رهان
مرّة، في مقتبل العمر، أي في بداية السبعينيات، عمر
البراءة والحماسة والأمل المفرط، راهن جيلي على
إمكانية تغيير الواقع وتحويل المجتمع، عبر الثورة
الاجتماعية والثقافية، وذلك في غضون فترة بسيطة.
لكن سرعان ما اكتشفنا أنه رهان خاسر. بعدها لم يفكر
جيلي في المراهنة على أي صعيد.. ذاتي أو موضوعي.. أو
هكذا أحسب.
كان لدينا حلم، تغذّى بالوهم، حتى فتكت به الهزيمة.
هبات
أؤمن أن علينا قبول ما تهبه الحياة لنا.. حتى الأشياء
القليلة أو الصغيرة أو البسيطة.
لا بأس في أن تطلب المزيد، لكن اقبل القليل: لحظات
فرح، لقاءات عابرة حافلة بالعذوبة، رائحة زهرة، ثمار
شهية، مصادفات حلوة، مداعبات طفولية.. وأشياء من هذا
القبيل.
دع قطرات الندى تبلّل وجهك لتعرف كم هي ثمينة وكريمة
هذه الحياة.
العناصر وتحولاتها
لكل عنصر في الطبيعة حضوره المميّز، وفرادته، ودلالته،
وصوته الخاص، وجوّه الخاص، وتحولاته، ومعناه الخفي
المتغيّر الذي يختلف جذرياً عن معناه المألوف
والمتعارف عليه.
كل عنصر من عناصر الطبيعة، ما إن يدخل في النص، حتى
يكتسب معنى آخر، بعداً آخر، كينونة أخرى. على سبيل
المثال، الشجرة – في النص - لا تعود هي الشجرة التي
نراها ونعرفها في الواقع، بل ربما تحرز حضوراً
مختلفاً، وتوحي بشيء غير متوقّع. أيضاً البحر.. إنه،
عند شاعر مثل سان جون بيرس، يركض عبر الغرف.
لذّة المطر
أحب المطر كثيراً. أشعر بالطمأنينة في حضوره، بالراحة،
بالانتعاش. أحب أن اتمشى تحت المطر إن كان رذاذاً، أما
إذا هطل غزيراً فإني ابتعد عنه واحتمي بمظلة أو ما
شابه. واكتفي بمراقبته من بعيد وهو يهطل.. وفي داخلي
أهفو إلى حوار جدّي معه.
المدينة
المدينة الأجمل هي تلك القاطنة في نصوصي، تلك التي من
نسج الواقع (أو الطبيعة) والحلم والخيال، تلك التي
أجوب طرقاتها وساحاتها وحقولها بحريّة ورشاقة تستعصي
على الوصف، تلك التي لا يحكمها منطق أو قانون أو بُنى
غير التي تستدعيها مادة العمل، تلك التي أعبر تخومها
بلا إذن ولا تصريح، حيث أكون الخالق (أو اللاعب أو
الحاوي.. سمّني ما شئت) والمخلوق في آن.
خارجيا، لكل مدينة جمالها وقبحها، فضائلها ورذائلها،
وداعتها وعنفها.. ذلك لأن المدن، كما الحال مع
الإنسان، نتاج الصدفة والضرورة.
لو كان الأمر بيدي لطحنت المدن برحى الخلق، ومن عجين
الحجر والسماد والخشب صنعتُ المدن الأجمل، الجديرة
بالمديح.
ضرورة الضحك
يقولون أن الكوميديا آلية دفاعية ضد الألم، وأنا أتفق
مع هذا المفهوم. من دون هذه الآلية نصبح في مرمى
الكآبة واليأس والتشاؤمية التي يفرزها الواقع عبر كل
ما يحدث من حولنا وفي محيطنا. الواقع يزداد سوءاً
وتوحشاً، ولا حصانة لنا ولا دفاع إلا بالدعابة،
بالضحك.
ربما أتمتع بشيء من حس الدعابة، وأقدر أن أتفاعل مع
الموقف الفكاهي واستجيب للنكتة، لكنني يقيناً لست
شخصاً مضحكا، من النوع الذي يجيد إلقاء النكت. أحسد
الظرفاء، القادرين على إضحاكنا، ليس فقط بأحاديثهم
المرحة، وحكاياتهم ونوادرهم، بل حتى بمجرد إيماءة أو
إشارة.
