في الواقع، كلاهما لا يحملان بوصلة أخلاقية. كلاهما
لديهما نزوع نرجسي. كائنان أنانيان، غير واعين للمجتمع
والعالم الخارجي. يقول لها في أحد المشاهد: “عندما
نتحدث، أتحدث عن نفسي، وأنت تتحدثين عن نفسك، في حين
ينبغي أن يتحدث أحدنا عن الآخر”.
العلاقة بينهما مفككة وقلقة. ثمة تباين أو تعارض حاد
بينهما. في مشهد طويل، يستغرق نصف الساعة، نراهما معاً
يتحدثان (عبر حوار يتميّز بالجدة والتلقائية، والتدفق
برشاقة وسلاسة) في موضوعات متعددة ومتشعبة مثل: الحب،
الجنس، الموسيقى، الموت، الشيخوخة، المخاوف، الشعر،
العمل، الأدب. ومن خلال ذلك نفهم طبيعة ومدى العلاقة
بينهما.
عندما يحصل على المال ويطلب منها الرحيل معه إلى روما،
ترفض، وتخبره أنها لا تحبه. هي تعلم عن ارتكابه لجريمة
القتل، وتكتشف أنه متزوج. في البداية تحاول مساعدته في
التملّص من مطارديه، لكن فيما الشرطة تزداد اقتراباً
منه، وتحكم الحصار من حوله، هي تشي به، ليس لأن ذلك هو
التصرف السليم (أخلاقياً) وإنما لأنها تريد أن تمتحن
نفسها وتختبر شعورها ناحيته، هل هي تحبه فعلاً أم لا.
وعندما تعترف له بأنها خانته ووشت به، يغضب في
البداية، لكنه لا يتصرف معها بقسوة ولا يهرب. بل يبقى
معها. يقول لها أن اتصالها بالشرطة لا يتعلّق به، بل
هو ببساطة اختبار لحبها.
في النهاية، تقتله الشرطة في الشارع. وبالقرب من جثته،
تقوم باتريشيا بإيماءة، حيث تحك شفتيها بإبهامها،
محاكية إيماءة ميشيل الذي بدوره استعار هذه الإيماءة
من همفري بوجارت.
القصة تبدو عادية ومألوفة ومتكررة في العديد من
الأفلام البوليسية المنتجة في سنوات الأربعينيات
والخمسينيات، لكن ما جعل هذا الفيلم فذاً واستثنائياً
ليس القصة بذاتها بل الطرائق غير العادية التي بها
اختار غودار أن يسرد القصة.
يقول غودار (كاييه دو سينما، ديسمبر 1963): “اللاهث،
كان من ذلك النوع من الأفلام حيث كل شيء يحدث: ذلك هو
ما يدور حوله الفيلم. كل ما يفعله الناس يمكن أن
يندمج في الفيلم. في الواقع، ذلك كان نقطة انطلاقي
(..) ما أردته هو أن أتناول قصة تقليدية، وعلى نحو
مختلف، أعيد خلق كل ما فعلته السينما. أردت أيضاً أن
أعطي إحساساً بأن تقنيات صنع الفيلم قد تمّ للتو
اكتشافها أو تجربتها للمرة الأولى. استخدام تقنية
iris-in
هو لإظهار إمكانية العودة إلى منابع أو مصادر السينما.
الإحلال dissolve
يحدث مرة واحدة فقط، كما لو تمّ ابتكارها للتو”.
قصة واهية، حبكة مفككة، سرد متشظٍ، أحداث غير مترابطة
منطقياً، إيقاع غير مألوف، خروج عن قواعد المونتاج
التقليدية، انتقالات فجائية jump cuts
حيث الرجّة البصرية الناشئة من انقطاع في الكادرات
المتتابعة ضمن الحدث المتواصل (في السابق، كان هذا
النوع من القطع يعد من الشوائب، ولا يفعلها غير
الهواة، وهذه التقنية، التي هي في الأصل حيلة
مونتاجية، استخدمها غودار على نحو فعال وملفت للأنظار)
تعكس انفصال الشخصيات عن الواقع والفجوة العاطفية
بينها، إضافة إلى انعدام الاستمرار المكاني- الزماني.
