مع مرور الوقت، نلاحظ أنهما تتبادلان الأقنعة حتى يحدث
التداخل والانصهار بين وعي الشخصيتين وهويتيهما،
فتتقاسمان القناع نفسه.
سلوك المرأتين الآن يصبح عنيفاً. التداخل الرهيف في
البداية للهوية، يتعذّر ضبطه أو التحكم به في ما بعد.
الثنائية تتجلى في العديد من النواحي طوال الفيلم.
الالتحام يحدث حتى على مستوى اللغة، مناجاة النفس، حيث
الممرضة ألما تعبّر عن نفسها وعن ذات الأخرى في الوقت
نفسه. في أحد المشاهد تتحدث ألما معبّرةً عن كل ما
رفضت إليزابيت النطق به، والبوح به، أثناء صمتها
الطويل.
عندما ترى ألما المريضة جالسة تتأمل في أسى صورة ابنها
الممزقة، تطلب منها أن تتحدث عن ابنها، لكن الأخرى
ترفض، فتبدأ هي في التعبير عن مشاعر الأخرى: [شخص ما
قال لك، يا إليزابيت، لديك كل شيء، كامرأة وكفنانة،
لكن تنقصك الأمومة. وأنت ضحكت لأن ما يقوله سخيف وبلا
معنى. لكنك لا تكفّين عن التفكير في ذلك. يزداد قلقك،
ولا يزول إلا بعد اكتشافك أنك حبلى. الآن تريدين أن
تصبحي أماً. لكن مع مرور الوقت، يعتريك الخوف، تخافين
من المسؤولية، من الإحساس بالقيد، من الابتعاد عن
المسرح. تخشين من الألم، من الموت، من انتفاخ جسمك.
لكن طوال الوقت تستمرين في التمثيل، تؤدين دور الأم
السعيدة التي تنتظر مولودها. والجميع يقولون: “لم نرها
يوماً سعيدة كما تبدو الآن”. حاولتِ عدة مرات أن
تتخلصي من الجنين، لكنك أخفقت. عندما أدركتِ أن الأمر
محتوم، بدأت في كراهية الطفل، وتمنيت أن يولد ميتًا.
أن لا يبقى على قيد الحياة. أردتِ طفلاً ميتًا. وكانت
الولادة طويلة وعسيرة. عانيت وتألمت لأيام. غير أن
الطفل جاء إلى الحياة قسرًا. نظرت باشمئزاز إلى الطفل
الصارخ عاليًا، وهمست له: “ألا يمكنك أن تموت قريبًا؟
أليس بوسعك أن تموت؟”. لكنه نجا. وكان يصرخ ليلاً
ونهاراً. وبغضك له يزداد. كنت خائفة. اعتراك شعور
بالذنب. في نهاية المطاف، جاء الأقارب، جاءت المربّية،
وتولوا أمر العناية بالطفل، حتى يتسنّى لك مغادرة فراش
المرض والعودة إلى المسرح. لكن المعاناة لم تنته.
الطفل تملّكه حب شديد، يتعذّر فهمه ولا يُسبر غوره،
تجاه أمه. وأنت قاومت بشدّة وعلى نحو يائس، لأنك شعرت
بعجزك عن مبادلته الحب. حاولتِ، المرّة تلو الأخرى،
لكن اللقاءات بينكما كانت قاسية، خرقاء وغير مريحة. لم
يكن بإمكانك فعل ذلك. كنت فاترة، لا مبالية. وهو ينظر
إليك. يحبك. هو ناعم، رقيق، وأنت ترغبين في ضربه لأنه
لا يدعك وشأنك. تظنين أنه بغيض ومنفر، بشفتيه
الغليظتين وجسده القبيح وعينيه الدامعتين، المتوسلتين.
وكنتِ خائفة].
