في أدبيّات الثقافة السينمائية, نُميّز الأفلام من
خلال أطوالها, ونوعيّتها, روائية, أو تسجيلية, ولكن,
بدءاً من فيلمي(عرفتُ الشمس جيداً)/1989, تخيّرتُ بأن
أُسمّي بعض أفلامي (قصائد سينمائية), وذلك لابتعادها
عن الحكاية التقليدية المُستخدمة في السينما, وقد
تعمّدت التفريق بين اللقطات, بدل تجميعها, عندما نقرأ
(قصيدةً شعريةً) مكتوبة, يُراود مخيلتنا صوراً مُتفرقة
لا يربطها منطقاً حكائياًّ, لأنّ الشعراء لا يحكون,
إنهم بالأحرى, يُجسّدون حالات شعورية من خلال صور
ذهنية مُتفرقة, ومُتباعدة.
يمكنني القول, بأنّ معظم الإنتاجات السينمائية مُرتكزة
على مسرحة الأحداث, ولكنّ (الفيلم الشعريّ) يبتعد
كثيراً عن هذا الميراث.
منذ نشأتها, اعتمدت السينما على المسرح, ومن ثمّ
الحكاية, والمبدأ الأرسطيّ في السردّ, حكايةُ مليئةٌ
بالشخصيات, والصراعات.
في أفلامي الشعرية, تنتفي الحكاية, وتضمحل الصراعات
النفسية, وما نراه على الشاشة, هي بمثابة نماذج, أكثر
منها شخصيات مُتجسّدة.
الجانب الثاني الذي يحدّد اختياراتي الأسلوبية في
(القصيدة السينمائية), هو شكلانيّ بحتّ.
لقد أحببتُ, وتأثرتُ بكلّ شعراء السينما الذين نعرفهم
: تاركوفسكي, بارادجانوف, بيليشيّان,.. وأيضاً,
كوباخيدزة,..
ومن الغرب: فيلليني, وبازوليني, ..تلك الأفلام التي
ابتعدت عن الواقعية الإيطالية الجديدة, وهؤلاء أثروا
بي شكلا,ً ومضموناً.
ولن أنسى دور برغمان في تحطيم البناء الحكائيّ
التقليديّ, مع أنّه استخدم الشكل المسرحيّ للحكاية,
هذا التحطيم الذي يصل إلى السينما الشعرية من خلال
الأحلام, والكوابيس.
لقد وصلتُ بعد هؤلاء, وامتلكت جرأة التجريب, والاقتراب
من شكلّ سينمائيّ مُغايرّ.
أعرفُ بأنّ هذا الأسلوب لا يتماشى مع الأفلام الطويلة,
لخضوعها لاعتبارات تسويقية, ولكن, أيضاً لأسباب
أسلوبية.
تكتسبُ أفلامي الشعرية أهميتها من عمقها, وليس من
أطوالها الزمنية.
على أيّ حال, لقد حاولتُ إنجاز أفلام تقترب من السينما
التي أؤمن بها, وقد سمحت لي هذه الطريقة, بأن أكون
حراُ, وذلك باستخدام, واكتشاف جغرافيات سينمائية
مختلفة.
في الحقيقة, إنني لا أُمنتج أفلامي بطريقة تقليدية,
ولكن, أستخدم مونتاجاً تحدث عنه بيليشيّان, ومارسه
بريخت في المسرح, ويعتمد على التفريق, بدل التركيب,
والتجميع, بالنسبة لي, لقطةٌ بجانب أُخرى لا تخلق
معنى, وإنما فضاءً مغناطيسياً من المعلومات,
والإشارات, والصور, والأحاسيس, هي بمثابة الدخول إلى
عوالم مجهولة, أو ارتياد طرق لا نعرف إلى أين
تقودنا,..
الشاعر لا يشرح قصيدته, وفي بعض الحالات, لا نفهم
القصيدة من الوهلة الأولى, ولكننا نحسّها, اللغة
السينمائية ليست (الفنّ السابع) كما نُطلق عليها,
سميّناها كذلك, لأنها وصلت بعد الفنون الأخرى, عندما
أصبح إنتاج الحركة تقنياً, وميكانيكياً مُمكناً,
ولكنّ السينما وُجدت في عقول الناس, وأذهانهم منذ
القدم, منذ الإنسان الأول الذي عاش في الكهوف, ورسم
على جدرانها ـ عرضاً, وإسقاطاً ـ للفنتازيا, والرؤى,
والخوف, والذعر, والتساؤلات.
الفيلم, هو بمثابة رؤية للعالم الذي نقترحه, ولتجسيد
ذلك, كان من المُفترض المرور عن طريق الصورة, ومن ثمّ
الصوت, وكان علينا الانتظار حتى اختراع التقنيات التي
تُسّجل الحركة, وتعرضها على الشاشة, ومن ثمّ اكتشاف
الصوت, ليُواكب الصورة.
لستُ مخرجاً تثاقفياً, لقد وُلدت أفلامي من أحاسيسي
الداخلية, أعرفُ بشكلّ, أو بآخر, بأنّ ذلك ليس سهلاً.
وأعرف بأنني أعيش في بلدّ عقلانيّ(فرنسا), على الرغم
من ثراء الفنون فيها, ولكننا في مناخ تجاريّ لسينما
تعتمد على قواعد اقتصادية مُحددة.
هناك شئ آخر ساعدني, ميراثي من الثقافة الأرمينية, حيث
الشعر حاضر جداً في المدارس, والحياة بشكلّ عام,
وأيضاً اللغة المجازية, والإستعارية.
