في المغرب، تنشط "جمعية الإنصاف للتنمية الإجتماعية
والتربوية" التي أطلقتها السيدة مريم عثماني عام 1999،
من أجل مناصرة أمهات عازبات. نسوة خذلتهن ظلامات
عائلية، ووعود خَؤُونة، وإجحافات ذكورية. شعار هذه
الجمعية، ذات الضمير الإنساني والمسعى الجمعي الذي لا
يضاهى بشجاعته ومروءاته، يرفع آية قرانية تقول: "و ما
تفعلوا من خير فإن الله به عليم" (سورة البقرة، آية
215)، معلناً إن جهودها أوسع من إحسان عابر، وإن
إستراتيجياتها منصَّبة على: نجدتهن وكسر عزلتهن. جرَّد
مصائبهن وأعادة تأهيلهن مجتمعياً وتربوياً. البحث عن
نصير يضمن حقوقهن الشخصية غير القابلة للتصرف أو
التجزئة. ضمان عدالة إجتماعية تُحقق لهن وأطفالهن
تمكيناً أخلاقياً للإندماج ورفض التمييز، ووقف العنف
تجاههن. تكشف تقارير هذه الجمعية، نشرتها على موقعها
الألكتروني الرسمي، أرقاماً صادمة، وحكايات قاسية،
ومصائر تتعرض للمهانات والإقصاءات المقنَّنة، بذرائع
خزيّ وعورات وفواحش ورذائل وغيرها. هناك 50 الف طفل
ولدوا لعلاقات خارج زواج شرعيّ. تخلت أمهاتهم عن 300
منهم، سواء أحياء أو أمواتاً، في الدار البيضاء وحدها.
هناك ما بين 60 الف الى 80 الف من فتيات أقل من عمر
الـ15. لم يدخل الى مدرسة ما نسبته 30 في المائة منهن،
مقابل ما نسبته 45 في المائة ممَنْ أُرغمن على تركن
دراساتهن. تقول الجمعية إن على مدى الـ19 سنة الأخيرة،
تعاطى ناشطوها مع أكثر من عشرة الآف ملف. وقالت إحدى
مسؤولاتها، في تصريح صحافي سابق ("هسبيريس"، 22 سبتمبر
2017)، إنهم إستقبلوا في عام 2016 وحده 4262 حالة
تتعلق بأمّ عازبة وطفلها.
تُنذر هذه الأعداد بخلل وقصور في التعاطي مع ظاهرة
تتفشَّى بسرعة، نتيجة ظروف إقتصادية وذاتية، لا تأخذ
بحسبانها عواقب وشدائد لاحقة، كما إنها تُحاصر ضحاياها
بتمييز قانوني وعنف شوارعي. لا رّيب إن القضية تتوافر
في مجتمعات عربية أخرى، بيد إن قوّة مؤسسات المجتمع
المدني في المغرب، و"عراكها" المُعلن من أجل حمايات
قانونية وإعترافات حكومية، تُحرَّضان على إشادات أهل
الضمائر ومناشداتهم. فمن دون "نضال" هذه الجمعية
ومثيلاتها، لا إنصاف لمَنْ حادوا عن الصواب. وإن تم
فلن يُزيل الظلم عنهم بشكل مطلق. إنها مواجهة يومية
ومعقدة وشرسة. سينمائياً، "تحرَّش" الفيلم المغربي
بقضية "أولاد شوارع" أكثر من تماساته مع "أمهات
عازبات" ومآسيهن. فلولا شريط محمد العبودي "نساء
سائبات" (2012) الذي وضع صبية بريئة، تعرضت للإغتصاب،
في مواجهة عُسر تهميشها شرعياً، لأصبح نصّ مواطنته
مريم بنمبارك "صوفيا" (2018) يتيماَ في إشاراته
للعلاقة الجنسية خارج المؤسسة الشرعية وتداعيات
أعرافها. لحسن الحظ، إستجمعت المخرجة والممثلة
والمؤلفة مريم التوزاني همّتها السينمائية، وأنجزت
عملاً رهيفاً في بنائه الدرامي المغلق، متوازناً من
دون خفة في مقاربته الى لعنة قدرية مزدوجة. الأساس في
"آدم"، باكورتها المعروضة ضمن تظاهرة "نظرة ما" في
الدورة الـ72 (14 ـ 25 أيار/ مايو 2019) لمهرجان كانّ
السينمائي الدولي، أم عزباء تقرع أبواب الغوث، لتحصد
بدلاً منه قلباً كبيراً ينبض بالرأفة، ومهجة شجاعة
تُراعي الـ"الحشومة" (العيب). لن يذكر نصّ التوزاني
شيئاً عن الأرقام أعلاه، فسهامه موجهة نحو صلافة
سينمائية، تترك حكمها لمشاهد فطن، تتطلب منه البحث بجد
عن جهات، على شاكلة جمعية "إنصاف"، معنّية بردّ
المطاعن عن فتيات منكوبات، تمثَّلهن شخصية سامية
(نسرين الراضي). الصبية الحامل خارج علاقة شرعيّة،
والهاربة من قصاص عائلي محتوم. أما الشخصية الأخرى
عبلة (لبنى أزبال)، فهي سيدة مكلومة بوفاة زوجها،
وتعيش مع إبنتها الصغيرة وردة(دعاء بلخودة). امرأتان
محاصرتان بظنون الجيرة. معاندتان لكروب إقتصادية.
