "كلاب المستودع". الأغنية
وموسيقاها لدى تارانتينو كيانان إنفعاليّان حارقان، لن
يستلذّهما إلا مَنْ يمتلك ذاكرته جيداً، من دونها يصبح
ما يسمعه ليس أبعد من تكميلات صوتية لا معان لها. كتب
ذات مرة: "أحد الأشياء التي أقوم بها عندما أشرع في
إنجاز فيلم. عند كتابته أو الإمساك بفكرته. إنني أعود
إلى مجموعة التسجيلات الخاصة بي، وأسمع الأغاني، كي
أعثرعلى شخصية الفيلم وروحه. ثم تأتي الـ"بوم"
(الضربة). في نهاية المطاف، سأقتنص أغنية واحدة أو
إثنتين أو ثلاث أغنيات. واحدة منها، على وجه الخصوص،
تجعلني أحسم أمري "أوه، ستكون هذه أغنية رائعة لمشهد
التترات الإفتتاحي".
تارانتينو أستاذ بارع في صوغ تهكم سينمائي مغرق بلؤمه.
تستهدف سهامه ثقافة شعبية متحوّلة وعصابية. مخرج ذو
ولع لا حدود له في تجميل القساوات والعنف والدَّم. ذلك
لأنه يعتبر: "العنف هو أكثر الأشياء متعة للمشاهدة".
هذه ليس عدّة تجارية بل رؤية قاسية تتفرّس في أسس
مجتمع عصاباتيّ قام على غدر وفوز. لا يفكَّك فيلم
تارانتينو عصائب الشراسة بل يرتبها كتقويمات درامية،
تتنقل بين أزمنة مختلفة. تستعرض شخصيات متناقضة
(يعتبرها من أولوياته). تُسّمِع نكات. تتبنى
إيديولوجيات (عقيدة الرئيس ريتشارد نيكسون حاضرة على
الدوام). تغلّ في تعيَّير مظاهر إجتماعية شديدة
التباهي بأميركيتها، حيث مثيلاتها لم (ولن) تُخلق
أبداً.
اللافت إن "المسرحة السينمائية" لدى صاحب سيناريو
"رومانس حقيقي" (1993) تقوم على متانة حكيه وتمكّن
إسلوبيته اللتين تجعلان أعماله متفوّقة ومغايرة على ما
لدى الأخرين. يقول:"إحدى نقاط قوّتي هي سردي لقصصي".
إن نصوصه مشهودة بإختلاط أوّلها بإخرها في فتنة تثير
الغيرة والحسد، لن تتمكن كثرة شخصيات، أوتتعدد مواقع
تصوير، أوتعقَّد مرجعيات من إفسادها. ما هو موكد إن
سينماه قائمة ببساطة على ثنائية شخصيتين، تدور حولهما
أفلاك بشر أخرين ومؤسسات وعصابات ومنايا وقصاص ورصاص
وسيوف و...سيول دّم. بطلان محاصران بسوء نوايا (كما
بين الميجر ماركيس وارن والمجرمة ديزي دومارج في
"المتكارهون الثمانية")، أو حظوظ عاثرة (كما بين فنسنت
فيغا وجولز وينفيلد في "بالب فيكشن")، أو أفخاخ
تُديرها عقول آثمة (كما بين جاكي براون وماكس تشيري في
الفيلم الذي يحمل أسم الأولى)، أو عطش إنتقام (كما بين
العروس وبيل في الشريط الذي يحمل أسم الأخير)، أو
دوافع "ملَّونة" الأعراق بين نُصرة عائلية وإنتفاع
سُلعي خسيس (كما بين جانكو وصائد الجثث الدكتور كينغ
شولتز في النصّ الذي يحمل أسم الأول). غالبية شخصيات
تارانتينو ليست يقينيّة بالمعنى الحرفي. هي مزيج جذاب
من كائنات سينمائية تتفجر بسحر طلّاتها، وطلاقة
ألسنتها، وحذاقة حيلها، والأغرب إنها جميعا بلا غرور!.
يعقلن صاحب "من الغسق حتى الفجر" (1996) خلقه لها على
النحو التالي: "في الحياة الحقيقية، لا يوجد أُناس
أشرار. كل شخص لديه وجهة نظره الخاصة". من هنا، نفهم
لماذا كائنات تارانتينو بلا طقوس متكاملة. إنها تولد
على الشاشة كـ"وجهة نظر"، وتموت فوقها. أما في ذاكرة
المشاهد فهي إشراق سينمائي، يسطع بسرعة ويبور أسرع.
