زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان برلين السينمائي الدولي الـ 71

We/ Nous

(جائزة أفضل فيلم في مسابقة لقاءات)

"نحن" للأفروفرنسية أليس ديوب... وثائقيّ ضواحي باريس والإنتماءات المَتْعُوسة

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 
 
 
 
«سينماتك» في برلين السينمائي
 
 
 

يختزل ملصق الشريط الوثائقيّ السجاليّ للأفروفرنسية أليس ديوب "نحن" عقيدته الإيديولوجية حول مفاهيم الإنتماء والولاء والهويات والوطنية. مثلها، نهجه الإبستمولوجي بشأن التعددية الإجتماعيّة والخَيّر العام والإندماج والعطاء. رجل أفريقي السحنة يقف على سلم، يرفع رايات فرنسية، بإلوانها الثلاثة الشهيرة، على عمود إنارة، إستعداداً للإحتفال بذكرى مناسبة وطنية كبرى، فيما تُظهِر الخلفية أبراجاً سكنية لـ"ضواحي الغرباء" في العاصمة باريس. الفعل مألوف، بيد أن اللقطة تستهدف عنواناً مفخَّماً وتعبويّاً، يمسّ خُصُومَة مجتمعيّة مستترة، معنيّة بوافد إجنبي "لا يمكن إحتسابه ضمن قوائم الـ"نحن" بكل الأحوال" (فيلم مواطنها لادج لي "البؤساء" (2020) جعل هذه الحقيقة عصباً ديناميكياً، يدور حول ضرّاء التكاره والإنحراف، وتعزيزها بالشكوك والإستفزاز ونَكَد المعيشة).

شاب أفريقي يرفع علم "دولته" الأوروبية. هل يكفيه القيام بهذا الفعل كي يوكد لنظامها، المتشبّث بعقليته الكولونيالية، مواطنية كاملة؟. هل إن ولادته على أرض بلاد، إستقبلت قبله أسلافه، وتَحَدَّثِه لغتها بطلاقة، يجيزان له إنتماءً مضموناً، وحقَّاً شرعيّاً بمساواة؟. تفتتح ديوب فيلمها وهي تقارب ذلك الضمير العَصِيّ على الإنتماء: " لا تعني "نحن" أُناسي. كُلّ شخص على شاكلتي، لكن ايُّ فرد منا له مصلحة محتملة في تلك الـ"نحن"، للمطالبة بها، والإستحواذ عليها، والشعور بقوَّتها. ان "نحن" لا تُعرَّفنا، ولا تؤكد ذواتنا، ولن تُشير الى "أُناس يشبهوني". إنها تشير الى ما علينا القيام به في حالة إندماجنا. "نحن" هي ما يحدث عندما "أنا" (تقصد الوافدين) تنفتح على الأخرين. عندما تتَضَخَّم هذه الأخيرة، فإنها تتراكم وتتوسَّع مقصيّة". تقول كلماتها، وكاميرتها تصوَّر سحناً أفريقية، تتجمع عند رصيف محطة قطارات في ساعات صباح باكرة ومتجمدة. هؤلاء أغراب متوجهون الى مراكز أعمالهم. بروليتاريات "تتحرك" لصالح ألة جبارة، عليها طاعتها، وإنجاز ما تُكلَّف بها بإقل الأضرار والمطالب. حين يؤوب عبيدها الى أماكن معيشتهم في ضواح مكدسة وغير صحيّة، لن يحق لهم المناشدة بحقوق، أو الحلم بإرتقاء سلم طبقيّ ومجتمعيّ غير مسموح لهم "اللعب بخرائطه".

"هم"، غير مشمولين في محاصصات الـ "نحن" الأوروبية، ورفاهياتها وعدالاتها وديموقراطياتها. يأتي مونولوغ ديوب ونبرته الخطابية، عاكساً تضارباً صارخاً بين كلمات ذات هدف إختزاليّ، مع مشهديات وثائقيّة يوميّة وحياتيّة لظلم هوياتي مُخْز. ان "المصلحة المحتملة" التي توردها ديوب هي تمن لن يتحقق للدخلاء (رغم إلتماسهم)، ولن يمتلكوه (رغم مناشدتهم)، ولن يدركوه (رغم صبرهم). ذلك ان تلك الـ"نحن" جليّة بعنصريتها، ومحصّنة بعزلتها، ومستقوية بإنتقائية رأس مالها.

