·
ما هو فيلمك المفضّل، من بين أفلام بريسون، ولماذا؟
أوليفييه أساياس:
- في كل مرحلة مختلفة من حياتي، كنت أميل إلى فيلم
معيّن من أفلامه، وأفضّله على غيره. في البداية، شعرت
بانجذاب وتأثر بفيلمين هما: هروب رجل والنشال. في فترة
تالية انجذبت إلى "الشيطان، على الأرجح" و"المال".
عندما بلغت السابعة عشرة من عمري شاهدت "الشيطان، على
الأرجح"، وكان البطل يقاربني في العمر. لم أستوعب
وقتذاك ما يقوله الفيلم. بعد عشر سنوات اكتشفت أنني
كنت الشخصية ذاتها، وأن عالمها هو عالمي ذاته.
برونو دومون:
- "يوميات قسيس ريفي" هو الفيلم الذي يغمرني عند كل
مشاهدة له. للفيلم مسحة روحية تحرّك مشاعري على نحو
عميق جداً. إنه الفيلم الذي يفضي إلى السمو. هو كله
مصنوع ببراعة ليأخذنا إلى اللقطة الختامية، التي هي
رائعة واستثنائية تماماً. تلك، بالنسبة لي، هي
السينما: كيف تقودنا، لقطةً فلقطةً، إلى النتيجة
النهائية، والتي هي قوية جداً.
بول شرادر:
- أفلام بريسون المفضلة لدي هي تلك التي تتعلّق
بالسجن: يوميات قسيس ريفي، النشال، هروب رجل.
بعد ذلك يحرّك المجاز قليلاً فتحصل على "محاكمة جان
دارك". ثم يحرّكه إلى مسافة أبعد قليلاً فتحصل على
"موشيت". ثم ينقل المعاملة السيئة التي لقيها القسيس
الريفي ليتلقاها الحمار في "بالتازار". والجراءة في
ذلك هي مذهلة تماماً.
يوجين جرين:
- أظن أن الفيلمين اللذين يحرّكان مشاعري اليوم هما
بالتازار و الشيطان على الأرجح (الذي أديت فيه دوراً
صغيراً ضمن المجاميع). عندما شاهدته للمرّة الأولى
رأيت أنه لا يعبّر حقاً عما يعني أن تكون شاباً في ذلك
الوقت. لكنني الآن اعتقد أنه استطاع أن يأسر ذلك
الواقع على نحو تام.
أكي كوريسماكي:
- بالتازار. دوماً سيكون الأمر محركاً للمشاعر ومبهجاً
أكثر عندما تتبع حماراً وليس إنساناً.
·
هل استعرت شيئاً من سينما بريسون؟ ما هو؟
أوليفييه أساياس:
- حين كنت أحقّق أفلامي الأولى، كان بريسون عاملاً
مؤثراً، إذ كنت أقضي الكثير من الوقت وأنا أفكر في
إعداد اللقطات، وكيفية توجيه الممثلين. الممثلون
العاملون معي لم يكن أسلوبهم "بريسونياً". لكنني في
كتابتي لم ألجأ إلى الترف والمغالاة. كانت كتابة
متقشفة. ولم تكن تسعى إلى إظهار عاطفة خارجية أو
ظاهرية، بل العاطفة الباطنية التي تبرز من دون مبالغة.
بالنسبة لي، تأثير مخرج عظيم مثل بريسون يكمن في منحك
الفكرة العامة التي تستطيع بها أن تحدد طريقك الخاص،
والأمل في الذهاب إلى المدى الأبعد الذي هو مضى إليه.
على أية حال، فكرة الاقتباس المباشر هي موضع ارتياب.
في فيلمي الأول
Desordre
ثمة مشهد فيه نرى مراهقاً يسرق المال من دُرْج أبيه
الطبيب، ولا أعرف إن كان ذلك اقتباساً أو اقتباساً
لاشعورياً، لكن هناك لقطة مماثلة تماماً في فيلم
بريسون "المال".