بيد إن ما فعله تارانتينو في جديده "كان ما كان ...في
هوليوود" المبالغ برجوليته، المعروض ضمن المسابقة
الرسمية للدورة الـ72 (14 – 25 أيار/ مايو 2019)
لمهرجان كانّ السينمائي الدولي، مثل إنقلاباً كبيراً
في منهجيته. صحيح إنه بقي أميناً لسردية مختلطة
الأزمنة والمعازف حول شخصيتين إثنتين، إلا أنه أختار
هذه المرّة موضوعاً حقيقياً، آنياً، صريح النَّسب. إنه
حول هوليوود المتغيّرة، المخترقة بتقنيات جديدة ومال
جديد وأسواق جديدة وذائقات جديدة. هذه شهادة مفاجئة لا
علاقة لها بـ "الجنر" وتشابكاته التي يهواها. إنه فيلم
خالص، مشاد فوق أرض سينمائية متحركة. يقارب ثورة تُلغي
عالماً بإكمله. هزّة لا نراها بل نهجسها عبر كينونة
الممثل الوسيم رِك دالتون (ليوناردو دي كابريو)،
وإنهيار عالم نجوميته السينمائية، وإنحطاط حظوظه، مع
إستسلامه لجبروت التمثيليات التلفزيونية وحكاياتها
المعقودة حول الغرب الأميركي "الويسترن"، ومستعمريه من
رعاة البقر. هذه موضة إعلامية كانت العائلات خلال
نهايات حقبة الستينات المجنونة، حتى العام 1969،
مهووسة حد المرض بعوالمها وشراساتها ووطنياتها. الشاب
رِك ليس وحيداً. معه بديله (دوبليره) كلِف بوث (براد
بِت) الذي يمكن إعتباره مُكمِله الوجداني. من دونه
يصبح وجود الأول ناقصاً وبلا مغزى. هما طرفا خيط اللا
كمال. يرضخ رِك الى قرار الإستوديو في لعب دور رجل
شِرّير، فيما يجول كلِف شوارع المدينة كـ"كابوي" داخل
سيارة مرفَّهة، فقط لإن رئيسه فقد إجازة السياقة
خاصته!. يتقابض الجندي السابق ذو الغُرَّة الشقراء،
إثناء مشاركته في دور عابر ضمن طاقم مسلسل "الدبور
الأخضر" (1966 ـ1967)، مع نجم الكاراتية الصيني الشهير
بروس لي إثناء تجسيده لدور "كاتو"، في رهان تحد مغرق
بالكاريكاتيرية. يرصد فتيات، ولن يتواني في الدخول مع
إحداهن الى أرض حرام، كانت موقع أول أدوار مشواره
الفني، قبل أن تحتلها عصابة (عائلة) السفاح الشهير
تشارلز مانسون، مستفيدة من عجز مالك المزعة جورج سبان
(الممثل المخضرم بروس ديرن). يصبح كلِف خلال مواجهته
السريعة وغير المكتملة مع هيبيي طائفة "بابل
الأميركية"، في واحد من المشاهد الأثيرة لشريط
تارانتينو، الى إستعارة منمَّقة لشخصية الرجل الميت
القلب فرانك (هنري فوندا) بطل كلاسيكية سيرجيو ليوني
"كان ما كان في الغرب" (1968). هنا، يصبح هذا الصنو
بطلاً حقيقياً على نقيض رِك المرغم على إداء ما هو غير
مألوف له، وما لا يستكفي تطيّر شهرته المزدراة، ذلك إن
الصناعة اليوم غير معنية بخياراته ورونقها. رِك هو
مؤدي/ منفي في مدينة يحتلها جيش من طليعيين وافدين،
يمثلهم هنا صاحب "طفل روزماري" (1968) المخرج البولندي
رومان بولانسكي وزوجته آنذاك شارون تيت (الممثلة
الأسترالية مارغو روبي).
يرى رِك موهبته تتلاشى، تُقمع، وتدعو الى الشفقة، حين
يقرر منتجو المسلسل إلغاءه. قبل أن يُعلن بحسرة أمام
صنوه إنه "أصبح تاريخاً". هذا الموت المعنوي ينقل عمل
تارانتينو صوب محاججات موجعة بشأن مآلات صناعة
متضخّمة، لكنها تواجه إستحقاقات عصيبة: أما موت شنيع
أو رضوخ الى تحوّلات مضمونة. هذه الأخيرة، يقودها
رأسمال مغامر، يمثله هنا عميل الصفقات مارتن شوارتز
(آل باتشينو) الذي يقترح على رِك العمل مع الإيطاليين،
وبالذات مع المخرج سيرجيو كربوتشي، أحد قامات
الـ"سباغيتي ويسترن". فالمال الأوروبي حبل نجاة.
وتواجد فنانيه في لوس أنجيليس يعني إن أضواء "عمورية
الأميركية" لن تخبو مطلقاً. يمر الثنائي رِك/ كلِف
ويتقاطعان مع عشرات الشخصيات، من بينها الممثل بِرت
رينولدرز وزميله النجم ستيف ماكوين. هما صورتان بهيتان
لكيانين، أحدهما شخص مدمن خمر وسكير، والأخر وحيد يعيش
سلواه مع كلبه، ومتهم بقتل زوجته!. يعيشان ضمن قاطني
جادة تُدعى "سيَّلو درايف" الثرية والتي شهدت ليلة
التاسع من آب/ أغسطس 1969، جريمة قتل الممثلة الشابة
شارون تيت، وهي حامل بجنينها، داخل دارتها غير البعيدة
عن قصر جارها رِك، الذي سبق أن جسد دور بطل أميركي
يحرق، بلا هوادة، النازيين بجحيم نيرانه النفاثة!.