أثناء مونولوج ألما، تكون الكاميرا مركّزة على وجه
إليزابيت وعينيها الطافحتين بالألم والأسى والأسف
والذنب. في البداية تستنكر ما تسمعه ثم تصغي بمزيج من
الانفعالات.
ثم مباشرة، تنتقل الكاميرا لتركّز بؤرتها على وجه
ألما، فيما تعيد إلقاء المونولوج ذاته. وتنهي كلامها
بمحاولة إنكار التطابق مع الأخرى، قائلةً: “أنا لست
مثلك، لا أشعر كما تشعرين. أنا لست إليزابيت فوغلر،
أنا الممرضة ألما”.
غير أن الإنكار لم يعد مقنعاً، وهذا الانزلاق بين
الأنا والأخرى يُظهر المحو المؤكد للتخوم بينهما.
والوجهان يندمجان معاً.
إن ألما تحلم أنها أصبحت الأخرى، إلى حد أننا نراها
تمارس الحب مع زوج المريضة، بينما المريضة تراقب في
تجرّد، وأسى، وعجز عن فعل أي شيء. إن بيرغمان يقدّم
لقطات تخيّل أخرى للمرأتين، والتي تحدث في نوع من
الفراغ السرمدي.
هذا الاندماج يصبح مرهقاً وموجعاً، خصوصاً للممرضة
التي تحاول جاهدةً أن تقاوم هذا التداخل والاندماج.
*****
فجأة، وعلى نحو غامض، تختفي المريضة إليزابيت. ثم نرى
الممرضة ألما تحزم ملابسها داخل الحقيبة، تقفل باب
المنزل، وترحل وحدها في حافلة خالية. أثناء مغادرتها،
تتحرك الكاميرا لتُظهر فريق العمل وهم يصورون المشهد
الذي شاهدناه.. وكأن بيرغمان، في هذه الإيماءة
السوريالية، البريشتية، يريد أن يذكّر الجمهور بأن
الصور التي يراها ليست حقيقية، إنما هو مجرد فيلم.
في النهاية، تعود إليزابيت إلى المسرح، وتعود ألما إلى
التمريض، لترتدي كل منهما القناع الذي يحجب الذات
الداخلية المعذّبة، في محاولة لإعادة ترسيخ الهوية
التي رأيناها تتصدّع وتتقوّض على نحو يتعذّر استعادتها.
مع تبعثر السرد، يحترق الفيلم داخل جهاز العرض،
والشاشة تصبح بيضاء وخالية. بعض الصور التي شاهدناها
في الافتتاحية تعود، على نحو سريع. ثم نرى الصبي ذاته
وهو يحاول تلمّس وجه المرأة. الصورة تبدو خارج البؤرة.
ثم نرى تمازج المرأتين. وتنغلق الدائرة مع التقاء
البداية بالنهاية.
*****
من بين قضايا أخرى يتناولها الفيلم، يقدّم بيرغمان
تحرّياً فلسفياً مدروساً للمعضلات والمسؤوليات التي
تواجه الفنان في علاقته بمحيطه السياسي والاجتماعي.
في تأويل الناقد الفرنسي مارسيل مارتان للفيلم بوصفه
تأملاً في السينما، يقول: “كان مقصوداً به أن يكون على
نحو ما فيلماً داخل فيلم. من اللحظة الأولى يجلس
المتفرج مندهشًا أمام تلك الصور الشاردة، غير
المترابطة، التي يكون بعضها في متناول الفهم: رجل
وامرأة يتعلقان بطفل مقمط في ملاءة بيضاء. وجه غامض
لامرأة. صورة عنكبوت. حمَل ذبيح. وجه امرأة عجوز. جسم
ساكن عابس. كما تظهر أيضا عيّنات لأشخاص صامتين على
نحو مضحك. ماذا تعني تلك الصور الغريبة الشاذة؟”.
