من بين التيمات المُتجسّدة في تاريخ السينما، هناك
واحدةٌ تبدو معاصرةً، وفي حالة تطورٍ دائم، ألا وهي
الهيام، والترحال.
وبالتوافق مع صورة الموضوعات التي تعالجها، تتموقع
سينما الترحال في حالة تمردٍّ بالمقارنة مع أفلام أخرى
ذات أساليب محددة، ولأنها تتأرجح دائماً بين حدود
مختلفة، تبدو هذه السينما صعبة الإمساك.
عندما نتحدث عن سينما الترحال، تواجهنا مشكلتان
رئيسيتان:
* ما هو الترحال في السينما؟
* وبافتراض أن هذه السينما موجودة، ألا تبحث على
إقصاء، أو تفريغ الحكاية من الفيلم؟
يبدو بأن الترحال في السينما صعب التصنيف، لأنه يتشارك
مع تيمات متعددة: الرحلة، البحث، التجوال، الحرية، ...
والترحال، هو فيلم الطريق أيضاً (Road movie)،
هذا الأسلوب السينمائي الذي بدأ في الولايات المتحدة
فترة السبعينيّات، منفتحٌ على كلّ الأنواع، من
الويسترن إلى الفيلم البوليسي، ومن الفيلم الاجتماعي
إلى الكوميدي، .... .
وفي مواجهة تعددية الأنواع هذه، يمكن التساؤل فيما إذا
كان (فيلم الطريق) أسلوباً سينمائياً قائماً بذاته.
لقد حظى التشرد، والتسكع على الشهرة في الستينيّات،
بعد أن عرفا لحظات من الانتصار، والفخر مع شارلو
(شارلي شابلن).
تسمح تيمة الترحال بسردٍّ شعريٍّ، وتقديم الشخصيات
الهامشية في المجتمع، إنه هروبٌ نحو الأمام، بحثٌ عن
الحرية، عن الذات، والآخر.
عند سينمائيين مثل غودار، وفيندرز، نجد هذا المعنى
متجلياً في كلّ أشكاله، إنها أيضاً حالة (جيم جارموش)،
والذي من فيلمه (أغرب من الجنةStranger
than Paradise)
إلى (قطار الغموضMystery
Train
)، مروراً بـ(ساقط بحكم القانونDown by Law)
اهتمّ بمشكلات الفرد، وعلاقته مع الآخرين، وهو يعترف
بأنه مهووسٌ بهذه التيمة.
ويبدو بأن البحث عن سعادةٍ غير مؤكدة، وهشّة تجمع كلّ
شخصيات هذا السينمائي الأمريكيّ الشاب، وإلى مفهوم
الترحال، يُضاف أيضاً (فيلم الطريق) العزيز جداً على
جيم جارموش.
تصبح الطريق، والإسفلت أماكن مفضلة، حيث يلتقي
الأفراد، ويجربوا بأن يتعارفوا، ويحاولوا بأن يتحابوا،
وفي بعض الأحيان، يتمزقوا.
ويتطور هؤلاء الأبطال ـ الضدّ في عالم فقد حقيقته، حتى
ولو كانت العقبات نفسها حقيقية.
ويتضمّن الترحال مفهوم (الرحلة)، والتي تشير بدورها
إلى الطريق، والذي يعني الفضاء، ومن أجل الترحال،
تحتاج الشخصيات إلى فضاءٍ ما، لأنه شكل من أشكال
الحرية، هذه الحرية التي يطالب بها المُتسكع، أو
المُتشرد، ظهرت بدايةً كمطالب اجتماعية في الولايات
المتحدة مع جيل ال"beat(الجيل
البوهيميّ) ، وفيما بعد، أصبحت صرخةً تُدين، وتشي
(الحياة على الطريقة الأمريكية).
اليوم، سياسة، ونقد التفاوت الاجتماعيّ أخلت المكان
لسينما ترحالٍ أخرى، خطيرةٌ دائماً، وعميقة، ولكن،
أيضاً، أكثر قرباً من الفرد في علاقاته مع الآخر.