"نحن" في شريط ديوب (115 د) هي مجموعة لفتات مسيَّسة، تطرحها منظومة حاكمة حين يعن لها غرضاً إنتخابياً أو مناورة إسترضائية، أما "إحتواء" الأجنبي ضمن حضن أصليّ، فهو أمر خارج عن وعي وقبول وتحقق. هذا اللا تيقَّن، يتجلَّى رمزياً في مشهد إفتتاحي باهر وغامض في آن لرجل (أبيض) فرنسي، يهوي رصد قطعان الغزلان عبر منظاره، وهي تجول في محميات طبيعية. مواطن ميسور، يقف بثقة على أرضه (أو الـ"هنا")، فيما تبقى طرائده في خلاءها، متوجسة، ومنذورة لطوارىء الـ"هناك" التي تحكمه الريبة. تعود ديوب الى هذه الشخصية لاحقا في مقطع ختامي، مؤكدة على لفتتها الذكية بشأن البون الشاسع بين عالمين، يتجاوران لكنهما لن يتقاربان الى بعضهما، أو على الأقل يتراحمان بشكل عقلاني وثابت.

******

وثائقيّ ديوب هو رحلة سينمائية عنيدة، على قدر هائل من التبصُّر السياسي. تستلهم جيلانات مجيدة، قام بها راجلاً الناشط اليساري والمؤلف والناشر فرانسوا ماسبيرو (1932 ـ 2015)، على طول خط السكك الحديدية المعروفة بـ"الشبكة الجهوية السريعة" ("أر أي أر بي") الرابطة بين باريس وضواحيها الشمالية والجنوبية، مسجَّلاً يومياته وأحاديثه مع ركاب محطاتها وقاصدي قاطراتها، وكذلك علاقاته مع سكان أحياء هامشيّة ومناطق صناعية، يخترق ذلك الخط عوالمهم وحيواتهم، وعمومهم من المهاجرين ذوي الأصول الأفريقية، نشرها لاحقا في كتاب وقائع ذائع الصيت عنوانه "مسافرو رواسي أكسبريس" (1990)، مرفوقاً بصور فوتوغرافية من توقيع رفيقته المصوّرة أنيك فرانتز.

بفطنتها، لم تؤفلم المخرجة الشابة وثيقة ماسبيرو هذه، إنما عالجت عبر نصّ جداليّ، وعياً شخصيّاً لـ"مجتمع" ولدت فيه عام 1979، لكنها أصرّت خلال مراهقتها على إغفاله وإستعدائه لدوافع وطموحات ذاتية، "في ذلك الوقت من حياتي، كنت في طور مغادرة تلك الأماكن التي نشأت فيها. أن أتخلى عنها جسدياً وإجتماعياً. أن أرحل عن الضاحية كي أصبح جزءاً من العالم الآخر، وأجد مكاناً لنفسي في المركز، في باريس، من خلال دراستي، وتكريس مسيرتي المهنية في الإخراج السينمائي، التي بدأت للتو لكنها ما زالت محفوفة بالمخاطر. شعرت أنني بلا جذور، غير إن الكتاب ومن دون شك، أعاد إليّ لا شعورياً ماضياً وتاريخاً، كنت أحاول بإستمرار كبتهما".

قادها هذا التحفيز الى الشروع، برفقة ثلاثة مصورين، الى معاودة الرحلة الطويلة، وإعتماد نهج ماسبيرو حرفياً في "أن نحكي قصة فرنسا بإتباع خط المترو". النتيجة، عمل وثائقيّ أقرب الى مدونات بصريّة، يتقاطع فيها العام والشخصيّ، فيما تثير مساراتها الحياتية كماً وفيراً من الحسّاسيّة الفكريّة، بخصوص بشر تحاصرهم شعبوية نخبوية عاتية ومتنامية ووحشية ونفعية، حيث لا ملاذ لهم سوى الحفاظ على تجاورات كوموناتهم وضمان جماعيتهم وتعزيزصلابتها. أما حكاياتهم فهي نسيج درامي، يؤمن للمشاهد صورة وضّاحة لحالة تكافل وإفتداء، تتلَّون حسب مرجعيات أصولهم وثقافاتهم ومستوياتهم التعليمية.

