السينيفيليّا في عصر الإعلام الجديد.
من منظورٍ تاريخيّ، تُعتبر السينيفيليّا مصطلحٌ ذو
وجهين، فمن ناحيةٍ تُلمح إلى الظاهرة العالمية
المُتمثلة في أن تجربة الفيلم تثير أحاسيساً معينة من
المتعة الشديدة، مما يؤدي إلى ارتباطٍ قويٍّ بالسينما،
وغالباً ما تُوصف بأنها علاقة حبّ.
مازال السينيفيليّون في جميع أنحاء العالم، تفتنهم،
وتبهرهم سحر الصور المتحركة، فهم يعتزون بلحظات
الاكتشاف، والفرح الشخصية، ويطورون طقوساً عاطفيةً،
ويحتفلون بحبهم في تجمّعاتٍ متخصصة.
من ناحيةٍ أخرى، يغطي المُصطلح الممارسات، والخطابات
التي يتمّ فيها تخصيص مصطلح السينيفيليّا للأجندات
العقائدية، كانت أنجح هذه الممارسات بلا شكّ هي
“Politique des auteurs”
"سياسة المؤلفين".
يشير كولين ماككيب إلى أن "سياسة المؤلفين" لم تكن
معنية فقط بإثبات أسبقية المخرج صانع الأفلام، بل كانت
تهدف أيضاً إلى تكوين جمهورٍ "مثاليٍّ" جديد.
عند مشاهدة أفلام هوليوود، اكتشف النقاد السينمائيون
الفرنسيون الشباب تروفو، جودار، رومر، ورفاقهم أن
لديهم تفضيلاتٍ عاطفية لبعض صانعي الأفلام، معظمهم من
مخرجي هوليوود المشهورين، الذين شرعوا بالتالي في
إضفاء الشرعية من خلال كتاباتهم في مجلة
Cahiers du Cinéma
(كراسات السينما).
إن هذا المسار الذي يعزو ماككيب الفضل إليه في بناء
نموذج "السينفيلي الكامل" أصبح محورياً للنمط النخبوي
لمتابعة الأفلام المعروف باسم السينيفيليّا.
بدأت السينيفيليّا بالظهور منذ الخمسينيّات، وكان
الازدهار الكامل في الستينيّات بفضل نجاح الموجة
الجديدة في فرنسا، والخارج، وكذلك المناقشات الحيوية
في مجلات السينما
Positif
و
Cahiers du Cinéma
والمناقشات من قبل السينيفيليين الذي كانوا يلتقون،
ويتجمعون في صالة سينما ماك ماهون، وصالات السينما
الباريسية الأخرى.
وهنا، في هذه النقطة الأصلية المحتملة، هناك لحظات
أخرى يمكن للمرء أن يميزها على أنها أساسية، حيث تقدم
السينيفيليّا طبيعتها المزدوجة: هي ولعٌ بأشهر مخرجي
أفلام النوع من أكثر صناع السينما الوطنية شعبية، ومع
ذلك، السينيفيليّا تفعل ذلك بأسلوبٍ خاصّ جداً،
ونخبويّ في نفس الوقت، وغالباً ما يكون غير
منطقي/مخالفاً للحدس.
تعتبر السينيفيليّا في مظهرها الفرنسي في الستينيّات
ديموقراطية في الوقت الذي تتخذ شكلاً ثقافياً شعبياً
على محمل الجدّ، بينما تكون أيضاً أرستقراطية مغرورة
بنفسها عندما تحلّ محل التسلسلات الهرمية التقليدية،
حيث تقع السينما أسفل هذا الهرم، على حساب تفضيلات ذوق
جديدة، وعقائدية مماثلة.
بينما تميّز السينيفيليّا في شكلها الكلاسيكي بين
"المؤلفين"، و"المخرجين"
من حيث الإنتاج، ومن ناحية التلقي، بين أولئك الذين
يستطيعون تمييز بعض الفروق - وبالتحديد السينيفيليين -
وأولئك الذين لا يستطيعون ذلك.