ولأنها أصبحت أكثر فأكثر حميمية، تخلصت هذه السينما من
القصة، والحكاية، والشخصيات عديمة الفائدة، كي تصل إلى
بناء أكثر بساطة ًمع اقلّ العناصر المُمكنة.
لا يمتلك الأفراد الذين يظهرون على الشاشة ماضّ،
ويتحدد مستقبلهم بانتظار الغدّ، ولا يعرف هؤلاء
الأبطال ـ الضدّ الحبّ، وصداقاتهم معدومة، أو وقتية،
ولتحطيم صيرورة الطريق، فإن بعض المراحل تقطع الرحلة،
في بارات الفنادق الصغيرة المُنتشرة على طول الطريق،
حيث الأماكن تتشابه، وتُذكر الشخصيات الرئيسية لماذا
هربوا.
لقد أوحى الترحال بصورة أيقونية كاملة، أكانت
تشكيليةً، أو فوتوغرافية، وفيها أمريكا مصدراً لا
ينضب.
إنه من الفضول الانتباه إلى أيّ حدٍّ منح الترحال
ولادة أسلوب خاصّ، يمكن تسجيله كحركة فنية قائمة
بذاتها، على نفس القدر من التعبيرية، أو السوريالية،
ويتوّجب الإشارة إلى هذا التوجه، لأنه يوجد الآن منذ
أكثر من ثلاثين عاماً.
ولشرح هذه الظاهرة، بعيداً عن نوعية العمل الجمالي،
والبحث الفني المُتجسد عن طريق المبدعين، فإن الموضوع
نفسه يبقى معاصراً، الوحدة، ومشاكل الاندماج في مجتمع
ما، والاختناق المديني،...هي دائماً، وأكثر فأكثر
موضوعاتٍ راهنة، ومن أجل هذه الأسباب، يظل الترحال في
الصدارة، ولم تُحسب بعد نجاحاته عبر الإبداع الفني .
راعي البقر الوحيد (I am a poor lonesome cow-boy
كما غناها لوكي لوك) حلّ مكانه (المُتجول النموذجي)
للسبعينيّات، ومن ثمّ اُستبدل بـ(ضائع) الثمانينيّات
الأكثر صعوبة في تميّيزه من بين السكان عن سابقيه.
اليوم، الشخصية الهائمة، هي أكثر من أيّ وقت مضى،
هامشيةّ، ولكن، لا يوجد ما يميزها عن الآخرين.
لم تعدّ تمتلك شعراً طويلاً، وتركت الخطابات الطويلة
عن البورجوازية، أو الحقوق المدنية، للسود، ولا يبدو
بأن هناك أيّ شئ يؤثر بها، ومع الوقت، صنعت حول نفسها
قوقعةً، وبنت سجنها الخاصّ كي تكتسب مناعةً ضدّ
تأثيرات، واعتداءات العالم الخارجي.
يسيطر هؤلاء الأفراد على روح جارموش، ويسكنون أعماله،
لقد بدأ بحثه السينمائي عن الترحال في عام 1980 مع
فيلم لم يكن معروفاً وقتذاك في فرنسا (Permanent
Vacation
عطلة دائمة).
مع الهيام النيويوركي لصبيّ، صنع فيلماً عن الوحدة،
والجنون: > كلّ الناس يعيشون في حالة من الوحدة، ولهذا
السبب، فإنني أنساق مع التيار، ويعتبرون ذلك جنوناً،
ولكنه من الأفضل الاعتقاد بأننا لسنا وحيدين، بينما
نحن فعلياً كذلك، عن إدراكنا بأننا وحيدون في كل وقت.
