"إنّ المشهد الافتتاحيّ في فيلم (World of Glory)
هو إعادة سردٍّ للأحداث الواقعة في أثناء الحرب
العالمية الثانية، وللأعمال الوحشية التي أُطلق عليها
اسم "التطهير العرقي"، لم يكن هذا المُصطلح مستخدماً
حينئذٍ، فقد كانت تلك الأعمال تُدعى "الحلّ النهائي"،
ولم يكن الهدف منها سوى القضاء على جماعات اليهود،
والغجر، والمثلييّن، والمُعارضين السياسيين، قُتل مئات
الأشخاص مختنقين بالغاز – من بين وسائل أخرى- في
شاحناتٍ مغلقة تعمل بمحركات الديزل، حيث يُطلق الغاز
داخل مقصورة التخزين عن طريق توصيل أنبوب من المحرك
إلى المقصورة، لم تكن تلك الشاحنات إلاّ البداية في
ظهور ما يُدعى غرفة الغاز".
رويّ أندرسون.
انطلاقًا من المشهد الافتتاحيّ في الفيلم القصير (World of glory/Härlig
är Jorden)
1991 للمخرج رويّ أندرسون، يلقي المقال نظرةً عامة على
الجماليات السياسية في أفلام أندرسون كما أشار إليها
في كتابه الصادر بعنوان الخوف من الجدية في عصرنا
الحالي (Vår
tids rädsla för allvar)،
يسعى أندرسون نحو التأمل، والتفكُّر في المسائل
الوجودية مثل التكافل، ومسؤولية الأفراد مستخدماً في
ذلك اللقطات الثابتة الطويلة، وتكثيف الزمن، والحيِّز،
ففي هذا المشهد الافتتاحيّ من فيلم
World of Glory،
يربط أندرسون بين هذه الأفكار، وبين الانتقاد الموجَّه
إلى سلبية السويد تجاه محرقة اليهود (الهولوكست).
يُعدّ حتماً المشهد الافتتاحيّ في الفيلم القصير
World of Glory
(1991) للمخرج السويدي رويّ أندرسون من أكثر المشاهد
قسوة في تاريخ السينما، حيث يحتوي على مجموعة من
الرجال، والنساء، والأطفال العراة الذين يُزجّ بهم إلى
داخل شاحنة حتى يتمّ تسميمهم بالغاز على مرأى جمعٍ من
المتفرجين الساكنين بلا حراك، ورغم لجوء المخرجين
الآخرين إلى إحداث صدماتٍ للمُشاهد من خلال استخدام
اللقطات القريبة، إلاّ أنّ أندرسون عرض لنا مشهداً
عبارة عن صورةٍ ثابتة في لقطةٍ واحدة طويلة، وأستطيع
القول أنّ هذا المشهد يضمّ إجمالاً الجماليات السياسية
لدى أندرسون.
في سياق المقولة الشهيرة للمخرج جودار الذي يرى أنّ
كلّ زاوية تتخذها الكاميرا هي بيان ذي مغزى، يُفصح
أندرسون عن جمالياته، (ومبادئه) السياسية في كتابه
الخوف من الجدية في عصرنا الحالي (1995/2009) حيث يطرح
مفهومه حول ما يُسمّيه لغة الصورة المركبة، سيراً على
نهج أندريه بازان، يدافع أندرسون عن اللقطة الطويلة
بوصفها وسيلة لتموضع الصورة، وتجسيدها، ففي
World of Glory،
لم يستخدم المخرج أيّ لقطاتٍ قريبة لتمييز الضحايا، أو
استدرار تعاطف المشاهدين، ولم يستخدم كذلك المونتاج،
أو زوايا الكاميرا المختلفة، وإنما أتاح للمُشاهد
الفرصة لتحليل الصورة بعينه الناقدة، وفي أثناء توصيل
أنبوب الغاز بمقصورة التخزين، يلتفت أحد الحاضرين لهذا
المشهد لكي ينظر بزاويةٍ منحرفة إلى حيث توجد
الكاميرا، ومباشرة في عين مُشاهد الفيلم، نستطيع القول
أنّ نظره كان موجّهًا نحو الجمهور كما لو كان يتساءل
عن مدى
مسؤوليته، ومسؤولية الآخرين الأخلاقية تجاه فعل القتل
الذي يشهدون حدوثه، ونتذكر هنا المقال النقدي الذي
كتبته جيليان روز (Gillian Rose)
عام 1996 عن فيلم قائمة شندلر (Schindler List)
1993 للمخرج ستيفن سبيلبرج (Stephen
Spielberg)،
حيث تسببت النزعة العاطفية التي يحويها ذلك المقال في
إثارة مزيد من الشكوك لدى رويّ أندرسون، فقد اقترحت
روز في المقال أنّ أيّ فيلم يجب أن يهدف إلى تعريف
الجمهور بالضحايا، وبالجناة معاً، لا بدّ أن يسأل
المُشاهد نفسه هنا: "ماذا يمكنني عمله عوضاً عن ذلك؟"
ونحن نرى أنّ تكوين المشهد في
World of Glory
إلى جانب انعدام النزعة العاطفية به، يدفع بالجمهور
دفعاً نحو التأمل، والتفكّر في المشاهد من منظورهم
الخاص، أو كما قال أندرسون في كتابه الخوف من الجدية
في عصرنا الحالي:
"كيف يمكننا التعامل مع هذا الإدراك، والمعرفة بقدرات
البشر؟ هل يمكن التملّص من تلك المعرفة؟ هل يمكن
الحيلولة دون حدوثها مرة أخرى؟ كيف يمكن أن تحدث؟ هل
نستطيع فهم السبب في ذلك؟ ولماذا يصرّ التاريخ على