مارتان يفسر صمت إليزابيت بوصفه “السبيل الوحيد الممكن
لانقاذها من التواطؤ في الجريمة، في العنف الذي يجتاح
العالم اليوم، وهو ليس عنفًا مجردًا بل يمارَس في
فيتنام، والذي يفضي إلى الصدمة والجنون. هي ترى في
الصمت ضرباً من الانتحار”.
الناقد السويدي سفِن ميكوليك أيضاً ينظر إلى الفيلم
بوصفه تأملاً في السينما، مرتكزًا على عدة مظاهر:
العنوان الأصلي للفيلم كان “تصوير سينمائي” Cinematography،
لكن المنتج نصح بيرغمان بتغيير العنوان، فاستقر على
“برسونا”، “الذي يتصل بالتمثيل، وطبيعة الفيلم، وقوة
الصور. إنه فيلم عن شريط السيلولويد، عن المادة
الأساسية في صنع الفيلم. إنه يبدأ بجهاز العرض، في وضع
تشغيل، وينتهي بالجهاز وهو في وضع إغلاق، ليحثّنا على
النظر إلى الفيلم كوسط. برسونا يحطم الحائط الرابع، بل
ويتيح لنا، عند موضع ما، أن نرى الفنيين وهم يصوّرون
مشهداً”.
وبيرجمان أيضًا يحيلنا إلى الفيلم كمادة للتأمل، ليس
في بداية ونهاية الفيلم فحسب، بل أيضًا في المنتصف،
مباشرةً بعد لقطة قريبة لوجه ألما المرعوبة، تتهشم
الصورة كما لو أنها مرآة، ثم تحترق. المشهد التالي
يأتي على نحو طبيعي، كما لو أن شيئاً لم يحدث للتو.
كما لو أن ما حدث مجرّد لحظة سحرية عابرة.
على هذا، تعلّق سوزان سونتاج، في مقالتها المنشورة عن
“برسونا” (المصدر المذكور آنفًا) قائلةً: “نهج
بيرغمان، لقطات البداية والنهاية، والانقطاع المفاجئ
في المنتصف، هو أكثر تعقيداً من استراتيجية بريشت في
تقنية التغريب، وإبعاد الجمهور، عبر تذكيره المتواصل
بأن ما يشاهده ليس هو الواقع الحقيقي بل واقع المسرح
المصطنع. بيرغمان يقدّم بيانًا عن تعقيد ما يمكن أن
يُرى، والطريقة التي بها، في النهاية، تكون المعرفة
العميقة، الجسورة، مدمّرة. أن تعرف شيئًا بحدّة وكثافة
يعني، في آخر الأمر، أن تستنفد ما هو معروف، أن
تستهلكه، وتجد نفسك مرغماً على الانتقال إلى أشياء
أخرى. مبدأ الكثافة يكمن في لبّ حساسية بيرغمان،
ويحدّد النواحي الخاصة التي فيها يستخدم أشكال السرد
الجديدة”.
*****
في هذه التحفة الفنية، يتداخل الحلم والواقع، وتتشابك
الأزمنة، على نحو لا ينفصم، وغير قابل للتمييز. في هذا
تكمن صعوبة الفيلم، ذلك لأن بيرغمان يمتنع عن تقديم
إشارات أو علامات تميّز بين ما هو واقعي وما هو خيالي
أو حلمي، بين ما هو حقيقي وما هو وهمي أو هذياني، بين
ما حدث في الماضي وما يدور في الحاضر. خصوصاً وأن
بيرغمان يصوّر مختلف الحالات (الواقعية والحلمية أو
الهذيانية) بالإيقاع ذاته، بالمظهر الموضوعي ذاته.
والمواقع تبدو واقعية ظاهرياً، غير أنها مؤسلبة لإثارة
إحساس عميق بحالة الوحدة.
لنتأمل المشهد الآسر، الغامض، لظهور اليزابيت في حجرة
ألما وهي تبدو وكأنها تسير في الهواء لا على الأرض، ثم
تعانق ألما.. هذا المشهد مغمور بخاصية سحرية، أو
حلمية، حيث الإضاءة ضبابية أو غائمة.
