زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان برلين السينمائي الدولي الـ 71

( Vị )Taste

(جائزة لجنة تحكيم مسابقة لقاءات)

"مَذَاق" للفيتنامي ليه باو.. المهاجر/ اللاجىء كإسطورة معولمة

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 
 
 
 
 
«سينماتك» في برلين السينمائي
 
 
 

يفرض الفيتنامي ليه باو في باكورته الروائية "مَذَاق"، الحائزة على الجائزة الخاصة للجنة تحكيم مسابقة "لقاءات" في الدورة الـ71 (1 ـ 5 مارس 2021) لمهرجان برلين السينمائي، التي عُقدت عبر منصته الألكترونية، أَلية عرض مبتكرة، تُلزم مشاهدها الإنخراط في إعادة بناء تجهيز فيلميّ خلّاق، محاصر ضمن جدران عارية ورطبة وكامدة اللون، تضم خمس شخصيات، هم رجل نيجيري وأربع سيدات فيتناميات في منتصف العمر، يؤدون إفعالاً حياتية بدائية ضمن دورة لا تنتهي، أو على الأقل أن الموت لا يقترب بعجالة من أقدارهم.

هذه دُرّة سينمائية طليعية غريبة الطعم وتدميرية النزعة ذات تَحَكَّم جماليّ متفّجر، تدور حول تواطؤات غُرْبة مكانيّة مع وَحْشَة شخصيّة. تقارب عبر ثنائيتها الوجوديّة تساؤلات حول، ما إذا كان الأجنبيّ يملك "مَذَاقاً" خاصاً، يجعله عُسراً في أرض الغير. لا يتكلم لغتهم، ولا يرطنوا بلهجته. لا يملك طباعهم، ولن يلتفتوا الى ما جُبل عليه. لا يملك عليهم تعهَّداً، ولن يجدوا ما يدفعهم على مراوغة حقّه في البقاء. حول، ما إذا كانت للعُزلات والإقصاءات المجتمعيّة مَذَاق مهانات، تجعل من حالة الأشياء المحيطة بالمهاجر/اللائذ غير قابلة للتداول، بدءاً من هويته وإنتهاء بلون سحنته. حول، أن يصبح المرء الغريب خيالاً متحركاً داخل حيّز جغرافي محدود، أقرب الى قفص، وليس جزءاً فاعلاً في نشاط مجتمعيّ عام، يفترض قبول وجوده كيقين إنسانيّ، يملك قدرته على التعايش والإستمتاع بعِشْرَته، وجدارته في الإنخراط المدني والتكسّب من حوافزه.

*****

بطل "مَذَاق"، كائن هامشي صموت، بلا تاريخ موصوف. نتعرّف عليه أجيراً في صالون حلاقة في أحد الأحياء الفقيرة في العاصمة هوشي منه (سايغون سابقاً). يُنجز خدمات وضيعة من دون إرشادات أو أوامر، وكأنه مجبول عليها منذ دهور. رجل نيجيري يدعى باسلي (أوليغونليكو أيزاكل غبنغا). ترك بلاده وزوجته وإبنه (9 أعوام)، منهياً مطافه في عزلة غير مفهومة، تجري في مكانين منفصلين. يبدأ تواجده الفسلجي الحقيقي في الثاني، حين ينتفي غرض "إستخدامه" في المحلّ الأول إثر إغلاقه. قبله، الإستغناء عن خدماته "وطرده" من تدريبات فريق كرة القدم الأفريقي الأعضاء، بعد أن كسر قدمه في حادث، وهي الأن داخل جبيرة بيضاء.

ما نراه في صالون الحلاقة هو تجهيز فنّيّ بحت، يجعل من مساحات ضيقة ومتواضعة بألوانها الرمادية والأزرق القاتم، مكاناً غير قابل للحياة، يمارس فيه الرجل أقل قدر من شروطه الإنسانية، رغم إنه يُقيم بين جدرانه الخشبية. تارة، يقوم بغسل شعر رأسه بطريقة أكروباتية داخل حوض مخصص للزبائن، كي يتجنب وصول الماء الى كسوة قدمه. في أخرى، يكنس بضراعة ومن بين قدميّ حلاق فيتنامي متعال وملول، بقايا شعر مَنْ جلسوا تحت مقصه. يتحول الوجوم في هذا الفصل من أوصاف حزن الى أداة بصريّة، يستغلها المخرج باو ومدير التصوير فِن فوك نون من أجل تمرير إستعارتهما الى تقنية الـ "كياروسكورو" الباهرة من المعلّم البرتغالي بيدرو كوستا، خصوصا في منجزه "فيتالينا فاريلا" (2020)، القائمة على موازنة ضياء وظلال مع بقع ظلام وعتمة، لتجعل من الدكان معقلاً ضوئياً لمشقَّة شخصية ورُزْء أشخاص مريبين ورذالة مصير وعنصرية مستترة.

