على الشاطئ المهجور، في بداية الفيلم، يأتي الموت نفسه
متجسداً في هيئة بشرية، بوجه شاحب وعباءة سوداء. هو
هادئ، صارم، متجهم. ولا يصبح مرئياً إلا لمن هو على
وشك الموت. إنه يأتي ليأخذ الفارس معه، يقول له: لقد
حان الوقت. فيسأله: من أنت؟/ أنا الموت/ هل أتيت
لأجلي؟/ كنت أسير إلى جانبك منذ وقت طويل/ أعرف ذلك/
هل أنت مستعد؟/ جسدي خائف، لكنني لست كذلك./ ليس في
الأمر ما يثير الخجل.
الفارس، في محاولة منه لتغيير مصيره، لتأجيل موته،
لكسب بعض الوقت، يتحداه في مباراة مصيرية في لعبة
شطرنج، عارفاً أن الموت يحب الشطرنج، وعندما يسأله
الموت: كيف عرفت؟ يجيب: رأيت ذلك في إحدى اللوحات.
على الشاطئ يلعب الفارس الشطرنج مع الموت، في مباراة
إذا فاز فيها فسوف يرجئ موته، هو والمقرّبين إليه.
في مواجهة الطاعون، أو الموت الأسود، تتعدّد مواقف
الناس وتتفاوت، بين من يقبل واقع الوباء في استسلام
وسلبية مقتنعاً بأن ذلك عقاب إلهي، ومن يندم على ما
اقترفه من خطايا طالباً المغفرة، ومن يبحث عن كبش فداء
يحمّله مسؤولية ما حدث فيتهم فتاة بريئة بالسحر
والشعوذة. وثمة شخصيات أخرى تتسم بالأنانية والخبث
والجشع والشهوة إلى المال والمتع الحسّية.
الفارس ومرافقه يصادفان نماذج متعدّدة من الأشخاص
الذين يحاولون الإفلات من الوباء: الحدّاد وزوجته
الضالة، الخادمة البكماء، جوف وزوجته ميا (بيبي
أندرسون) اللذان يحاولان من خلال أغانيهما بعث الأمل
في النفوس اليائسة. إن مرحهما وسعادتهما وتفاؤلهما،
وسط كل هذا الموت والبؤس واليأس والمعاناة، يلفت نظر
الفارس ويذهله.
وسط كل هذا الجنون والشقاء والآلام، لا يرى الفارس
رحمةً ولا شفقة، لا صفاء ولا نقاوة، والمحبة معدومة.
صور الموت مبثوثة في كل مكان. في أحد المشاهد، يقترب
الفارس من الساحرة التي على وشك أن تُحرق، والتي أقامت
علاقة جنسية مع الشيطان، يطلب منها أن تعرّفه على
الشيطان، مبرراً ذلك بقوله: أريد أن أسأله عن الله، هو
الوحيد الذي يعرف.
الموت هنا لا يتّسم بالنزاهة، فهو يلجأ إلى الحيل
رغبةً منه في معرفة استراتيجية خصمه في اللعب، ويتنكر
في هيئات أخرى. يكشف نفسه أمام جوف، لكنه يخفي نفسه
أمام الزوجة التي لا ترى إلا الفارس وحده أمام بيادق
الشطرنج.
الفارس ينجح في اجتراح فعلٍ ذي مغزى ودلالة: إنه ينقذ
جوف وميا وطفلهما الرضيع.. هذه العائلة التي يسود بين
أفرادها الحب والإيمان طوال الوقت، ومن أجلهم يضحي
الفارس بحياته. إن إيماءة بلوك تخوّله لأن يواجه الموت
في استسلام. إذ أنه يخسر المباراة، لكنه ينجح في إلهاء
الموت فترة تتيح للعائلة الابتعاد عن المكان والنجاة.
الفارس يعود إلى قصره، وبالكاد يتعرّف على زوجته بعد
هذا الغياب الطويل. لكن الموت يأتي ليقاطع العشاء
الأخير، وليطالب بأرواح جميع الحاضرين.
في المشهد الختامي، نرى جوف وميا يلهوان مع ابنهما على
سفح التل. جوف يشاهد بلوك والآخرين، متشابكي الأيدي،
فيما يؤدون رقصة الموت، وهم يبتعدون نحو الأفق الأجرد
المظلم، ويختفون.. في إعادة صياغة للرؤيا التي منها
يأتي عنوان الفيلم. يقول جوف أن المطر سوف يغسل وجوههم
ويمسح الدموع المالحة، السائلة على خدودهم.