لم أتعمّد إنجاز أفلام مُغايرة عن الأفلام التقليدية,
ولكن, إذا لم يستمع أيّ فنان إلى ضرورة حاجاته
الداخلية, لن يستطيع تقديم أشكال جديدة, يجب أن يمتلك
الجرأة ليضيع هو نفسه.
السينما الشعرية, هي ـ ربما ـ تجسيدُ عقليّ أكثر عمقاً
من السينما النفسية, السينما في الحالات الطبيعية,
يجلس المتفرج في صالة معتمة يتابع حكايةً ما.
ولكني لم أفكر بالمتفرج في البداية, ولم أرغب بتقديم
تنازلات ترضيه, بأن أكون مفهوماً مباشرةً.
لا مكان للشعر في الأدب حالياً, ماعدا ما ندرسه في
المدارس: بودلير, رامبو, مالارميه,.. إذّ لا تُسلط
الأضواء على شعراء اليوم, إنهم يعيشون في الظلّ.
في الحقيقة, أعتقد بأن الثقافة في البلدان الاشتراكية
مطبوعةً بالغنائية, مثل أفلام (سيرغي بارداجانوف).
ولكنّ السينما الشعرية ليست حكراً على الشرق, أو
الغرب, هي إنسانيةٌ بشكلّ عامّ.
أعتبر الابتعاد عن الحكاية التقليدية, وكل العناصر
المُتعلقة بالخير, والشرّ, نوعاً من المقاومة, في
أفلامي لا نجد كلّ هذا, ولكن, اختيار حالة نفسية.
شرائط السينماتوغراف, والتي سجلت الصور الأولى, تحمل
في طيّاتها الشعر(وصول القطار إلى المحطة للأخوين
لوميّير) مثلا,ً تتضمن تلك الأفلام إخراجا,ً إذاً,
وجهات نظر.
في أفلامي, نجد دائماً علاقةً ما مع الطبيعة,
والديكور, الذي يُذكرنا بالمسرح, لأنني أحاول الهروب
من الحكاية التقليدية..
السينما اليابانية مطبوعة بالشعر أيضاً, مثل الرسومات,
في علاقتها مع الطبيعة, إنها في وضع إحالة, عن إظهار
كلّ شئ كما هو, في حالة الفيلم التقليديّ, المتفرج في
حالة سالبة, وأنا بحاجة لأن يكون إيجابياً.
اليوم, تستعيد السينما شعريتها من خلال طرائق تقنية,
وتبحث على تحويل الواقع, كالأفلام التحريكية, وأفلام
الخيال العلمي, فيها نجد شعريةً للمجهول, للكابوس,
تجسيد شكل للماء في فيلم
ABYSS
(جيمس كاميرون 1989) على سبيل المثال.
(أرضٌ مهجورة)/1998, و(ضوءٌ أبديّ)/1999 هما اقتراب
غنائيٌّ من التراجيديا, في الحقيقة, أخاف من شعرية
الكارثة في هذيّن الفيلمين, ولكن, هناك محاولةٌ لتقريب
الفيلم من المتفرج, وجعل الغير قابل للاحتمال محتمل
المشاهدة, وأيضاً, هناك الموسيقى المُصاحب وللصور, أو
الصور المُصاحبة للموسيقى, اللقاء بين قوة الصورة, و
قوة الصوت, هناك الاثنين.
الموسيقى تحمل الصورة, وليست الصورة التي تحمل الصوت,
إذاً, هذا التغريب يسمح للمتفرج بأن يشاهد ما هو عسير
على المشاهدة.
فيلم (خطّ حياة)/2002 يحكي حكاية, ولكن, إنجازها مع
ممثلين, تقدم نتيجةً كارثية فنياً, ومن الممكن أن
يدخلنا الفيلم في حالة غير محتملة, لهذا تخيرتُ إنجازه
مع لوحات تشكيلية, محاولةً مني بتغريبه عن المتفرج,
وهو ما يدفعني للتساؤل : كيف يمكن لنا معالجة العنف,
والملل في السينما, بدون ارتكاب جرائم حقيقية, وإراقة
الدماء, أو حثّ المتفرج على النوم خلال عرض الفيلم, من
المهم إيجاد حالو من التغريب, أو المسافة مع المتفرج.
في أيّ مكان نضع فيه الكاميرا, هي خطوةُ للتعبير عن
وجهة نظرنا حول الأشياء, والعالم المحيط بنا, ومن ثمّ,
هناك المسافة العامّة مع الفيلم, والتي تتجسّد من خلال
المونتاج, البناء, والتحطيم, في الحقيقة, السينما ليست
سهلة, لأنها تجمع عناصر كثيرة, الزمان داخل الفيلم,
وخارجه, في عشرة دقائق يمكن أن يعبر فيلم تاريخاً
طويلاً, ومن ثمّ الإيقاع في الفيلم نفسه, بدون أن
ننسى الوقت الحقيقيّ للمشاهدة, وكلّ هذه الأزمنة
تتصارع, وتتفاعل فيما بينها, لتخلق لنا ما نُسميه
مشاهدةً فيلمية.
_______________________________
*سيرج أفيديكيان:
وُلد
عام 1955 في إيرفان، أرمينيا.
درس في مدرسة الدراما في مودون، باريس 1971.
عمل مع طلاب مدرسة باريس
للدراما .
عمل في العديد من المسرحيات الكلاسيكية,
والمعاصرة.
في سنة 1976، أسّس شركته المسرحية، وأخرج عدّة
مسرحيات.
في
سنة 1982، بدأ في إخراج أفلام تسجيلية، بينما ما يزال
يمثّل.
في سنة 1988،
أسّس شركته الإنتاجية، ويواصل إخراج أفلامه الخاصة -
لا يزال يمثل للمسرح،
والسينما، والتلفزيون .