مع كلّ فيلمِ جديد، يقدم لنا تارانتينو المزيد من
جنونه الجميل، حيث يُعيد ربط الأنواع، ويجعلنا نتألق
في كلّ مرة بنتيجةٍ يُعاد تشكيلها قليلاً، وتجديداً
"إعادة النظر" للأشكال.
*****
لا يزال تارانتينو، قبل كلّ شيء، عاشقاً، وفيتيشياً
للسينما، ومع ذلك، فإن هذه الفيتيشية ليست الشيء
الوحيد الذي يحفزّه كمخرج، خاصةً كرجل.
على الرغم من المازوخية التي تمّ عرضها ببذخٍ في بعض
أفلامه، إلاّ أننا، في وقتٍ مبكرٍ جداً، نلاحظ عنده
احتراماً، وإعجاباً لا حدود لهما لممثلاته، مما يضفي
غطاءً على كلّ هواجسه، وشخصياته الأكثر تميزاً
(شوسانا، العروس، ميا، جاكي، زوي ...).
من Pulp Fiction
إلى Basterds
، الشخصيات النسائية عنده قوية، وتفرض نفسها، وقاسية،
وحساسة.
يمثل Death Proof
ذروة هذا التأنيث في مسيرته السينمائية، في هذا
السياق، اللقطة الافتتاحية، قدمان موضوعتان على لوحة
القيادة للسيارة، تُظهر كلّ فيتيشية تارانتينو
بامتياز، علينا العودة إلى Pulp Fiction
ومشهده الشهير، حول تدليك القدمين، لفهم أهمية مثل هذه
اللقطة، وفتنة المؤلف الطفولية تماماً (وحتى
الصبيانية) بالجنس الآخر، وخاصةً بالنسبة لقدمه
(المقصود ذروته الجنسية الخاصة به).
رأينا ذلك لاحقاً في
Jackie Brown،
حيث استمتع تارانتينو بدون حياءٍ بالبصبصة على بريدجيت
فوندا وهي تهتزّ في ديكور المشهد عارية القدمين.
دعنا نقول بوضوح، في
Death Proof
نشهد على توليفةٍ مثالية لجميع "آثام" المخرج
الأمريكي:
السينما
(تكريمٌ ذكيّ للعروض السينمائية المُزدوجة في صالات ال
grindhouse
مع كل ما يفترض وجود إشارات إلى سلسلة
B،
وشرائط الأفلام المُنجزة بطريقةٍ بيتوتية/منخفضة
التكاليف).
النساء
(المُلتهبات روزاريو داوسون، وروز ماكجوان،
والإمبراطورة زوي بيل، كلهنّ مثالياتٍ في صورهنّ
المثيرة).
الموسيقى
جنغل
جوليا
تعمل مضيفة إذاعية، ألحان أبريل مارش، و
The Smiths
التي لا تقاوم، أو تلك الرقصة الرائعة على
موسيقىThe
Coasters).
مع Death Proof
(الذي لم يحظى على الإعجاب ظلماً عندما تمّ عرضه، ثم
عُرض في برنامج مزدوج مع
Planet Terror
للمخرج روبيرت رودريجيز، مزينٌ بشرائط دعائية كاذبة عن
أفلام متخيلة سوف تُعرض لاحقاً)، لا يخفي تارانتينو
أيّ شيء من جرأته، وتطرّف تجريبه، يدعو، فجأةً،
مقارناتٍ مع الرؤوس القوية مثل جودار، أو وارهول،
لالتقاط هذه الصلات الوارهولية (نسبةً إلى أندي
وارهول)، يمكن للمرء أن يذكر على سبيل المثال هذا
التحوّل الفظّ إلى الأسود والأبيض في الإطار، في منتصف
لقطة طويلة، وواحدة ، ثم يتمّ تخفيفه مرةً أخرى في
أكثر الألوان حيويةً، مشوّباً بعلامة الأصفر المبهر.
أما بالنسبة للمخرج الفرنسي جودار، فإن المشهد الطويل
في الحانة، المُزين بملصقات الأفلام، بين جنغل جوليا،
مارسي، وبيترفلايّ يتحدثن عن كلّ شيء، ولا شيء، بينما
يستنفدن مصائبهن الوجودية الصغيرة على صوت صندوق
الموسيقى يُذكّرنا بفيلم
Bande à part
(جودار).