في ما يتعلّق بهذه العائلة الصغيرة، نلاحظ أن جوف
تصغير لجوزيف، وميا تصغير لماري أو مريم، وابنهما
ميكايل (المسيح). لكن على الرغم من هذا التماثل، إلا
أنهم لا يمثلون العائلة المقدسة. في أحد المشاهد، جوف،
الذي لديه القدرة على رؤية القديسين والملائكة، كما
يرى الموت وهو يلعب الشطرنج مع الفارس، يرى العذراء
نفسها وهي تسير مع ابنها في الحقل.
بيرغمان صرّح بأنه يتماهى مع الممثل والمغني الساذج،
البسيط جوف أكثر من المفكر المعذَب بلوك أو تابعه
الواقعي. يقول (في حوار معه في مايو 2002): “ليس ثمة
تعقيدات عصابية بين الفارس وتابعه. كما إني غرست في
شخصيّتي جوف وميا شيئاً كان مهماً جداً بالنسبة لي:
مفهوم قداسة الكائن الإنساني. إذا أنت قشّرت طبقات عدة
نظريات لاهوتية، فإن المقدّس هو ما يبقى دائماً”.
ثمة ما يميّز الفنان جوف: لديه رؤى تتخطى الإدراك
الحسي اليومي. يمتلك قدرة على رؤية أشياء لا يراها أحد
غيره. زوجته ترتاب في الأمر لأنها لا ترى شيئاً لكنها
لا توبخه. بسبب ذلك يعتبرونه مدمناً على الكذب.
جزء من عمله أن يوصّل هذه الرؤى في شكلٍ ممكن فهمه أو
إدراكه، إلى الأقل قدرة على الإدراك أو التبصّر.. أي
زوجته ميا. وميا المحبة لزوجها تميل إلى الشك، لذلك هي
تتوقع مصيراً مؤلماً للفنان الذي سوف يعاني من عدم
استعداد الناس للتسامح واحتمال التجربة الرؤيوية،
فيواجهونها باللامبالاة أو العداوة.. وهذا ما يصادفه
جوف من سخرية عندما يقدّم عرضاً في الهواء الطلق،
وعندما يجبرونه في الحانة على تقليد حركات الدب
المحاصَر.
نموذج الفنان هذا سوف يستمر بيرغمان في سبر المظهر
المزدوج له – بوصفه رائياً ومنبوذاً – في عدد من
أفلامه اللاحقة، مثل: الساحر، ساعة الذئب، الطقوس.
الفيلم من الأعمال الكلاسيكية العظيمة، ومن العلامات
المضيئة في مسيرة بيرغمان.. وهو يتّسم بشعرية بصرية.
وقد حاز على جائزة في مهرجان كان 1957.
كان بيرغمان في التاسعة والثلاثين من عمره عندما حقّق
هذا الفيلم، وكان يعاني من قرحة المعدة التي كثيراً ما
توقظه من نومه، في الساعات المبكرة، لما تسبّبه من
آلام فظيعة. أثناء إنجاز الفيلم كان خوفه من الموت
غامراً. وقد سمّى هذا الخوف “تعلّقاً طفولياً”، على
الرغم من احتمال أن يكون ذلك نتيجة حتمية لطفولة قضاها
وهو يشهد المئات من الجنازات مع والده. وعن هذا قال
بيرغمان: “شعرت بأني على اتصال مع الموت ليلاً
ونهاراً، وخوفي كان شديداً وهائلاً”.
وهو يؤكد أن فيلم “الختم السابع” كان “دواءً ناجعاً”،
وأنه ساعده في التغلب على انشغال باله بالموت.
الفيلم رؤيوي، وله بُعد وجودي.. إنه الفيلم الذي يحفر
عميقاً في الأسئلة الجوهرية عن الوجود والموت. نحن
أمام الوباء والموت الجماعي، الفزع الوجودي، رعب العيش
في ظل الموت، المخاوف من نهاية العالم. بيرغمان هنا
يقدّم تأملاته في مسألة الإيمان والشك. ويطرح أسئلة
فلسفية، دينية، ميتافيزيقية، أخلاقية.. مستخدماً القصة
كذريعة لاستنطاق الوجود الإنساني.
يقول في كتابه “صور” (1995): “الختم السابع هو بلا ريب
أحد أفلامي الأخيرة التي تُظهر مفاهيمي بشأن الإيمان،
هذه المفاهيم التي ورثتها من أبي، وحملتها معي منذ
الطفولة”
الفيلم، في جوهره، ليس عن الموت أو حتميته، بقدر ما هو
عن الوسيلة التي يتعامل بها الناس مع الموت، أو
يتخيلون الموت. لعبة الشطرنج تصبح رمزاً لمدى أهمية
الصراع الشخصي، الذاتي، لإيجاد معنى إزاء الموت.
أغلب مشاهد الفيلم تدور في مواقع خارجية، لكنها مواقع
غير طبيعية، غير واقعية. التباين البالغ، والصارخ،
للتصوير بالأسود والأبيض، يخلق بيئة بصرية تعبيرية. |