يتعاظم الحس المرئيّ ورونقه ضمن تركيبات تشكيليّة مفاهيميّة غير معهودة، تصبح الإجساد فيه كتلاً تتوزع بمقاسات وتناسبات وخطوط محكمة، هي في مجموعها ترميز  سينوغرافي مدهش لجاثوم ملعون، يمرّ المهاجر النيجيري بفصوله، من دون السعى الى تغيير مساره، أو على الأقل تعديل قبحه وغبنه ومواته. عليه، يجد المشاهد الفطن حاله مطالباً بوضع صياغة ذهنية لهذا المنظور الصوريّ، من باب ورطة إرادة مأسُورة، إرتهنت الى فخّ غربة غير محسوبة الخطوات. وجدت نفسها عالقة في فراغ لا نهائي ذا "مَذَاق" لاذع، بسبب وحشة بلاد إستوائية ومراراتها، ورَدًى يستهدف دمّ دخيل وبلاءاته.    

*****

يُقصى باسلي، الرياضي السابق، من "فردوس" يضم أبناء جلدته من لاعبين مستوردين لصالح فرق كرة قدم أسيوية (وهي ظاهرة معولمة واسعة الإنتشار الآن)، بيد إنهم يعاملون كـ"كتلة إنتاجية" يائسة، عليهم ممارسة تدريبات وتأهيلات مديدة الزمن، داخل غرفة ضيقة أشبه بمعتقل منه ناد رياضي، والخضوع الى  فحوصات غريبة لا علاقة لها بمروناتهم وقابلياتهم الجسدية. كُلّ هذا يجري بصمت مطبق، يُسقِط عنهم ملمحهم الإنساني، ويحوَّلهم الى نُصب سوداء وخرساء، حيث يزول "مَذَاق" الكلام عن ألسنتهم، ويحل بدله بَكَم قهريّ، يقتل تواصلاتهم ويعرقل أواصرهم. في المشهد الإفتتاحي، نراقب مدرباً عجوزاُ يستخدم لوحاً خشبياً وسدادات قناني مشروبات غازية!، ليملي خطط مباريات على المجموعة الأفريقية، من دون أن يتمكن أفرادها من مناقشة أيّ مقترح عمليّ. يُكسر هذا الجمود في المقطع الأخير، إذ نراهم حاملين هيكل هدف وشبكته، ويشرعون في نصبه ضمن عراء ترابي، فيما يجلس باسلي بصبر في كوخ مقابل، يراقب رجلاً يضع رأسه داخل مجفف شعر كهربائي!. هذه الأوضاع السوريالية التي تًذكر من دون تردد بإشتغالات المعلّم السويدي روي أندرسون، تتضخَّم بروية في المقطع الثاني من الشريط (97 د)، حين يودع البطل عالمه الخارجي العدائي والخائب، ويرافق أربع نساء الى "مَعْقِل" إسمنتي أخر، منزو في قلب حيّ قصديري مدقع في فقره.

 في هذا الحيّز التجميعيّ بإمتياز، والمؤلف من غرف متداخلة بلا أبواب، تطلّ على سلالم وفناءات، يصوغ ليه باو (1990) رؤية عبوسة حول فكرة "عائلة إستبدالية" وتعايشها، يسعى إليها باسلي للفكاك من توحُّده وإخفاقاته، إلا إن ما يتشارك فيه (أو يعيش ضمنه) هي حالة طيفيّة خالصة لمجموعة بشريّة بشكلها الفطريّ (أدم وحواء)، "تستعمر" مكاناً خاوياً، سوى من أسرة نوم عسكرية وعدد من الكراسي وجهازي تلفزيون وفيديو، ومطبخ مزوَّد بكل معداته. وهذه الأخيرة، تصبح أدوات عمل لهم. ينخرط باسلي وحريمه في جولات متقنة من طهي وتنظيف وطهارة وتصفيف شعر وتدليك وإستحمام جماعيّ وممارسة جنس. ما يجمعهم هو الوحدة والأحزان. النساء لم يظهرن من فراغ، ذلك إن ليه باو الذي لم يدرس السينما أكاديمياً، وتعلمها بشكل عصاميّ، يدلنا في مشهديات ساحرة عن عملهن داخل مستودع واسع المساحة، يخطن داخله مناطيد عملاقة، تقول أكبرهن سناً بحُرْقَة: "كنت أحلم أن أرى واحداً منها يُحلق في سماء ما". تستمر هذه العبودية مع جلسات طبخ، تنتهي وجباتها الى الأسواق، وتُباع الى زبائن من مارة.