هناك أشخاص يستطيعون قضاء أوقاتهم بتحقيق طموحاتهم،
واستمتاعهم في عملهم، ولكنها ليست حالتي، الناس الذين
مثلي، يعتقدون بأنهم مجانين، كل الناس يعتقدون ذلك،
بسبب طريقة معيشتي، هي ربما معرضة للخطر، ولكنها
الطريقة الوحيدة التي أعرفها<.
يدعم جارموش صورة البطل الوحيد، المُتجول، في حالة
قطيعة تامة مع العالم الحقيقي، بعد هذا الفيلم
المُحيّر حول الفراغ المُطلق، يستعيد المخرج تيمة
الوحدة، والترحال، ولكن، في هذه المرة، يصبح المتفرج
طرفاً في الرحلة.
وبينما ينتهي (Permanent Vacation
عطلة دائمة) مع انطلاق الصبي في سفينة، فإن (Stranger
than Paradise
أغرب من الجنة)، و(Down
by Law
ساقط بحكم القانون) هما حكاية رحلات، وتجوال.
ومع (Mystery Train
قطار الغموض) نعثر على ترحالٍ أكثر دائرية، حيث تتوقف
الشخصيات للحصول على وقتٍ مقتطع للاستراحة، وتعيش
مرحلةً ما بين رحلتين.
يتطرّق عمل جيم جارموش لمواضيع مختلفة في سينما
الترحال، و(فيلم الطريق)، بأسلوبٍ أصيل، سينما تُوصف
بأنها بسيطةٌ بقدر الإمكان (Minimaliste).
والمخرج يوضح النماذج الأساسية لسينما الترحال:
ـ تشظيّ الحكاية، والنظام السرديّ الروائي للفيلم.
ـ الاعتماد على أبطالٍ منفصلين عن الواقع.
ـ الهامشية.
ـ الوحدة.
ـ عدوانية العالم الخارجي، ومشاكل التواصل مع الآخرين.
يشير الترحال أيضاً إلى (الرحلة الثابتة)، كما (الرحلة
الحقيقية)، ومع الثانية، يكتسب (فيلم الطريق) معناه
الكامل، هذا المصطلح، وعلى الرغم من صعوبة ترجمته من
الإنكليزية إلى الفرنسية، يؤكد وجود نوع سينمائي قائم
بذاته، وبينما يتجسد مفهوم الرحلة عند مخرجين مثل فيم
فيندرز، وأنجلوبولوس، يظل معنى (فيلم الطريق) مُعتماً،
وحتى مُطلقاً، ولم يأخذ نصيبه من الشرح، والتحليل في
الأدبيات السينمائية.
سوف يكون تعسفياً شرح تطوره بطريقة تسلسلية، منذ ظهوره
في الولايات المتحدة فترة الستينيّات، وحتى يومنا هذا،
ومع ذلك، يمكننا التفريق بين (فيلم الطريق) لجيل الـ"beat
(الجيل البوهيميّ)، واختلاف مفهومه
مع الجيل الحاضر، فالعوامل لم تعدّ نفسها، والشخصيات
التي تجسّدت في تلك الأفلام قد تغيرت بدورها.
مع (فيلم الطريق)، لم تعدّ الرحلة وسيلةً، لقد أصبحت
هدفاً، وغايةً، ويجب على الشخصية أن تسافر، ولا تبقى
في مكانها، لأن غياب الانتقال يعني الموت.
كلّ وسائل الانتقال ممكنة: الدراجة النارية، السيارة،
الشاحنة، الدراجة الهوائية، القارب، الطائرة، القطار،
والمشي،.. هي تسمح للشخصية برحلةً متواصلة، وتفرض على
الكاميرا تحركاً واسعاً (حركات بانورامية من 180 إلى
360 درجة، ترافلينغ متعددة حتى تتابع المركبات،
والأفراد).
الشخصية الهائمة، ومسيرتها، تسمحان بتطوير سينما
شعرية، حيث سيولة تمازج اللقطات المُتتابعة، وبساطة
الحركات، تخبئ عملاً جماليا، ودقةً في تكوين الصورة.