جريمة تيت، هي فزع ضميريّ أنتجته فروقات جشع وحسد
ورغبات في التدمير وسوء منشأ. لن نرى فاجعتها
بالضرورة، لأن وجهة "كان ما كان ...في هوليوود" (159
د) ذاهبة بفطنة نحو تفكيك الصُّدفة وأقدارها،
بإعتبارها وحدة إنتاجية داخل عوالم "مصنع أحلام" مبني
على الحظوظ وصفقاتها. عليه، تصبح المقاطع الختامية
والإستفزازية من الشريط السوداوي بكوميدياه، كتلة
درامية إستعراضية مميزة بسطوع ضياء مشهدياتها، التي
نفذها برونق عالي الجودة مدير التصوير روبرت
ريتشاردسون، لمصادفات تضج بحيوية أميركية النزعة،
وتجمع حول كلمة "النهاية" رهطاً من كائنات هيستيرية،
تبحث عن تصفية حسابات تفلت من عقالها. مرّة، نرى كلِف
مدافعاً عن نفسه ضد زمرة قتلة يقتحمون منزله. في أخرى،
نرى لقاء رِك بجارته تيت وضيوفها، مصوّراً بواسطة
"لقطة قدرية" ذات إيحاء نادر. ثالثة، تستعرض إقتراب
رِك من حتفه على يد المجرم مانسون تحت ليل هامد
ومحتقن. إن تعدد النهايات في "كان ما..." هي إسلوبية
مستعادة من تارانتينو، سبق أن حققها بإبتكارية مشهودة،
في "بالب فيكشن"، ونال عنها السعفة الذهب بجدارة في
"كانّ" عام 1994.
عانى شّريط "كان ما..."، رغم فراداته الحكائية، من
عَثْرَة غير مفهومة في طبيعة حواراته وصياغاتها، التي
إفتقدت صنعة رجل لا يكفّ عن الكلام. غالبا ما يلقيه في
وجه سامعيه بفيوض عالية النبرات ولاهثه ومحببة. كلّ
النصوص الأخرى لتارانتينو حافظت على تمايز حواراتها
وطريقة إلقائها من قبل مؤديها، وهم ـ في الغالب ـ
ممثلون موهوبون، توكيداً لقناعة قالها سابقاً أن: "لا
تكتب ما تعتقد إن الناس يرغبون بقراءته بل إبحث عن
صوتك وأكتب عما يعتمر به قلبك". هذا تَنَاقَض بغرابة
مع تسطيح لغوي شاب محاورات رِك/ كلِف، والتي تصل في
بعض المقاطع الى حدود النّق، أو تزلّ إلسنتهم حد
المجاملات الفارغة. ولكي نكون منصفين، نذكر إن ما شعّ
في المشهد الأخاذ الجامع بين دي كابريو والممثلة
الطفلة، خلال إستراحتهما بين تصوير مشاهد مسلسل
تلفزيوني، حين يفتح رِك قلبه لها من دون مقدمات،
ويبَّثها كربه بشأن تراجع مهنيته وإداءاته وإستفحال
وحدته (رغم إقترانه بسيدة إيطالية!) وسقوط مجده، في
وقت تقرأ هي كتابها حول "ديزني"!، كان التقابل الدرامي
الوحيد المليء بعواطف نمت بصدق عبر حوار مباشر ومكثف
وعفويّ. ترّد على إستفساره بشأن سّنها، وتقول إنها في
الثامنة، يتمتم تحت دهشته: "ستفهمين ما أنا فيه بعد 15
عاماً". ترفع الصغيرة رأسها قائلة بثقّة ناقد ضليع،
وتُعلن: " إن ما قمت به هو أفضل إداء شاهدته في
حياتي!!". يُخرس رِك وكأنه أمام قناعة جارحة: هل أدناس
طوائف "بابل الأميركية" ستعفي هذه السلالات الجديدة من
خرابها ولعناته، كي تتمكن من تأمين حصانة إبداعها ضد
ذكوريات فاقعة؟. الثيمة المعقَّدة لفيلم "كان ما..."،
وكأن بها تستهدف ما هو حاسم اليوم: هوليوود تغيَّرت
منذ طوفان حركة "مي تو" ونهضتها العارمة، ومثلها
السباق الشرس الذي قاد منصّات "نتفليكس" و"أمازون"
وشقيقاتها نحو "إستعمارات" كونيّة مقنَّنة. عليه، هل
آن الأوان لتارانتينو أن "يُفجر" مشروعه السينمائي
وإيديولوجيته ومرجعياته؟. لننتظر حتى إنجازه شريطه
العاشر المقبل...والأخير في فيلموغرافيته!.