لقد أشيع أن توظيف غودار للانتقالات الفجائية جاء
نتيجة نقص في الميزانية أدى إلى عدم توفر ما يكفي من
المادة الخام لإكمال تصوير المشاهد. لكن بيير ريسْيِن،
الذي ساعد غودار في الإخراج، ينفي ذلك، ويقول (مقالة
ديفيد جريتن، 22 يونيه 2010)
“هذا
غير صحيح. الفيلم الخام لم يكن غالي الثمن، مع أن
الميزانية لم تكن مريحة. هذه الوسيلة تم تصوّرها أثناء
المونتاج، وليس أثناء التصوير. لقد خطرت الفكرة لغودار
والمونتيرة سيسيل ديكوجيس، لاستخدام ذلك من أجل
التغطية على نواقص أو خلل في الإضاءة، أو حتى في
التمثيل. بعد ذلك، شرعا في استخدام ذلك كوسيلة، وأصبح
منهجاً”.
رداً على سؤال طرحه الناقد أندرو ساريس (يوليو 1994)
عن كيفية التوصل إلى فكرة الانتقال المفاجئ، وما إذا
كان ذلك على نحو غريزي؟ أجاب غودار: “نعم، جزئياً. لكن
ما لم تكن مخرجاً جيداً، فإن أغلب الأفلام الأولى تكون
طويلة أكثر مما ينبغي. وأنت تفقد إيقاعك وجمهورك عبر
ساعتين أو ثلاث ساعات. في الواقع، فيلمي (اللاهث)، في
نسخة المونتاج الأولى كانت مدّته 150 دقيقة، وطلب
المنتج حذف ساعة منه، فقررنا فعل ذلك رياضياً، بحيث
نحذف ثلاث ثوانٍ من عدد من اللقطات، ونحتفظ فقط
باللقطات التي أحبها. في ما بعد، اكتشفت أنها ليست
المرّة الأولى، فقد سبقني في فعل ذلك روبرت باريش،
عندما منتج فيلم روبرت روسين (كل رجال الملك – 1949)”.
بهذا الفيلم الجريء والحيوي، استطاع غودار أن ينتهك
القوانين السائدة في ما يتعلق بالسرد والبناء
والمونتاج، وأن يحرّر لغة الفيلم من الأعراف والتقاليد
الموروثة، وأن يشرك المتفرج في علاقة جديدة مع الشاشة،
وأن يقدّم تعريفاً عملياً لما تكونه الموجة الجديدة:
حرة من قيود السرد التقليدي، المربوط بإحكام. مدافعة
عن حرية التعبير الشخصي، والبحث وحركة الكاميرا.
جزئياً، غودار هنا مدين إلى أفلام السينما السوداء
(نوار) التي يحبها، لكنه يستخدم البناء البوليسي
كذريعة للتعبير عن أشياء أكثر عمقاً. من جهة أخرى،
وحسب توكيد غودار نفسه، ليس كل ابتكاراته كانت جديدة
تماماً، إذ يمكن العثور على أسلاف لعدد من تقنياته، في
توظيف الصورة أو الصوت، بل أنه في بعض مشاهده يوجّه
تحية تقدير إلى مخرجي الماضي الكبار، الذين أضحوا
منسيين أو مهمَلين، وذلك باستخدام تقنية سبق لذاك
المخرج أن وظفها في أفلامه. لقد أعلن عن تأثره برينوار
ومخرجي هوليوود المغمورين والإيطالي روسيليني الذي
تعلّم منه كيف يستخدم الكاميرا كشخصية مهمة وربما
رئيسية، وليس مجرد راصد أو ملاحظ أو مدوّن.
في حديثه عن الفيلم (كاييه دو سينما، العدد 138،
ديسمبر 1962) قال: “بوسع أي مخرج أن يستفيد مما يشاهده
في الأفلام من أجل القيام بإحالات مقصودة ومدروسة. هذا
ينطبق عليّ خصوصاً. وهذا يتصل بمواقف سينمائية محضة.