في حياتنا اليومية، هناك الكثير من القسوة والعنف
والحزن. ونحن بحاجة ماسة إلى أولئك الذين يضحكوننا أو
يجعلوننا نبتسم. وجودهم بيننا ضروري. إنهم يجعلون
الحياة أكثر احتمالاً وأكثر قابلية للعيش.
حوار الأزمنة
حواري مع الشباب.. حوار بين ماضٍ (لم يعد يمتلك أي
حصانة) ومستقبلٍ (يتدرّع بالمجهول) في حاضر (يزداد
التباساً يوماً بعد يوم).
هويّة المنتج
شخصياً، عندما أقرأ الرواية، لا تعنيني كثيراً جنسية
أو هوية كاتب الرواية. أن يكون منتج العمل رجلاً أو
امرأة فذلك أمر هامشي، غير مؤثر، في طريقة قراءتي
للعمل، أو تفاعلي معه، أو في تقييمي له. ولا أعتقد أن
التحيّز العاطفي أو الاجتماعي وارد في هذا المجال. إن
ما يعنيني، في المقام الأول، هو مدى عمق الرواية،
جدّتها، حساسيتها الجمالية، أبعادها الرؤيوية، لغتها،
وإلى أي حد هي تلامس الشغاف.
لا شك أن السنوات الأخيرة، في عدد من الأقطار العربية،
شهدت طفرة في توجه المرأة إلى الرواية للتعبير عن
دواخلها أو واقعها الاجتماعي والسياسي.. هذه الطفرة قد
تثري المناخ الثقافي أو تسيء إليه بشكل من الأشكال.
لكن هذا لا يهمني (فلست ناقدا ولا باحثاً)، إن ما يثير
اهتمامي حقاً هو أن أقرأ رواية جميلة وعميقة وممتعة،
بغض النظر عن هوية كاتبه.. أما الأشياء الأخرى فهي
هامشية، عرَضية، زائلة.
عبء الكاتب
الكاتب ليس مسؤولاً عن تطوير الحركة الأدبية. مهمته
تنحصر في تطوير ذاته الإبداعية، في شحذ أدواته وصقلها،
في إثراء عناصره ومصادره الخاصة. أما الشأن الثقافي
العام، فالاهتمام به والعناية به وتطويره، كلها أمور
تقتضي انهماكاً واستغراقاً وتفرغاً وبذلاً مضاعفاً
للوقت والجهد، وليس كل كاتب قادر على القيام بذلك، بل
يتعيّن على جهات أخرى، رسمية وأهلية، القيام بها
والتكفل بتنفيذها.
لا ينبغي للكاتب أن يحمل أعباء أخرى غير عبء الكتابة.
البعد السياسي
الهم السياسي – بمعناه الشامل- حاضر في كل كتاباتي..
لكنه غير مطروح كمنشور أو بيان تحريضي.
موقفي لا يختلف عن موقف أي كاتب، بالأحرى أي فرد، يبصر
سيادة الوحشية والرغبة المفرطة في التدمير أينما
يلتفت.
ثمة نزوع غير عقلاني إلى الاستبداد في الرأي، في
الحكم، في السيطرة، في التوجيه، من أجل إخضاع الكائن
البشري وتحويله إلى أداة لا تفكر بل تبطش، فيما هي
تمجّد الموت وتهتف للقتل.
لكن المبدع بلا حول ولا مكانة. في الواقع، لا أحد
يحتاجه، ولا أحد يريده.. لا المؤسسات الرسمية ولا
الشعبية. عندهم الثقافة مصطلح بغيض ما لم يمتثل
لأهوائهم وأمزجتهم وبرامجهم ومشاريعهم. المثقف الناقد
عنصر خطر لأنه يرتاب ويفضح ويحلم بتغيير ما هو سائد
ومستقر.. لأنه – على الأقل - يسأل ويرتاب.