لقد وضع بول ويليمين السينيفيليّا في السياق الثقافي
الفرنسي، مثل كولين ماككيب، ويضيف إلى الإشارات غير
المتنازع عليها لـ "سياسة المؤلفين" تأثيراً لمناقشاته
حول الفوتوجينية/جاذبية التصوير في العشرينيّات.
"علينا أولاً الإدراك أن السينيفيليّا مصطلحٌ فرنسي
يقع في عقلنةٍ معينة، أو محاولة تفسير لعلاقة بالسينما
المضمنة في الخطابات الثقافية الفرنسية، حيث يبدو لي
أن اللحظة المميزة في ذلك التاريخ هي جاذبية
التصوير/الفوتوجينية، فقد كانت جاذبية التصوير أول
محاولة كبرى لوضع نظرية العلاقة على الشاشة".
نظراً لأن هذه الخطابات الفرنسية سارت جنباً إلى جنبٍ
مع ثقافة سينمائية مزدهرة، ومشهود لها دولياً، فإن
ممارسة السينيفيليين الباريسيين من الخمسينيّات إلى
السبعينيّات يمكن أن تكتسب حالة كلاسيكية غالباً ما
يتمّ تجريدها في جوهرية الموضة لخصوصياتها التاريخية،
ويتمّ الخلط بينها، وبين الظاهرة في حدّ ذاتها.
على الرغم من الأصوات المُضادة، مثل أنيت ميكلسون التي
تُذكّرنا بأن السينيفيليّا ليس لها شكل مناسب واحد، بل
لها العديد من الأشكال وُفقاً لفتراتٍ تاريخية مختلفة،
لا تزال جاذبية النموذج الباريسي قوية جداً، ويثري
النقاشات المعاصرة بشكلٍ متكرر.
عندما أعلنت سوزان سونتاج موت السينما في عام 1996،
فقد كشفت في الواقع عدم توافق النموذج السينيفيلي
الكلاسيكي مع الحالة المعاصرة للسينما.
في مقالتها الشهيرة "اضمحلال السينما"، تبين أن ذروة
السينيفيليّا هي عندما كان السينيفيلي بوقتٍ كاملٍ
يسعى دائماً إلى العثور على مقعدٍ في أقرب مكانٍ ممكن
من الشاشة الكبيرة، من الناحية المثالية هو منتصف الصف
الثالث"، مع الحاضر الذي يصعب العثور فيه "على الأقل
بين الشباب، ذلك الحب السينيفيلي المميز للأفلام".
إن حبّ الأفلام غير كافٍ بالنسبة لسونتاج، ولكن، من
الضروري أيضاً "امتلاك ذوقٍ معين"، واستثماراتٍ مستمرة
في "ماضي السينما المجيد".
وهكذا، حتى في اختيارها للكلمات التي تبدو محايدة، فإن
سونتاج واضحة تماماً بشأن تفوّق الحركة السينيفيلية
التي يمكن إرجاعها إلى بيان تروفو حول "اتجاه معين
للسينما الفرنسيةّ".
تتمسك بذاكرة السينيفيليّة الكلاسيكية التي تتميز
بإصرار السينيفيليين المخلصين لتعقب، ومشاهدة الأفلام
النادرة المعروضة في دور عرض غير متوقعة، وغالباً ما
تكون متهالكة في جوٍّ منعزلٍ من المتعة الرفيعة.
إن التناقض بين الشكل المعاصر للسينيفيليّا مع هذه
الصورة الحنينية، لا ينتج عنه مراجعة لمفهومها عن
السينيفيليّا، ولكن، في إعلان وفاتها.
رأينا هو أنه منذ الثمانينيّات، حولت السينيفيليّا
نفسها، وفي الوقت الحاضر، يمارسها جيلٌ جديدٌ من
السينيفيليين الذين يسجلون، ويطورون أنماطاً جديدة من
المشاركة مع الوفرة المفرطة للمواد السينمائية المتاحة
على نطاق واسع من خلال التكنولوجيا المتقدمة.