عليه، فالشأن العائلي الذي تعرضه ديوب حول والديها المهاجرين، وأهمية التضامن في حياتهما، ليس سوى وجهة نظر معمَّقة الى ثيمة الإغتراب ومعانيها السوسيولوجية التي يتشاركان فيها مع أخرين، تضمّهم شققاً بائسة لغيتوات لن تفلت من عقاب حكومي مزمن من النكران والتُّهمة (أعنفها أسلمة الضواحي إثر هجمات شارلي إبدو في العام 2015). تصبح الذكريات وحكاياتها، والصور الفوتوغرافية القديمة ورمزيتها، وأشرطة الفيديو ومشاهدها الآفلة، وأكسسوارات الطفولة وحنينها وغيرها، مكملات حسّية بالغة التأثير لقيم غير مكتملة لـ"الفردوس الفرنسي".

ان مقتنيات العائلة هي مفردات "نحن" الأفريقية الخاصة بهم، أما خارجها فإنها بلا قيمة. وحدها، العِشرَة الإجتماعية التي ينسجها الجميع على طول خط المترو المزدحم بالبسطاء والعاطلين عن العمل وشرائح المياومين، تصبح الدليل على إن "أمة جان جاك روسو" بحاجة ماسة الى تعميق مفاهيم علمانيتها وتعدَّدها الثقافي وتنوّعها العرقيّ في زمن معولم بإمتياز. هذا العرض الأسريّ يتكامل، كهدف تأثيميّ، مع فصل خاص بمجموعات فوتوغرافية معروضة في مركز إعلامي حكومي، تقدمها ديوب بتسلسل مونتاجي مدروس، يُعرفنا بعمليات تدليس دعائي منظم خاص بتشويه مجتمع الـ"بونيلو"، وإظهاره كبؤرة إدمان وجرائم وعنف تنازع الإصلاح، وهي صور مأخوذة من أرشيف "الوفد الوزاري للتخطيط وتنمية الأقاليم" (دي أي تي أي أر) الذي قدم خلاصاته في العام 1980، وأُتهم لاحقاً بتزوير الحقائق!.

هذه الأخيرة (الحقائق)، هي عصب "نحن"، الحائز على جائزة أفضل فيلم ـ مسابقة "لقاءات" في الدورة الـ70(1 ـ 5 مارس 2021) لمهرجان برلين السينمائي، التي عُقدت عبر منصته الإلكترونية، حيث تُراكم شهادات يومية لجيرة تكافليّة وصداقات أجيال وبشر عابرين ومشردي شوارع وأصدقاء متنزهات وأطفال حارات بلا أفق، تجمعهم جغرافية واحدة وإستهداف واحد وتهميش واحد. عشرات ولدوا فيها، ولهم جذور من ذُرّيّات أصيلة مهاجرة، إستقرت على أرضها من أجل تحقيق "حلمها الأوروبي"، والفوز بقسط من رفاهيات موعودة، لتنتهي كينونات محاصرة ومهزومة ومجتثة وبلا حقوق، منها أُحدوثة ميكانيكي السيارات إسماعيل سوميلا سيسوكو الذي نلتقيه وهو يتحدث مع والدته عبر الهاتف، بشأن قراره النهائي في العودة الى مالي بعد عشرين سنة من غربته الفرنسية: "إنهم يهتمون بنا فقط من أجل السُخْرَة". هذا الرجل المديد القامة الذي يعيش في شاحنته ويتخذها بيتاً، لن ينال حصَّته، معلناً عدم تصبُّره على حالته المزريّة، على النقيض من والد المخرجة ديوب الذي يخبرها في لقطات مصوَّرة بكاميرا فيديو قديمة، أنه نال حظوظه من العمل، ولم تنقصه فرصه. مع ذلك، وبعد أربعين عاماً من الإستقرار، يُناشد بدفنه في بلده الأصلي السنغال. تعبر كلا الشخصيتين عن حسرة عامة بشأن فشل بلاد الغال و"نحن"ـها في ضمان شراكات إجتماعيّة منصفة.