بيرجمان لا يريد أن يكتفي بتقديم قصة عن علاقة غامضة
ومجرّدة بين امرأتين. وهو لا يمنحنا مفاتيح تساعد
المتفرج على التمييز وفك مغالق فيلمه. لا يمنحنا
معلومات عبر السرد. لا يلبّي حاجة المتفرج إلى الرضا
التام وإشباع رغباته في المعرفة وفي الفهم، لا ينسجم
مع توقعات المتفرج، لا يحلّ لغزاً. بالطبع ليس القصد
هنا تعذيب المتفرج وإزعاجه وإرهابه والاستهانة به،
إنما هي محاولة – من مخرج يحترم جمهوره ويقدّر ذكاءه –
لأن يضمن مشاركة المتفرج وتفاعله على نحو إيجابي وخلاق.
*****
“برسونا”
عمل إبداعي أخّاذ بصرياً، تحت إدارة مدير التصوير
العظيم سفن نايكفست. وكما الحال مع أفلامه الأخرى،
يكشف عن عبقرية بيرغمان في تصوير الوجه الإنساني، في
لقطات قريبة مديدة، وذلك لأسر جوهر مشاعر الشخصية،
ولاستنباط أداء معبّر ومدهش. وهو يتيح لنا الوقت
الكافي لتأمل الوجوه، مع التركيز على العيون وحركات
الشفاه.
حاز الفيلم على العديد من الجوائز، من بينها جوائز
صناعة الفيلم السويدي كأفضل فيلم وأفضل ممثلة (بيبي
أندرسون). وجوائز الجمعية الوطنية لنقاد السينما في
الولايات المتحدة كأفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثلة
(بيبي أندرسون).
*****
هنا ترجمة لحديث إنغمار بيرغمان عن فيلم “برسونا”:
*
فكرة الفيلم استوحيتها من صورة. يومًا ما، فجأة شاهدت
أمامي امرأتين جالستين متجاورتين. فكّرت، لابد أن
واحدة تتكلم والأخرى صامتة. لا تتفوّه بكلمة. ثم تقارن
المرأتان أيديهما. في النهاية تندمجان لتصبحا امرأة
واحدة.
هذه الفكرة الصغيرة أخذت تراودني وتلحّ عليّ بين
الفينة والأخرى. ما السبب؟ لماذا هذا الحضور المتكرّر
للفكرة، بهذه الدرجة من الإلحاح؟ إنها كما لو تطلب مني
الشروع في الاشتغال عليها.
عندئذ تكتشف أن ثمة شيئًا ما خلف الصورة.. كما لو أن
هناك باباً. وإذا أنت فتحت الباب، بهدوء وحذر، فسوف
تجد رواقًا طويلاً يتّسع شيئاً فشيئاً، ثم فجأة ترى
المَشاهد تتخلّق وتتحرك، والأشخاص يشرعون في التحدّث،
والحالات تبدأ في التنامي والتفاعل في ما بينها.
بالعودة إلى الصورة، نحن نرى الضوء يخترق القبعات، من
خلال العيدان المتشابكة، ليضيء وجهي المرأتين. الشمس
قوية في هذه الصورة. إنه أمر غريب جداً، فالضوء جزء
متّحد بتجربتي منذ البدايات.
*
فجأة نرى وجهين يتداخلان، عندئذ يولد الفيلم. في ما
يتعلق بالتأويل، يمكنك أن تفسّر الفيلم بأي طريقة
تشاء.. كما الحال مع أي قصيدة. الصور تعني أشياء
مختلفة بالنسبة لأفراد مختلفين.
*
لقطات الافتتاحية تتصل بصنع الفيلم ذاته، ببداياته.