وعلى العكس من شخصيات فيم فيندرز، فإن شخصيات جيم
جارموش ليس لها ماضي، والمُعاش لا يؤثر في أيّ حال من
الأحوال على الحكاية، فالمخرج يمنح الأولوية إلى
اللحظة.
التجوال الألماني المُتجسّد عند فيندرز، أو هيرتزوغ
يمنح المكان للتسكع في المدينة، بينما يفضل جارموش
الأماكن العادية جداً (أيّ مكان ما)، حيث تصبح البيئة
ظاهرةً مادية لبسيكولوجية الشخصيات.
الرحلات، والهروب للأمام تتحول إلى استبطان الأنا،
وتشي بتعقيد العلاقات بين الأفراد.
لا تمتلك الرحلة تلك الدلالة المُرتبطة بالأخلاقيات
اليهودية ـ المسيحية، وليس بالإمكان التفكير بما يشبه
طريق الخلاص، مُرقطاً بالعقبات، أيّ مسلكاً
استغفارياً.
يتطرق جارموش للانغلاق الأخلاقي، والذي يجعل التواصل
صعباً.
حيث تشكل الإنشاءات المدينية العناصر الفيزيائية لهذه
الصعوبة، وبدورها، العلاقات هي بدورها أكثر تعقيداً من
الأبطال المُتجذرين في حالة بحثٍ عن هويتهم الذاتية.
الأماكن المُتتالية عدوانية، ويبدو بأن المدن فارغة من
أيّ حياة، عندما يتوقف المتسكع وقتاً للراحة، تظل
اللقاءات نادرة، وتوشك حقيقة العالم على الاختفاء،
تتوضح قطيعة بين المجموعة البشرية، والشخصية الهائمة،
عطشها للحرية، والفضاء، يحكم عليها بالوحدة، ومع ذلك،
تحتاج إلى هذا الفضاء الذي يجعل الرحلة ممكنة.
يتوضح الهروب، والترحال مسبقاً في العهد القديم (هروب
الشعب اليهودي خارج مصر، وترحاله لمدة أربعين عاماً في
الصحراء)، وفي الأوديسة (ترحال اوليس لمدة عشر سنوات).
لقد أوحت الرحلة شعراء، وكتاب كثيرين: فينيلون،
بودلير، رامبو، مالارميه، شاتوبريان..
إنها تيمةٌ قديمةٌ، ظهرت بكلّ أشكالها: الرحلة
الحقيقية، الرحلة المُتخيلة، الرحلة كهروب....
في (فيلم طريق)، الهدف الحقيقي لرحلة ما ليس الوصول،
ولكن، الرحلة نفسها، حيث الطريق يمتدّ على مرمى البصر،
وكلّ الاتجاهات ممكنة، إذّ لم يعدّ للعالم حدود، في
هذه الرحلة بدون نهاية، وبينما المناظر تتبدل، ظاهرياً
فقط، لأنها تُعيد إلى نفس الفراغ، فإنّ الشخصيات لا
تتغير، المدن، الريف، الطرق السريعة، السكك الحديدية،
المحطات، والمستودعات هي أماكن ما تتوالى على إيقاع
الترحال.
تشهد هذه الفضاءات الشبحية على الفراغ الداخلي
للأبطال، وتتعارض الرحلة المادية بقوة مع الجمود
الداخلي.
مع مرور الزمن، أثبتت تيمة الترحال دوامها، ولكنّ
السينما لم تقدم لها سلطتها في الاكتشاف فحسب، ولكن،
الحركة أيضاً، والتي لا يمكن أن يتحقق الترحال بدونها.
* ستيفان بنعايّم
دكتوراه في علوم، وتقنيات الفنون، محاضرٌ في جامعة سان
دوني، باريس 8
من الترحال إلى فيلم الطريق في أعمال جيم جارموش
جزء من أطروحة الدراسات المعمقة
DEA
، والتي أنجزها ستيفان بنعايم في عام 1995
http://www.kino-road.com |