أتابع الأحداث الهامة وأخبارها وما يُكتب عنها من
تحليلات، لكن ليس إلى حد الانغمار أو الهوس. يثير
اهتمامي ما يحدث في العالم، حتى وإن كان يسبب الإحباط
أو التوتر. لسنا معزولين أو في كوكب آخر. ما يحدث هناك
يؤثر سلبا أو إيجابا في ما يحدث هنا. مع ذلك، لست ممن
يتابعون نشرات الأنباء على مدار الساعة. ذلك أمر مضجر
ومثير للكآبة.
خطورة الكتابة
ما دامت القوى السياسية والاجتماعية والدينية – في
المجتمعات العربية تحديدا - لا تزال تراقب الكلمة
وتحاسب أي خروج أو نقض لما هو سائد ومسلـّم به، فإن
الكاتب بالضرورة، وعلى نحو ضمني، لا يزال يشكّل
خطورة.. رغم وضعه الهامشي، والاستهانة بدوره ووظيفته.
طالما أن هناك محرّمات ومحظورات في أي مجتمع، فإن
أشكال التعبير (صورة + كلمة + صوت) تبقى في موضع شك
وريبة. وطالما أن هناك رقابة، بكل أشكالها، حتى
الذاتية منها، فإن ذلك يعني أن الكتابة لا تزال تشكّل
خطورة.. حتى لو لم يقصد الكاتب إحداث تغيير جذري في
مجتمعه.
حين يتطرّف النقد
أذكر في السبعينيات من القرن الماضي، خرج علينا النقد
العربي، في إحدى مساراته، بنظرية مضحكة تجزم باستحالة
نشوء الرواية في دول الخليج بسبب خلو مجتمعاتها من
التناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية، مثلما هو
حادث في أقطار عربية أخرى.
هكذا نفى النقد العربي، بجسارة وبيقين تام، ليس فقط
إمكانية وجود رواية في الخليج بل حتى وجود تناقضات
وصراعات، كما لو أن المجتمعات الخليجية مستوردة من
كوكب آخر.. علماً بأن التناقضات والصراعات تزخر بها أي
عائلة، وليس أي مجتمع، في الكون. ولو افترضنا أن
الرواية، في عمومها، لا تقوم إلا على الصراع الطبقي،
فكيف نفسر وجود عدد كبير من الروايات العالمية التي لا
تتطرق إلى هذا الصراع، ولا تتناول قضايا المجتمع، إنما
تعالج قضايا فلسفية أو سيكولوجية أو بوليسية أو
رومانسية، وبشخصيات قليلة ومعزولة؟
الأدب الخليجي كله كان آنذاك يُعد هامشياً أو ثانوياً،
من المنظور العربي، وتحديدا من قِبل كتّاب ونقاد
المراكز الثقافية.
قراءة الهامش (عندما تنجح بعض النصوص في تخطي التخوم
لتصل إلى هناك) غالبا ما تكون ناقصة، متسرعة، سيئة،
متعالية.. ولم تلق القبول أو الاعتراف إلا في أحوال
نادرة.
كانت نظرة المركز إلى الهامش تتسم بالاستخفاف
والارتياب وسوء الفهم: كيف يمكن لدول نفطية مرفّهة،
وشعوب متخلفة، ومجتمعات لم تشهد صراعات سياسية أو
تتعايش فيها تناقضات اجتماعية وفكرية، أن تنتج نصوصا
أدبية تضاهي نصوص المركز؟
هكذا كانت النظرة السائدة آنذاك، وأخشى أنها لم تتغير
إلا قليلاً، وفي حدود ضيقة.
رعشة المجازفة
عندما تضع مأدبة، تشمل أطيب وأشهى المأكولات، وأكثرها
تنوعاً، أمام شخص جائع اضطر، لفقره الشديد، الصيام عن
الطعام أياماً، فلا ينبغي أن تتوقع منه أن يلتزم
بالقيم الأخلاقية وبمعايير اللياقة والأصول، وذلك بأن
يقاوم الإغواء ويمتنع عن أخذ ما يخرس جوعه حتى يؤذن له
بذلك.. ستكون حماقة منك أن تتوقع ذلك، وحماقة منه أن
يتقيّد بالأصول والأعراف.