*****

يصوّر الثنائي باو/ فوك نون هذه الأسرة الغريبة بتجهيزيّة ذات عقيدة صادمة، وبزاويا مرتفعة قليلاً عن مستوى النظر، ما يجعل المكان ونزلاؤه وحركاتهم، وكأنها مرصودة بكاميرات سريّة وشرّيرة. يتخلى الجميع عن ملابسهم، ويعيشون عراة، يقضون حاجاتهم أمام بعضهم، ويضاجع النيجيري نسائه، فيما تنتظر الأخريات دورهن في مشاهدة مسلسلات تلفزيونية لا تنتهي، ومن دون صّوت!. فبدلاً عن الكلام المغيَّب، يُشحن الشريط بكمٍ هائل من أصوات بديلة صادرة من مراكز عدة، إذ نسمع هسيس ريح وضربات قلب ورعدة جسد أدمي ودبيب جرذ وخرير مياه وحسيس نار وضربات مجداف وتكسَّر أمواج وحفيف شجر، وعشرات أخرى من هزيز حياة وطبيعة. 

نراهم يغنون "الكاريوكي"، أو يقطعون سمكة عملاقة، أو يزنون خنزيراً صغيراً على مكيال، أو يقودون دراجات هوائية بين الغرف، أو يهيئون الأسرة، أو يغسلون الملابس جماعياً. تجري هذه النشاطات بتراتب زمني محسوب، تؤدي النساء (وهن مواطنات فيتناميات يمثلن لأول مرة) فعالياتهن ضمنها كواجب حياتي لا إعتراض عليه أو تمن أو إرغام،  وتصبح هندسة هذه المزاولات، التي تُعرض كجزء من "فن جسدي"، قائمة أما على خطوط بصريّة، تتعلق بتوزيع أماكن الشخصيات ووقوفهم أو جلوسهم، أو قائمة على مواقع كتل حيث يتم إختيار فعل واحد متحرك لإمرأة تستحم مثلاً، فيما بقية المجموعة تحتشد في موقع أخر في سكون مطبق، تحت إضاءات منفصلة بتدرجات ألوان وقوّة لمعان وشكل مساقط مختلفة.

في هذا المكان بفضاءاته المقيَّدة وروتينه المقلق، يصبح الإطار المصوَّر الخالي من اللقطات التفصيلية أو اللقطات المقرَّبة (كلوزأب) وأبعاده الجماليّة وتوازناته الحسّية، شخصنة سينمائية لإقصاء إختياري يبقى ملّتبساً عمداً، رغم إعترافات نسمعها فجأة على ألسنة شخصيات جريحة، تعرَّفنا على تواريخها الخاصّة. فالنيجيري يجالس شاشة التلفزيون، ويتابع شريط فيديو مسجلاً لإبنه، يأكل مثله بطيخاً أحمر، قبل أن يلقي مونولوغين طويلين حول موت والده "الذي تحول الى روح" وحسرات أسرته عليه، وايضا ما يتعلق بغيابه/ سفره، ليفيض أساه في كُلّ جملة: "واجبي أن يجد إبني طعاماً في صحنه"، أو "العالم له مسار واحد. يظن المرء انه يعرف وجهته، لكنه يمكن أن يجد نفسه وقد أمّ ناحية أخرى"، أما حريمه فلهن تواريخهن أيضا من عزلة وإنتباذ، فالعجوز ميين (خونغ ثي مينه نجا) أم وحيدة عليلة، وهانه (نغوين ثي كام شوان) كانت تعيش مع زوج خؤوون، فيما تأمل الثالثة ترانج (لي ثي دونغ) في عودة زوج وإبن غابا فجأة، أما ثونغ(فو ثن تام ثن) فهي متشردة، تجول الممرات المائية في قارب غريب التصميم. لن يقدم المخرج ليه باو هذه الخليط الإنسانيّ كنموذج على التعاسة، وإنما على قدرة التكافل البشري في تسيير شؤون حياة منعزلة، من دون أن يتبادل أفراده كلمة واحدة.

وكما إن للحياة عَاقِبَة، فإن على باسلي البحث عن شفاعة ترشده الى خاتمته وتوقف أَذِيَّته. بالضرورة، لن يكون مُعينه سوى الله الذي يتوجه له بصلوات مريرة وسط ملعب مهجور، قبل أن نراه متسمّراً أمام غابة كثيفة، يدلفها ببطء شديدة ويختفي في ظلمتها. هل عاد النيجيري الى أُرُومته، أم إنه حقق قيامته أخيراَ، وخضع الى كون جديد وبديل له مَذَاق الأسطورة؟.

سينماتك في ـ  05 أبريل 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004