في بعض اللقطات ثمة إحالة إلى مشاهد تذكرتها من أفلام
أوتو بريمنجر، جورج كيوكور وآخرين. والشخصية التي
أدتها جين سيبرغ في فيلمي هي تكملة لدورها في فيلم
بريمنجر (صباح الخير تريستس). كان بإمكاني أن آخذ
اللقطة الأخيرة من ذاك الفيلم، وبعد أن تتلاشى
تدريجياً تحل محلها لقطة مع كتابة تقول: (بعد مرور
ثلاث سنوات). هذا يشبه ولعي بالاستشهاد والاقتباس من
نصوص الآخرين. إذا كان الناس في الواقع يقتبسون كما
يشاءون وكما يحلو لهم، فلم لا يجوز لنا أن نقتبس كما
نشاء؟”.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الممثلة الأميركية جين سيبرغ
ظهرت في عدد من الأفلام الهامة مثل: القديسة جان دارك،
صباح الخير يا تريستس، ليليث.. وغيرها. عانت من سلسلة
من الانهيارات العصبية قبل أن تنتحر في العام 1979
ولها من العمر أربعين سنة.
من جانب آخر، “اللاهث” فيلم عن السينما ذاتها. ولأن
السينما تلعب دورا هاماً في حياة غودار الذي يكرّس
نفسه كلياً لها، فإنها بالضرورة تلعب الدور الهام نفسه
في فيلمه الأول. إنه فيلم مغمور بالسينما، من الإهداء
الموجّه إلى شركة إنتاج سينمائية أميركية
Monogram Pictures
تخصصت في تقديم أفلام إثارية منخفضة الميزانية في
الأربعينيات، وقد برّر الإهداء بقوله (Film Quarterly،
ربيع 1964): “فعلت
ذلك لكي أبرهن أن بالإمكان تحقيق فيلم هو مثير
للاهتمام وزهيد التكلفة في آن. في أميركا، الأفلام
الرخيصة، منخفضة الميزانية، لا تعتبر مثيرة للاهتمام”،
إلى توجيه تحية حب وتقدير إلى عدد من السينمائيين
الكبار، إلى إسناد أدوار ثانوية لعدد من المخرجين
الفرنسيين البارزين، إلى الإشارات والإحالات إلى مشاهد
معينة من أفلام أخرى. كما أتاح لنفسه الظهور في لقطة
وجيزة، عابرة، حيث يتعرف على القاتل ويبلغ الشرطة.
يقول غودار
(كتاب Godard on Godard،
1972 ): “المرء
لا ينفّذ بدقة ما كان ينويه أو يقصده. أحياناً قد يفعل
العكس. على الأقل هذا ينطبق عليّ. لكن في الوقت نفسه،
أنا مسؤول عن كل ما أفعله. لقد اكتشفت أن فيلمي
(اللاهث) ليس هو الذي فكرت فيه وخططت له. لقد تحقّق
على نحو غير واعٍ من جانبي. كنت اعتقد أنني أحقّق
فيلماً واقعياً، لكن اتضح أنه ليس كذلك. في المقام
الأول، لم أكن أمتلك المهارة التقنية الكافية، لذا فقد
ارتكبت أخطاءً. بعدئذ اكتشفت أنني لا أصلح لهذا النوع
من الأفلام. ومع إنني شعرت، في وقتٍ ما، بالخجل
لإنجازي هذا العمل، إلا أنني أحب هذا الفيلم كثيراً.
لكنني الآن أعرف إلى أين ينتمي.. مع أليس في بلاد
العجائب.. في عالم سوريالي، غير واقعي تماماً”.
غودار يولي اهتماماً عميقاً بالعلاقة بين الرجل
والمرأة، ويصورها بديناميكية متميزة. الفيلم، من بعض
النواحي، قصة حب مستحيلة، ضمن تعارضات سياسية وثقافية.
في ما بعد، صرّح غودار بأن “اللاهث” ليس من أفلامه
المفضلة لديه، بل أنه يجده فاشياً، وفاشيته تكمن في
رفض الفيلم لواقع العلاقات الاجتماعية، وبث خرافة
الوجود خارج تلك العلاقات.