هذا ما كان يحدث لنا، في مراحل مراهقتنا، نحن الذين لا
نملك ما يكفي من نقود لشراء كتاب، عندما ندخل مكتبة
عامرة بشتى وأجمل الكتب، وأكثرها إغواء، ثم نخرج
محرومين، جائعين، وقد اكتفينا بالفرجة فقط، فيما
عقولنا وأرواحنا تصرخ طالبة منا أن نغذّيها بالفكر
والأدب، بالقصص والأخبار، بالشعر والفن.
تحتمل مرّة، مرّتين. تقاوم الإغواء مرّة، مرّتين. تخرج
من المكتبة شريفاً، نظيف اليدين، بلا إثم ولا إحساس
بالذنب.. لكنك أيضاً تخرج وأنت في أشد حالات الحرمان
والقهر والجوع.
تعود مرّة أخرى. هذه المرّة يفتك بك الجوع. الإغواء
يمهّد لك الطريق، يزيّن لك الفعل الأثيم. تقنع نفسك:
ليست خطيئة كبرى، لا أحد يعلم، لا أحد يراقب، كل شيء
سالك وسهل. فقط مد يدك برشاقة نشّال محترف وخذ الكتاب
الذي تريد، الذي تشتهي قراءته كما لو كان الكتاب
الأخير في حياتك. وبرشاقة وسلاسة عصفور غادر المكان..
بلا ارتباك، بلا خوف، بلا ندم.
كل إثم يجلب معه تلك الرعشة التي يستعصي وصفها. الرعشة
الناشئة من خوف أن يقبض عليك متلبساً بالسرقة ومع ذلك
تفعلها بمتعة شيطانية.. الرعشة الناشئة من الاستثارة
لارتكابك الفعل المحرّم، الممنوع، المخالف للقانون..
رعشة المجازفة، رعشة الطيش والتهور، رعشة اللذة.
سرقة الكتب: فعلتها مرّة، مرتين، ثلاثة (ربما أكثر، لا
أذكر)، وكلها من مكتبات خاصة. ثم توقفت. اعتقد أن
المبادئ الأخلاقية المغروسة فينا بقوة سرعان ما تقهر
تلك النوازع الشريرة. أيضاً هناك الإحساس بالإثم..
الإحساس بأنك مهما برّرت لنفسك دوافع السرقة، تظل في
المحصلة النهائية مجرد لص تأخذ ما لا يحق لك أخذه..
حتى لو كنت تفعل هذا لتغذّي عقلك وفكرك ومخيلتك. حتى
لو كنت تدرك بأن الذنب ليس خطيراً بل مجرد جنحة، وأن
العقاب سوف لن يتعدى التوبيخ والتهديد والمنع من دخول
المكتبة.
الحقيقة البيضاء: منذ أن حصلت على وظيفة، لم أشعر بأي
حاجة لأن أسرق كتاباً، صرت أشتريها، أشتري الكثير
منها.. علناً وبلا ارتعاشة.
عموما، لم تكن سرقة الكتب مهمة صعبة أو معقّدة. كنت
حينها أشتري مجلة "آخر ساعة"، وهي مجلة مصرية كبيرة
الحجم، في حجم جريدة، وكنت أطويها وأضع بين صفحاتها
كتاباً أو كتابين ثم أخرج برباطة جأش ظاهرياً، لكن
بتوتر شديد في الداخل، في العمق.
أظن أنها لم تكن صعبة بسبب تراخي المراقبة وعدم توخي
الحذر، من طرف الباعة أو أصحاب المكتبات، الذين – حسب
ظني – لم يخطر ببالهم أن يرتابوا في أمانة واستقامة
مثقف شغوف بقراءة الكتب. لم يخطر لهم الاعتقاد بأن بين
الفئة المحبة للثقافة يمكن أن تخرج مجموعة شريرة من
لصوص الكتب. دوما هناك اعتقاد عند الآخرين بأن المثقف
قدّيس أو شيء شبيه بذلك. لهذا السبب لم يقبضوا على
أحدٍ منا متلبساً بالسرقة.. كنا موضع ثقة.