باحثتان عن نجدات لن تجداها إلا بين جدران بيت فقير،
يقع في حارة شعبية أقرب الى معتقل غير معلن.
إن "فعل الخير" في عمل مخرجة "آية تذهب إلى الشاطيء"
(2015) لن يقتصر على باب يُفتح، بل يُبنى على أساس
إنساني، وكشراكة نسوية ثنائية ـ إئتلافيّة بين فتاة
غريبة وسيدة مغمومة. يتعاظم جذرها نحو خارج، لا نرى
منه سوى تفاصيل عابرة، نسمع أخبار بلاده وعباده عبر
مذياع صغير، فيما سلطاته وأزلامها غائبة من دون تبرير.
خارج هو عبارة عن زبائن يتسوَّقون حلويات عبلة
وملذاتها،. يصبح زحامهم عند نافذة بيتها، التي حولتها
منفذ بيع فطائرها الشعبية، عنواناً لطمأنينة تقول إن
لا فشل في عمل اليُمْن، مهما كان متواضعاً. الى ذلك،
تتحوَّل المساكنة بين الشخصيتين الى إنموذج لشهامة
فردية تقوم بها عبلة، قبل أن تتكّرس عِشْرَة عائلية،
تتكامل عناصرها عبرتغييرات حاسمة، تُصيب السيدة في
صميم عزائها الطويل، ويُفَّجر كبوتها الشخصية نحو
إنتصار متجدَّد للحياة. يتناسخ هذا الإنتصار الدرامي
لاحقاً مع نوايا الشابة سامية وإنقلاباتها بشأن وليدها
المقبل.
ما صنعته التوزاني حول بطلتيها مشاد برُمَّته حول
عزلتين وتداعياتها. تبدأ بحيّز مكاني قابض ومحدود، هو
بطل محوري في الشريط. من هنا، تُفهم محافظة مديرة
التصوير المميزة البولندية فيرجيني سوردي، التي أنجزت
تصوير شريطيّ نبيل عيوش "غزية" (2017) و"الزين اللي
فيك" (2015)، على مشهديات مفخمَّة وملّونة بإناقة
لافتة، مستعارة من التشكيليات الرومانطيقية الأوروبية،
خصوصا أعمال المعلّم الهولندي يوهانس فيرمير
(1632-1675)، وبريق تأطيراته للعائلة ونسائها وملابسها
وغرف معيشتها وأثاثها وأكسسواراتها. كل شيء لدى
التوزاني/ سوردي موضع نظر درامي، ليس من باب دلالات أو
إحالات، بل كخيار تصويب، يقود المشاهد الى رؤية
الأشياء حول المرأتين، ضمن تفاعل تدريجي وتحريضي.
عليه، تصبح الإيماءات فعلاً بصرياً شديد الحساسية
للتعبير عن عوالم صموتة ومحسورة ومشكوك في طويَّاتها،
يُجسدها رفض عبلة مساعدة الشابة الحامل، ذلك إن
الغريبة تحمل معها سرّها، ومثله توابع أخلاقية لا طاقة
لها فيها، أو على الأقل إنه (السرّ) سيُصيب طفلتها
بوصمة ظُلم عادات وإعتبارات. بيد إن "العليم" يدفعها
بيسر نحو "فعل للخير"، مع رؤيتها الشابة الحامل معتصمة
خلال ليل مريب عند عتبة دار، رفض أهله فتح باب
مؤازرتهم، فيسبق ضميرها مخاوفها، وتسمح بدخول "بنت
السبيل" الى "أمان عائلي"، يقودهما نحو ميثاق فطرة، قد
يكون عابراً لكنه أصيل الدوافع، ينشط في صرف جسارات
الأخرين ومصائبهم المستهدفة لأمومتهما ومأمنهما. تحذر
عبلة ضيفتها: "الناس يهدروا (يتكلمون)، ما خصنيش (لا
علاقة لي بـ) المشاكل".
من الإيماءات اللافتة، ما يفور تحت أفعال تهيئة العجين
بين الوالدتين. مشاهد مسهبة ذو فطنة سينمائية، تُستخدم
فيها أياديهما بمثابة علامة تشكيلية لمخاضات داخلية
تعصف بروحيهما، وتمهد لآصرة نسوية تُجمِّع عاطفتهما
وعزمهما، وتُجبرهما على هجران سكونهما ووُجُوههما، أي
بطلان إنكارهما لذاتيهما. حين يتحقق هذا، ينطلق الكلام
(والإبتسامات) بينهما. تتحوّل مشهديات التوزاني/ سوردي
عندئذ الى فيوض من ضياء إنساني باهر. نرى غرف مشعّة.