حتى أثناء تنفيذي لفيلمي الرابع
Une nouvelle
vie،
وكان عليّ أن اختار ممثلة لدور المراهقة، كنت أتساءل:
أي ممثلة كان بريسون سيختار؟ وعندما حقّقت فيلمي
التالي
L’Eau froide،
ثم شاهدت فيلم بريسون "موشيت" قلت "يا إلهي، لقد تأثرت
بفيلم لم أكن قد شاهدته بعد". ذلك يدل على أهمية
بريسون بالنسبة لي.
برونو دومون:
- أنا لا أنظر إلى بريسون، وأتأمل أفلامه، انطلاقاً
مما أفعله في أفلامي. أنا اقترب أكثر من روسيلليني أو
كوبريك أو بيرجمان. علماً بأني اتقاسم مع بريسون
الرغبة في القيم الروحية. أنت تجد هذا في الطريقة التي
يصوّر بها بريسون فيلمه، في أوضاع وزوايا الكاميرا،
والتي هي تتسم بالاحترام، وآمل أن يوجد هذا عندي
أيضاً. غير أن طرائقنا مختلفة تماماً. فأنا، على سبيل
المثال، أفضّل التسجيل المباشر للصوت، الشيء الذي لم
يفعله بريسون في أفلامه.
أنت لا تبدأ بمحاكاة شخص آخر. إنما، عوضاً عن ذلك،
تبحث عن الروح التي تلهمك لإيجاد صوتك الخاص. لكل شخص
طريقته في التدرّب والتعلّم. أنظر إلى فان غوخ، الذي
بدأ بمحاكاة ميليه قبل أن يشكّل أسلوبه الخاص.
ولست أمزح حين أقول أنني أرغب في صنع أفلام رائجة
جماهيرياً. ولا رغبة لدي في الاختباء في الهوامش.
اعتقد أن بإمكانك تحقيق أفلام ناجحة تجارياً وصارمة،
والتي تتّسم بالسموّ والمكانة الرفيعة.
بول شرادر:
- الجملة الأخيرة في فيلمي
American Gigolo
هي نفسها الجملة الختامية في فيلم "النشال". وهناك
مشهد في فيلمي "السائر"
The Walker
يماثل بصرياً مشهداً في "النشال"
أيضاً. لكن في ما يتصل بأسلوب التمثيل، فقد كان بريسون
ينفث هواءً نقياً جداً إلى حد أن معظمنا قد يختنق فيه.
يوجين جرين:
- أسلوبياً، لم استعر الكثير من سينما بريسون. إنما هي
الفكرة العامة بأن جوهر السينما هو في جعل الروح تبدو
ظاهرة من خلال استكشاف المادة. تلك هي صلتي القوية به:
إنه المخرج الذي يعبّر عن أشياء روحية.
أكي كوريسماكي:
- حاكيت أسلوبه جزئياً، وعلى نحو صريح، بطريقتي
الصبيانية، في فيلمي "فتاة مصنع الكبريت" (1989).
·
ما الذي تراه باعتباره تراث بريسون الحقيقي؟
أوليفييه أساياس:
- بريسون مسّ شيئاً قريباً جداً مما تكونه السينما
الفرنسية، وتعريفه وتحديده لها. المخرج والكاتب ألان
كافالييه قال ذات مرّة أن في السينما الفرنسية لديك
أباً وأماً: الأب هو بريسون، والأم رينوار.. حيث يمثّل
بريسون صرامة القانون، ويمثّل رينوار الدفء والسخاء.
بطريقة ما، أفضل ما في السينما الفرنسية لها، أو سوف
تكون لها، علاقة ببريسون.
أعماله قريبة جداً من روح ما تكونه السينما، إلى حد
أنه في أي ثقافة سينمائية سوف يوجد أفراد يستجيبون
إليه. مثل تاركوفسكي الذي يُعد واحداً من أعظم
الفنانين في القرن العشرين. كلاهما من شعراء السينما
العظام. كل فيلم لهما هو كامل ومثالي، ولم يقدّما قط
أي فيلم عادي أو متوسط الجودة. أفلامهما توجد خارج
الزمن والمكان. وتشعر أن حياتهما كلها متوقفة على خلق
تلك الأفلام.