لقد تركز جزءٌ كبيرٌ من النقاش العام الذي أعقب نعيّ
سونتاج لسينيفيليّا في الواقع على تأثير التقنيات
الجديدة، فقد خصصت المجلة الإلكترونية
Senses of Cinema
ملفاً لهذه المناقشة بعنوان "الأشباح الدائمة:
السينيفيليّا في عصر الإنترنت والفيديو" في 1999.
واحدةٌ
من أهمّ المعارضات التي دارت في النقاش هي "الخروج"
مقابل "البقاء في الداخل"، حيث تختلف الأحكام القيمية
فيما يتعلق بالسؤال عن الأمثلة المحددة التي تعتبر
ممارسة سينيفيلية.
إن جيل الشباب يميل إلى الدفاع عن تكنولوجيا الفيديو
المنزلي، والتعليم عبر الإنترنت كأداة ديمقراطية لا
تسمح فقط بوصولٍ عامّ عالمي غير مقيد إلى ثقافة
سينمائية، بل تمنحهم أيضاً التحكم بأفلامهم المفضلة.
ومن ناحيةٍ أخرى، يستاء نقاد الفيديو، والنسخ المُسربة
من إمكانيات التقديم السريع، والتوقف، يتحكمون بالنصوص
السينمائية المقدسة، ويشترطون لتكنولوجيا الفائقة،
وتجربة العرض الغامرة في الصالة
.
الاعتراف بأنّ التعارض بين "الخروج"، و"البقاء في" قد
يكون لا علاقة له بالظروف المعاصرة للسينيفيليين
وُفقاً لــ جوناثان روزنباوم، وأدريان مارتن في
كتابهما المشترك بعنوان
" Movie Mutations: The Changing Face
of World Cinephilia
"
وهو إصدار ٌحديثٌ، وهامٌ يضع بوضوح موضوع السينيفيليّا
على جدول الأعمال.
لقد صدرت هذه الدراسة بعد خمس سنواتٍ من المراسلات،
والتعاون بين نقاد السينما، وصانعي الأفلام، والتي
نُشرت النسخة الأولى منها في المجلة الفرنسية
Trafic
في عام 1997
حيث بدأ المشروع باعتباره "استكشافاً لما يشترك فيه
السينيفيليّون (وفي بعض الحالات صانعي الأفلام) في هذا
العالم، وما يمكنهم إنشاؤه، وتنشيطه، واستكشافه من
خلال الارتباط ببعضهم البعض بطرقٍ مختلفة".
وهكذا، كان من الممكن استبدال العنوان الفرعيّ "الوجه
المُتغير لسينيفيليا العالم" بـ "الواجهة المتغيرة
لسينيفيليّا العالم"، لأّن ما يُشجعه روزنباوم، ومارتن
هو نمطٌ جديدٌ عابرٌ للحدود للتفاعل بين السينيفيليين.
إن هذه التفاعلات ليست مستوحاة فقط من التقنيات
المنزلية الجديدة للفيديو، والإنترنت، وأقراص
DVD،
ولكنها تستحوذ اهتماماً أيضاً في المنتديات العالمية
مثل المهرجانات، والمؤتمرات السينمائية الدولية.
ينجح الكتاب في وصفٍ مقنع للروح السينيفيلية العالمية
الجديدة التي تتجاوز الفروق بين "البقاء"، و"الخروج"،
لكنها مخيبة للآمال باعتبارها تستحكم بالتسلسل الهرمي
للتذوّق المعياري.
يقدم " Movie Mutations:
The Changing Face of World Cinephilia
" تشكيلةُ من المتهمين/المشتبه بهم المعتادين في
تفضيلات السينما العالمية المعاصرة (الفن / الطليعة)
عباس كياروستامي، تساي مينج ليانغ، ونغ كار واي، جاك
ريفيت، جون كاسافيتس وآخرون.