إنها قصيدة بصرية، ليست في كلمات ولكن في صور، عن
الحالة التي بها ابتدأ فيلم برسونا. لقد فكرت مليًا في
ما كان مهمًا، فبدأت بجهاز العرض (البروجكتر) ورغبتي
في تحريكه. لكن عندما دار الجهاز، لم تظهر سوى أفكار
قديمة.. عنكبوت، حَمَل، وأشياء أخرى باهتة وبليدة.
حياتي آنذاك كانت تتألف من أفراد موتى، جدران من
قرميد، وبضع أشجار كئيبة في المتنزّه. في المستشفى،
يتكوّن لدى المرء إحساس قوي بوجود جثث تطفو عبر هيكل
السرير، الذي إلى جواره، كنت أرى المشرحة، وأشخاصًا
يدخلون ويخرجون حاملين التوابيت الصغيرة.
*
هذا الفيلم هو المخلوق الذي أنقذ خالقه. قبل أن
أحقّقه، كنت مريضاً. أصبت مرتين بداء ذات الرئة
وبالتسمّم. فقدت توازني لمدة ثلاثة شهور. قبل ذلك، في
الصيف، كتبت سيناريو لكنني أخبرت الجميع أنني سوف أصرف
النظر عنه لأنه نص معقّد، ولم أشعر برغبة في إنجازه.
أذكر جلوسي على سرير المستشفى، محدّقًا مباشرة أمامي
في بقعة سوداء، ذلك لأنني إذا أدرت رأسي فإن الغرفة
كلها تبدأ في الدوران على نحو سريع. كنت أقول لنفسي:
بعد الآن سوف لن أخلق شيئًا أبدًا. كنت خاويًا تمامًا،
ميتًا تقريبًا. المونتاج – في بداية الفيلم – هو مجرد
قصيدة تعبّر عن تلك الحالة الشخصية.
يوماً ما، بدأت فجأة بالتفكير في امرأتين جالستين
متجاورتين. هذا المشهد استطعت أن أدوّنه بعد جهود
مضنية. بعد ذلك فكرت في تحقيق فيلم صغير جدا، قليل
التكاليف، ربما بكاميرا 16 ملي، عن امرأتين.. واحدة
تتكلم والأخرى صامتة (بالتالي سيكون عبارة عن مونولوج
ضخم). سوف لن يكون شاقاً بالنسبة لي. كنت أكتب القليل
كل يوم. لم أكن أنوي تحقيق فيلم اعتيادي بسبب حالتي
الصحية، غير أني درّبت نفسي على الكتابة. كنت أنتقل
يوميًا، في العاشرة صباحاً، من السرير إلى طاولة
الكتابة. أحيانًا كنت أكتب وأحيانًا أظل ساكنًا
وعاجزًا. بعد أن غادرت المستشفى، دأبت على الذهاب إلى
الشاطئ حتى أنهيت السيناريو، لكن من دون أن أشفى
تمامًا. مع ذلك قررنا أن نمضي قُدمًا، والمنتج كان
متفهّمًا جداً، إذ ظل يحثّني على الاستمرار.
في منتصف يوليو بدأت التصوير، وأنا في حالة من الإنهاك
والمرض الذي يسبّب لي الدوار كلما نهضت. في الأسبوع
الأول كانت النتائج فظيعة. أردت أن أتخلى عن كل شيء،
لكن المنتج استمر في تشجيعي، طالبًا مني الانتقال إلى
الجزيرة والتصوير هناك. عندما وصلنا إلى هناك، بدأت
الأشياء تنتعش على مهل. كان التعاون مع الممثلين
والمصور رائعًا.
*
لم أكتب سيناريو بالمعنى المألوف لهذه الكلمة. إن ما
كتبته يبدو لي أشبه بلحن يؤديه صوت واحد أو آلة
موسيقية، وفي ما بعد سوف أقوم بعزفه أثناء التسجيل
بمعاونة مساعدي.