برونو دومون:
- النقاد يكافحون من أجل إيجاد تماثلات مع بريسون في
كل مرّة يظهر مخرج ويحقّق عملاً مشابهاً، على نحو غير
واضح، لأعمال بريسون. لكن بريسون مهّد لنفسه طريقه
الخاص، ومن الحماقة أن تتبع ببساطة خطواته. هو انفصل
عن التقليد المسرحي في السينما ليبدع أفلاماً يوظف
فيها الصوت على نحو رائع. في أفلام جاك تاتي تجد مثل
هذا التوظيف لكن في إطار كوميدي.
في ما يتعلق بتراث بريسون، موريس بيالا تأثر به
كثيراً، لكن في ما بعد اتّخذ له مساراً خاصاً. وبريسون
نفسه تأثر في بداياته بكارل درير. في السينما، هناك
كلّ متصل ومترابط. نحن جميعاً جزء من القصة نفسها.
بول شرادر:
- حتى لو لم يتأثر المخرج ببريسون، فمن المهم له أن
يحقّق فيلمه مستخدماً بعضاً من جمالياته. واقع أنك
تستطيع فعل ذلك يتعارض مع ما يظنه الكثيرون منا بشأن
معنى السينما. إذا كنت ترى أن السينما دينامية ومفعمة
بالحركة، حيث الأكشن والتقمص العاطفي، فإن من الأشياء
التي كان بريسون يتجنبها: الأكشن والتقمص العاطفي.
هو من أكثر الفنانين فرادة. بين الحين والآخر، مخرج ما
يحاول أن يحقّق فيلماً بريسونياً. يمكنك أن تقول أن
بيلا تار أو أنجيلوبولوس أو سوكوروف، تحركوا في ذلك
الاتجاه.. لكن أفلامهم كانت عن السكون والطمأنينة أكثر
من أي شيء فعله بريسون. هو أشبه بضوء بعيد.. بعيد في
نقطة نائية. من المثير معرفة أن الضوء لا يزال هناك،
لكنك لن تصل إلى هناك أبداً.
يوجين جرين:
- أغلب المخرجين الجادين، في هذه الأيام، يكنّون
الكثير من الإحترام لبريسون، بخلاف ما كان عليه الحال
عندما كان حيّاً. لقد اعتدت مشاهدة أفلامه في العروض
الصباحية لأن الجمهور قليل العدد، ولأن العروض
المسائية يحضرها جمهور ضاج، لا يكفّ عن السخرية
والاستهزاء بحوارات الممثلين.
في يومنا، حالما يُعرض فيلم متقشف، وبسيط في عناصره
الإنتاجية، حتى يوصف بأنه فيلم بريسوني. لكنني لا
اعتقد أن الأمر كذلك. الأكثر أهمية هنا هو التراث
الروحي.
مؤخراً قال لي شخص أن بريسون هو مخرج قضايا المراهقين،
وأنا لا أتفق مع هذا القول. بريسون كان يعبّر عن أشياء
معيّنة هي من طبيعة المراهقة، ولهذا فإن أغلب شخصياته
تقريباً هي من الشباب. مع ذلك، فإن بريسون يتلقى
الإعجاب والتقدير من مختلف الأعمار.
أنا لا أقول أنه يتقدّم ويرتقي كمخرج. فيلمه الأخير
"المال" هو أكثر أعماله المتّسمة باليأس. إنه واحد من
المخرجين الذين في أعمالهم تستطيع أن تكتشف نموّاً
معيّناً، لكن ثمة أيضاً شيئاً جوهرياً يبقى منذ فيلمه
الأول وحتى الأخير.
أكي كوريسماكي:
- لا رحمة للجنس البشري عندما لا يستحق ذلك.. بمعنى
آخر، لا شيء أبداً. |