تارانتينو رجلٌ ذكيّ/خبيث، والأهمّ من ذلك كله، يريد
أن يعرف الجميع ذلك، في سباقه من أجل الاستبدادية،
يستأجر ممثلة مشاهد خطرة (لا سيما في فيلم
Kill Bill)،
ويدفع حدود نظامه/منهجه، حيث يأخذ النًسخ هنا بعداً
جديداً تماماً.
بتجاوز الفكرة البسيطة المتمثلة في إعادة إحياء روح
ثقافة ال
grindhouse
(صالات عرض فيلمين بثمن تذكرة واحدة)، أو أعمالٍ مثل
Vanishing Point
أو
Dirty Marry
... أو
Rolling Thunder
، هنا يقدم مطاردة سيارات هي الأكثر إبهاراً، وبراعةً،
وجاذبية على الإطلاق في تاريخ السينما، على الأرجح.
بالإضافة إلى ذلك، وكي يجعل كلّ شيءٍ مربحاً (أكثر
فائدةً)، فإن النساء، أمام الشرير الكبير (يلعب كورت
راسل النموذج الأصلي المثالي للوحش الرجولي)، يخرجن
سالمات – مع أنغام الأغنية الفرنسية
"Laisse
tomber les filles"
(دعونا نتغاضى عن هذا الأمر يا فتيات) للفرنسي
جينسبورغ، ممتعٌ، تحيا الأخلاق التارانتينية، والإفراط
الأنثويّ.
في فيلمه الثالث على التوالي حول موضوع الانتقام،
Inglourious Basterds
، يمنح المخرج الأمريكي لنفسه عملاً ـ بياناً لجميع
الأفلام التارانتينية، تنعكس فيه جميع موضوعاته
المفضلة.
مع آخر أعماله، التي يصف بطلته (وُفقاً لكلماته
الخاصة) بأنها جان دارك اليهود (اللقطة القريبة
الأخيرة لشوسانا تُذكّرنا بجان دارك للمخرج كارل
دراير)، يضع تارانتينو نفسه في تقاطع التاريخ (وتاريخ
الفن السابع، بعد كلّ شيء)، وببساطةٍ، يقرر إعادة
كتابته!
لاحقاً (المعنى: إذا نظرنا إلى الأمر من بعيد)، نفهم
بشكلٍ أفضل الاستقبال المختلط/المتباين إلى حدٍّ ما
الذي تلقاه الفيلم عند عرضه في مهرجان كان.
الهولوكوست، القضية الحساسة الكبرى! يبدو بأننا نكاد
نسمع همساً في جوقة: "كيف يجرؤ على ذلك؟" بطريقته
الخاصة، وبصورةٍ مباشرة، يكسر مؤلف
Pulp Fiction
ميثاق السينما ـ التاريخ، من خلال إعادة كتابة الساعات
الأخيرة من حياة هتلر، وجوبلز، في الفضاء المحدود
للخيال/الروائي، ينتهك تارانتينو التاريخ بالتأكيد،
لكنه، في الوقت نفسه، يجسّد، وبوضوحٍ شديد، مهارته
التي لا يمكن إنكارها في التخريب من خلال "إزالة
الطابع الرسمي/التحوير".
من خلال الخيال الأكثر دموية (Gore)،
سيكون قد نجح في تجاوز اللحظات المفصلية في التاريخ
("هذا من أجل انتقام اليهود"، أعلنت شوسانا، عند إشعال
النار في صالة السينما الخاصة بها)، وتظهر بهذا الفعل،
في ابداعٍ معين، مالم يتحقق حتى ذلك الحين.
ثرثارٌ، متفجرٌ، وشخصيٌّ للغاية، يرسم
Inglourious
Basterds
، قبل كلّ شيء في خطوطٍ عريضة، خرائطيّة تارانتينولاند
(عالم تارانتينو)، هذه المنطقة الساحرة (الخلابة)
لسينما ثرثارة، متمردة، ذكية، محررة، ومتحررة في نفس
الوقت ...
لذلك، دعونا نشعر بالارتياح، أفلام تارانتينو تتبع
بعضها البعض دائماً بوتيرةٍ جيدة، ومن الواضح أن
مؤلفها ليس لديه رغبة في التوصل إلى اتفاق في الآراء!
إلى المنعطف التالي إذن.
المصدر:
Gnaba, S. (2009). Quentin Tarantino :
Tarantinoland!. Séquences, (263), 17–19. |