*
ثمة موضوعات عديدة أقف أمامها حائراً ومتردداً. لقد
تبيّنت بحق أن الموضوع الذي وقع اختياري عليه ليس
عادياً، وأن الاختيار الذي أملى علي إدراج مجموعات من
المناظر في الفيلم النهائي – وهي فكرة أرتجف لها –
إنما هو نابع من ذاتي. لذلك أدعو المتفرج أن يطلق
العنان لخياله في استغلال العناصر التي أضعها تحت
تصرّفه.
*
إليزابيت، التي تمتهن التمثيل، تفتقر إلى حس الدعابة.
كل من يعمل في مجال التمثيل لا ينبغي أن يأخذ المسرح
بجديّة تامة. الفن كله مجرد لعبة.
*
عندما تشاهد إليزابيت التلفزيون، وترى الراهب البوذي
يحرق نفسه احتجاجاً في فيتنام، تشعر بأن هذا الراهب
يخيفها، ذلك لأن إيمانه الراسخ هائل إلى حد أنه مستعد
لأن يموت في سبيله. الصورة الفوتوغرافية تمثّل
المعاناة الحقيقية.
*
ألْما، الممرضة، تنساق إلى الجنون بدافع الاستياء
والغيظ، إلى حد أنها لا تعود قادرة على تركيب الكلمات،
التي لم تعد نافعة. لكن هذه المسألة لا تتعلّق بعلم
النفس، بقدر ما تأتي في مرحلة ما داخل حركة الفيلم
نفسه، حيث لا تعود للكلمات أي معنى.
*
الفيلم يطرح أسئلة ميتافيزيقية عن ما هو الحقيقي، متى
وكيف يقول المرء الحقيقة، إن كانت هناك ثمة حقيقة.
* “برسونا”
هو أحد أهم أفلامي. اليوم، أشعر أنني في برسونا، ثم في
“صرخات وهمسات”، قد مضيت إلى أبعد مما استطيع المضي
فيه. في هذين الفيلمين، اللذين حققتهما بحريّة كاملة،
اتصلت بالأسرار الصامتة التي وحدها السينما قادرة على
اكتشافها.
*****
إنغمار بيرغمان يصف مشهداً من فيلمه “برسونا”، حيث
تتكلّم بيبي أندرسون في مونولوج طويل بينما ليف أولمان
تصغي صامتة..
يقول بيرغمان: “لو نظرت إلى وجه ليف فإنك سترى بأنه
يتورّم وينتفخ طوال الوقت. إنه آسر.. شفتاها تنتفخان،
عيناها تصيران أكثر قتامة وغموضاً، وهي كلها تتحوّل
إلى نوع من الشراهة. ثمة لقطة جانبية لها، هنا، والتي
لا تضاهى. بإمكان المرء أن يرى وجهها يتحوّل إلى ما
يشبه القناع الحسّي، الفاتر، غير الودّي. حين أردنا أن
نصوّر اللقطة، طلبت من ليف أن تحشد كل إحساسها في
شفتيها. كان عليها أن تركّز وتكثّف كل حساسيتها وتضعها
هناك. بإمكان المرء أن يضع إحساسه في أجزاء مختلفة من
الجسد، بامكانه أن يستجمع انفعالاته في الإصبع أو
الإبهام أو المؤخرة أو الشفاه. من بين كل الأسطح، أو
المظاهر الخارجية، الوجه هو الأكثر تعبيرية. إنه مرآة
تكشف وتفشي الكثير. وبما أن الوجه يعكس أفكاراً
ومشاعر، فإنه ليس مجرد سطح بل سطح عاكس. بالتالي فإن
الوجوه – في الفيلم – هي بالتأكيد الأكثر قيمةً،
معرفياً، من الأسطح الأخرى على الشاشة – الأشياء،
المناظر، وغيرها – والتي لا يمكن أن تكون إلا نفسها”.
مصادر الترجمة:
Continental Film Review, August 1971
كتاب Bergman on
Bergman, 1973
Encountering Directors, Charles T. Samuels, 1972 |