إن عدم ارتياحه من الفيلم يعود إلى أنه “الفيلم الذي
حققته من أجل الآخرين. حلم كيف تصنع فيلماً. ربما كان
ينبغي للفيلم أن يتخلق، لكن ليس بواسطتي. إنه الفيلم
الذي أثار إعجاب النخبة أكثر من الجمهور العادي (..)
أشعر أنه ليس فيلمي. القليل منه ينتسب إليّ. لهذا
السبب أشعر بالقلق تجاهه. وقد احتجت إلى وقت طويل كي
أشفى منه. ما أعنيه هو أنك لا تصنع الفيلم، الفيلم هو
الذي يصنعك. إنه أشبه بالعمل والحياة.. تحتاج وقتاً
لكي تستعيد نفسك، أو على الأقل جزءاً من نفسك”. (كتاب
كولن ماكيب “غودار: صور، أصوات، سياسة”، 1980).
مع ذلك هو من أكثر أفلام الموجة الجديدة ثورية
وراديكالية.. ومن بين أكثر الأفلام تأثيراً، على
المستوى الفني، في تاريخ السينما.. ومن الأفلام التي
تعد نقطة تحوّل في مسار السينما العالمية، أو نقطة
انطلاق للسينما الحديثة.. واعتبره عدد من النقاد
“درساً في السينما.. السينما الحديثة”. لقد حطم أغلب
القوانين التقليدية الخاصة بالسرد والأداء وحتى الشكل،
حيث الانتقال السريع من موضع إلى آخر، عن طريق
المونتاج، لإقصاء ما لا يعد أساسياً للحدث، الذي في
أغلبه كان مرتجلاً. إضافة إلى مخاطبة الممثل المباشرة
للكاميرا، منتهكاً هذا الفعل الوهم أو الفروقات بين
الممثل والشخصية، والعلاقة التقليدية بين الفيلم
والجمهور، حيث تصبح هنا علاقة تبادلية، كل طرف يعكس
الآخر. إضافة إلى فصل الصوت والصورة وعدم الالتزام
بالتزامن بين العنصرين. على المستوى البصري نجد
الانتقال من لقطات واقعية وتلقائية إلى أخرى مؤسلبة أو
غير واقعية. كذلك على المستوى السمعي، نجد الانتقال
السريع من موسيقى رومانسية أو موسيقى الجاز إلى ضجيج
الشارع الباريسي.
وهو بكل هذا نجح في إعادة كتابة لغة السينما، مغيراً
القوانين التي بها كانت الأفلام تقدم قصصها إلى
الجمهور.. تقنياً وسردياً معاً.
صوّر الفيلم راؤل كوتار معتمداً على الإضاءة الطبيعية
دون اللجوء إلى أي إضاءة اصطناعية، مع التركيز على
تفاعل الضوء والظل، والذي كان يحمل الكاميرا إما
واقفاً أو جالساً على كرسي متحرك، بينما هناك من يدفعه
(أحياناً غودار نفسه) عندما تصاحب الكاميرا الشخصيات
أو الأحداث. وحركات الكاميرا غالباً ما تكون متواصلة،
لا تهدأ، وكأنها تلهث مع الشخصيات اللاهثة.
وقد سجّل المخرج ألان رينيه انطباعه عن الفيلم قائلاً:
“قدّم الفيلم دليلاً حياً على إمكان استخدام طرائق
جديدة في التصوير والمونتاج والحوار وتوظيف الصوت. هذا
الفيلم فتح لنا باب المغامرة”.
وقال عنه المخرج أوليفييه أساياس: “غودار اعتقد أنه
كان صانع أفلام، لكنه في الحقيقة كان شاعراً، وفيلمه
هذا فتح الثغرة”.
وقال الكاتب والمخرج بول شرادر: “اللاهث هو نقطة
ارتكاز تاريخ السينما”.
وامتدح أحد النقاد الفيلم قائلاً: “الآن صار لتعبيرات
مثل (سينما قديمة وسينما حديثة) معنى محدداً.. ومع
هذا الفيلم، صار ممكناً الإحساس بالفجوة بين الأجيال”. |