تكرار نفسه؟"
(أندرسون
2010: 276)
استخدم أندرسون تكثيف
الزمن، والحيّز كوسيلة أخرى لطرح تلك الأسئلة،
وتداولها، حيث يلمح أسلوب القتل إلى محرقة اليهود
(الهولوكست)، ويشير ضمناً إلى الاحتلال الألماني
لأوروبا الشرقية خلال الأربعينيّات عندما استخدم
النازيون مركبات الغاز لقتل الناس في بولندا، والاتحاد
السوفييتي، لكن يرتدي الحضور في هذا المشهد ملابس
عصرية، بالأحرى ملابس رسمية لا تعود لفترة زمنية محددة
(إذا ارتدى الممثلون زيّاً موحداً، فقد يؤدي ذلك إلى
انعزال المشاهدين بسهولة عنهم، كما قال أندرسون)، رغم
أننا نستطيع رؤية مباني متعددة الطوابق في خلفية
المشهد، تحصر هذه المفارقة التاريخية طبقاتٍ زمنية
مختلفة داخل صورة واحدة، وتحوّل الحيّز السينمائي إلى
حيّزٍ اجتماعيٍّ يخيِّم عليه الخطاب السياسي،
والتاريخي، ومع ذلك، وعلى عكس الواقعية الجديدة، يخضع
الحيز في أفلام أندرسون اللاحقة على سبيل المثال إلى
نمطٍ معين متصدياً لأيّ مفهوم من مفاهيم الواقعية
الاجتماعية، وأستطيع القول أنّ استخدام أندرسون للحيّز
يُعدّ بمثابة وسيلة تغريب
[i]لمواجهة
الوهم، والخداعية، وتنشيط الوعيّ لدى المُشاهد، يستخدم
أندرسون هذه التقنية لكي يستمر في انتقاده للسلبية
السويدية، ونزعة معاداة الفكر، وانعدام الوعيّ
التاريخي الذي يخيِّم على المجتمع السويدي المعاصر،
وبالتالي أصبح أندرسون أحد المنظمين في معرض السويد،
والهولوكست (2005-2006)، الذي استعرض سلبية السويد
تجاه الهولوكست، وطبقاً لأندرسون، لا يزال الوضع،
متمثلاً في فكرة الإنسان الأعلى، وعدم تحمُّل
المسؤولية الناجمة عن القرارات التي يتخذها المرء،
والخوف من الجدية، وتحقير الأشخاص، الذي أدى إلى حدوث
الهولوكست، مستشرياً في وقتنا الحالي مع تراجع حالة
الرفاهية، ومُثلها العليا المتمثلة في التكافل، والدعم
المتبادل، في الوقت الذي يتردد فيه تصريح إيلي ويزيل
بأنّ الكراهية ليست نقيض الحب، وإنما نقيض الحب هو
اللامبالاة، فإنّ جماليات أندرسون مستوحاة أيضاً من
فلسفة الحوار لدى مارتن بوبر، لا سيما يحدد بوبر في
كتابه أنا وأنت (I and Thou)
1923 (بوبر 2005) كيف نرتبط بالآخرين، إما عن طريق
اعتبارهم أهداف (فكرة نفعية نجدها في النظم الاجتماعية
الأكثر تنوعاً، سواء كانت قومية اشتراكية، أو رأسمالية
متأخرة)، أو كمواطنين لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس
الالتزامات، كما يلخص المشهد الفلسفة الوجودية التي
بموجبها يتحمّل كلّ فردٍ مسؤولية قراراته، وبالتالي،
لا تنبع قسوة المشهد من الأثر الصادم نتيجة توليف
اللقطات لإحداث ذلك الأثر، ولكن، من شعور الجمهور
الغريب عندما أصبح واضحاً أنّ الفيلم لا يقدم أيّ
تعليماتٍ بشأن ما يجب اعتقاده، لا يفسر الفيلم، أو
يحلّل موضوعه: "وهذا التعقيد هو بالضبط ما يبدو أنّ
الناس في العصر الحديث يخافون منه: التجربة باقية، لا
يمكن للمرء أن يتركها وراءه" (أندرسون 2010: 277).
وهكذا، يظل فيلم
World of Glory
هو مشروع إرساء الجماليات السياسية
الذي أطلقه أندرسون في عام 1987 في أثناء تحضيره لفيلم
شيء ما حدث (Någonting
har hänt/Something
Happened)
لعام 1993، نستطيع إيجاد هذه الجماليات، مثل الاستخدام
المُتقن للصوت، ونظام الألوان الباهتة، وصياغة خلفية
المشهد بأسلوبٍ معين، في أفلام أندرسون الطويلة((Songs
from the Second Floor/Sånger från andra våningen
في عام 2000 و(You, the Living/ Du levande)
في عام 2007، وكذلك –على سبيل المفارقة- أصبح الكثير
من تلك الجماليات السياسية في إعلانات أندرسون
التجارية من الكلاسيكيات التي تحظى بإعجاب المشاهدين.
______________________________________
[i]
أحد المفاهيم في الفنون الأدائية، صاغه
الكاتب المسرحي برتولت بريخت، متمثلاً في
الحيلولة دون اندماج الجمهور تمامًا في القصة
السردية، وتحويله عوضًا عن ذلك إلى ناقد واعٍ،
وذي قدرة عالية على الملاحظة.
·
هذا النصّ هو ملخص دراسة كتبها داغمار
برونو من جامعة هالمستاد/جامعة هامبورغ.
|