كحال سونتاج، فإنّ روزنباوم، ومارتن لا يهتمان في
المقام الأول بوصف الظاهرة العالمية للمتعة السينمائية
في علاقاتها المتنوعة الغنية بالشاشة، لكنهما يتابعان
أجندة محددة لوضع "اتجاهات معينة" في عالم السينما
العالمي على أنها معيار جديد للسينيفيليّا.
كما يتضح من حقيقة أن هدفهما المفضل لديهما لا يزال
المهرجان السينمائي، فلا يزال مؤلفا " Movie Mutations:
The Changing Face of World Cinephilia
"يضعان رهانهما في صورة السيلولويد المُسقطة على شاشة
السينما، بينما نفضل أن ننظر إلى السينيفيليّا كمصطلح
شاملٍ لعددٍ من المؤثرات المختلفة المرتبطة بالصور
المتحركة.
لذلك، نحن أيضاً ننتقد بشدةٍ مصطلحات مثل
"الفيديوفيليا"، أو "التيليفيليا" لأنها تحلّ محلّ نوع
واحد فقط من خصوصية الوسيط بآخر (مما يعني أيضاً
تراتبية ذوق معينة).
بدلاً من ذلك، نفضل أن نكمل مفهومنا المنقح
للسينيفيليّا بمفهوم
videosyncrasy
لأننا نرى السينيفيليون اليوم يتحركون بسهولة بين
التقنيات، والمنصات، والمواقع الموضوعية المختلفة
بطريقة خاصة /متميزة جداً، ومع ذلك، تظلّ موصلة، ومرنة
بدرجةٍ كافية للسماح بتبادل التأثيرات، والأشياء،
والذكريات بين البعض، والبعض الآخر.
لم تكن مختارات مارتن، وروزنباوم هي العلامة الوحيدة
التي تشير إلى عودة السينيفيليّا كمفهوم، فقد شهدت
فرنسا_ موطن الأرثوذكسية السينمائية_ مؤخراً مساهمتين
في هذا المجال قطعتا شوطاً طويلاً نحو تجسيدٍ تطبيقيٍّ
كان لهما تأثيراً كبيراً في تشكيل ثقافة السينما:
مجموعة من المقالات من صفحات بؤرة السينيفيليّا
Cahiers du Cinéma,
تحدد أنشطة الجيل السابق، بينما اشتمل تأريخ انطوان
دي بك على التاريخ الواسع، ونظرية السينيفيليّا
الشاملة على الفترة الكلاسيكية، لكنه يتوقف تاريخياً
في أواخر الستينيّاّت، ونظرياً مع إدخال التكنولوجيا
الجديدة.
يُعدّ كلا الكتابين إضافاتٍ مهمة لفهم تاريخيّ
للسينيفيليّا، لكنهما لا يعالجان التحوّل الذي نريد
التركيز عليه.
تأخذ هذه المجموعة منعطفاً مختلفاً عن الأجندة النظرية
للفيلم الراسخة من خلال النظر إلى السينما المعاصرة في
حدّ ذاتها، والتحقيق في القضايا الناشئة عن الممارسات
غير الأكاديمية المختلفة التي تشكل أساليب جديدة لمحبة
الفيلم.
يهدف هذا الكتاب _ في النهاية_ إلى تصوّر فترة فاصلة،
وبذلك يقدم السينيفيليّا كمؤشر بحثيٍّ في المستقبل.
وتُعيد التطورات التكنولوجية الجديدة هذه العلاقة
الجدلية الأساسية للسينيفيليّا على عدة مستويات بينما
تضيف أيضاً أسّساً جديدة إلى المفهوم.
إن إعادة التفكير في السينيفيليّا على عدة أصعدة - وهو
المُحدِّد المشترك للأوراق التي تمّ جمعها في هذه
المختارات - هو مسعى مثمر، ويفتح آفاقاً نظرية،
وتاريخية جديدة.
مقدمة كتاب "السينيفيليّا، الأفلام، الحب، والذاكرة"،
تأليف: ماريجكي دي فالك، ومالت هاجنر، مطبوعات جامعة
أمستردام، عام 2005. |