******

إذن ما الذي تغير؟. تتساءل صاحبة "كليشي على سبيل المثال" (2007)، و"موت دانتون" (2011). هل إستكفت المنظومة السلطوية من العمالة الوافدة من مستعمراتها وتبرير تواجدها المديد، كي تواجه إستحقاقات أحفادهم المهووسين اليوم بهواتفهم النقالة ومنصاتها الإفعوانية والتقليعات الأميركية؟. شباب من كل المشارب، نراهم في مشاهد تلصَّصية، وهم يسترخون تحت الشمس، مستمتعين بغناء إديث بياف، غير عابئين بنموذج تاريخي لقاطرة، نقلت المئات الى حتوفهم في معسكرات أوشفيتز (كشف ماسبيرو في كتابه إن الركاب الأجانب لخط المترو المزدحم، الذي نلمح مرور قطاراته ذهاباً وإيابا في لقطات متداخلة، لم يلتفتوا الى مواقع أيقونية يمرون بها، ولم يعتنوا برمزية تاريخيتها على شاكلة "بازيليكا سان دوني" حيث مدافن ملوك فرنسا!). شابات سمراوات يتناكفن حول أنواع المكياج ومواعيد الغرام. أطفال بلا هدف يلهون في فضاءات بريّة. يعيش هؤلاء في "نحن"ـهم الخاصة، متجاهلين حقيقة إن شيطنة سياسية تُحاك في الخفاء للإيقاع بهم، وحصرهم في تنميط  فاشي كإرهابيين وغلاة موت وسفاكيّ دماء. هذه المعضلة، تناقشها المخرجة ديوب بوجع أيديولوجي مع الروائي بيير بيرغونيو، وتطال "الإستثناء الفرنسي" ومالآته الفكرية ومُثله وتحزَّباته وخدعه التي طوَّقت مفهوم الـ"نحن" بأسيجة إقصاءات وعداوات وتشوَّف طبقيّ وعنصريّ.

الحاسم في إشتغال ديوب وقصصها القصيرة عن أُناسها العاديين وحيواتهم، تمنَّعها عن التدخل في بناء الفقرة الواحدة. انها تصوّرها كما تحدث بتعاطف بالغ، وتسجل ما يقال، وتوّثق ما يُشار اليه، غالباً بمشهديات طويلة وثابتة ومرتبة بمونتاج هارموني من توقيع أماريتا ديفيد، تستمد جمالياتها من أماكن لافتة ببساطتها وتقشفها، وبشر تلقائيين ومباشرين ذوي صلادة ذاتية مدهشة، كما شعّت في المشهد الأثير والخاطف لشقيقة المخرجة ومحاوراتها مع عجوز بيضاء، تزور شقتها جزءاً من مهامها كعاملة في فرق الرعاية الإجتماعية. تتساءل الأخيرة: "لماذا يصورنك؟"، تتهكم الأولى بقولها: "لأنني مشهورة!"، فترد الثانية بخبث: "لإنك جميلة". هذا الإطراء وليد أُلْفَة طويلة بين مواطنين وأفراد مستقلين، يصوغون تعريفهم الخاص لهذه الـ"نحن"، رغم العناد العصبوي وخبثه الإعلامي، وسعيهما الى تفكيك أواصر هوية جماعيّة حداثيّة.

 هل هذا التفكيك ممكن؟. في مشهد ختامي مدروس ومتألق، تغمز ديوب عبره الى إن المكر الطبقيّ هو سلاح خفيّ وماض لعنصريي فرنسا، يكفل لهم رسم حواجز متينة بينهم كأُصَلاء في مواجهة غوغاء ضواحي. أولئك البائسين الذين لن تتحقق لهم البتّة فرصة تغيير جلودهم بأخرى أوروبية "شديدة النقاء"!. تعود ديوب ثانية الى ذلك المواطن المهووس بمراقبة الغزلان. يرتدي هذه المرّة زيّاً رسميّاً لطبقة أرستقراطيّة، يشارك رهطاً كبير العدد من أتباعه في إحتفال طقسي لرياضة الصيد بالكلاب. نتابع بتأن سينمائي تقاليد نمط حياة ريفية متجذّرة ولا يمكن إختراقها، قبل أن يخوض فرسانها بإزيائهم التهريجية مطاردة كبرى، تقودهم الى قلب الغابات المحيطة  بخطّ قطار المترو وأحيائه ومهاجريها التي قاربها الثنائي ماسبيرو/ ديوب بإعتبارها ضمير أمة شديدة الإنقسام والتباغض واللا تعايش.

سينماتك في ـ  20 مايو 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004