طفلة جذلة. زبائن يتكاثرون. ألوان تزهو. شارع يزدحم
بعابرين. صواني حلويات تفرغ من بضاعتها بسرعة وشغف. حب
رجل يتوهج تجاه عبلة. إن إنخراط سامية في عالم الأسرة
يقودها نحو حراك عملي، ومشاركة في إقتصادياتها، عبر
إستهداف هوس مشترين لحلوى شهيرة، تصبح عنوان ألفة
ثلاثية لغريزة بقاء وتحصّن. هذا الأخير، طالما قاد
عبلة نحو خشية مستعصية، تتطلب لاحقا تدخلاً حاسماَ من
الشابة الوافدة كي تخترق فظاظتها. لن تستخدما في
مناكفتهما المشتركة كلمات ملامة أو عنفاً، بل موسيقى
أغنية المطربة الجزائرية الراحلة وردة "بتونس بيك"
(1992). ترقص عبلة على إيقاعها بحركات أقرب الى تملَّص
من عذاب مزروع عميقاً في كيانها الضعيف. رقصة تسعى الى
فك أغلال جسد إستعمره الحزن طويلاً، وكأنها تستعيد
قدرتها على الإستمتاع بعودة المعنى الى دنياها، وتفجّر
لحظاتها الداخلية.
لا يقدم فيلم "آدم" (100 د) "تعريفات" تمهيدية
لشخصيتيه الرئيستين. إنهما "إحتمالان" يتواجدان في كل
بلدة وحارة وعائلة على هذه الأرض. وهما وجهان تقليديان
لعسف إجتماعي واسع النطاق، تُنادي جمعية "إنصاف"
للوقوف في وجهه ومحاربته، مثلما يوحي نصّ التوزاني
بضرورة رعاية وتقوية مساعي البر لدى الناس، ورفع
الضرّاء ودواعيها بينهم. إن الخطوة الصغيرة لعبلة، بعد
تردُّد طويل، وإستضافتها للغريبة، تتعاظم عناصرها
الدرامية في مشاهد ختامية عاصفة، مع أوان وضع سامية
لمولودها. إن المخاض هنا لا علاقة له بمصير شرف
وسمعته، أو صون أعراف ورسوخها، وإنما بحق "شراء
الحياة" لكائن، ليس من المفترض أن يحمل أوزار زلّاتنا
وخياناتنا وضعفنا. ترفض سامية الوليد كونه بلا نسب، أي
إنه "لِغَيّة"، لا أثر له، وهو ساقط في الإعتبار. تحجم
عنه، كونه بلا مصلحة شرعية للإستلحاق، وهي معضلة
قانونية وعُرفية جارحة، تداور شكوى الأبوة ونُّطفتها.
ما نراه هنا هو ورطة قوانين وضعية وحرائقها داخل بيت
هامشي. تصيب نيرانها الطفلة وردة في المقام الأول،
بإعتبارها "شرعية سينمائية" لذلك الوليد، وتجعلها
الأكثر قرباً لسامية، ومدافعة عاطفية لتواجدها في
الجغرافية الضيقة للعائلة. هذه تفاصيل، تلح التوزاني
على إنها "أفلمة" لوقائع مرّت بها وعائلتها، وهي صبية،
حين وقفت فتاة أمام باب دارتهم في طنجة هرباً، بعد
حملها وخذلان المعتدي الذي وعدها بالزواج. ما صنعته
صاحبة "عندما ينامون" (2011) هو إعادة التهمة الى
الشاشة. عمّمت صرخة أخلاقية جارفة ضد جريمة خوف وعار،
تتوالد خطاياها كدَّم نافر، لا نراه على الشاشة، بيد
إن لون فواجعه يُدنَّس وجوه الشخصيات الثلاث.
وكما إن آدم هو الكائن المخلوق من أديم الأرض، يصبح
المولود الحامل لأسمه، صنيعاً لحُرْمَة الحياة
وإرادتها. تعود سلالته الى "فعل الخير"، بعد إن غرس
"العليم" رحمته، ولكن هذه المرّة في قلب سامية، فارضاً
عليها قرار إمومة، تُكلّل إمتنانها بكلمة واحدة هي
"شكراً"، توجهها الى عبلة وصبيتها، قبل أن نراها عائدة
الى ذلك الـ"خارج"، الذي قابلناه في بداية الحكاية
الميلودرامية، حيث تنتظرها مواجهات ضروس، هي نذور عفة
سُرقت على حين غفلة، لكنها صَمَّمت على الإمساك ببركات
خالقها. عمل التوزاني، القائم على نهج سينمائي شديد
التقليدية، ليس تحفة، إلا أن مقاصده تفيض بعرفانية لا
حدود لها، تُذكّر بشريط اليمنية خديجة السلامي "أنا
نجود بنت العاشرة ومطلقة" (2014)، وتحاملاته على
إغتصاب حقّ طفولة وإمتهان وصاياها.