يؤكد غودار أن ما هو حي ليس ما يظهر على الشاشة، بل ما هو كائن
بين المتفرج والشاشة. يقول (The Rolling Stone،
يونيه 1969): "الفيلم لا يوجد على الشاشة، بل ينشأ من الحركة.
الفيلم متحرك. الحركة من الواقع إلى الشاشة ثم رجوعاً إلى
الواقع. والشاشة هي لا شيء، مجرد ظلال".
قبل ظهور الموجة الجديدة في فرنسا، كان هناك جمهور جديد
يتشكّل، جمهور يطالب بسينما جديدة ومختلفة عن تلك التي تُعرض
على الشاشات، وتبدو مملة ومبتذلة وتقليدية. الجمهور لم يكن
يبحث عن جمالية جديدة بل أراد شخصيات جديدة.. هكذا جاءت الموجة
الجديدة لتلبي هذا الطلب، وغيره.
هل يتوقع من المتفرج أن يستوعب كل ما يحتويه وما يطرحه الفيلم
عبْر مشاهدة واحدة، أم يريد من المتفرج أن يشاهد الفيلم أكثر
من مرّة لفهم المعاني تدريجياً؟
يجيب (The Christian Science Monitor, 3
August 1994):
"معظم الأفلام لا يشاهدها الجمهور أكثر من مرة واحدة، لأن نظام
التوزيع لا يجعلها متاحة وفي المتناول. لذلك فإن الناس يفوتون
نصف الأشياء الموجودة في الفيلم. الفيلم مثل الموسيقى: أنت لا
تفهم كل العلامات الموسيقية، مع ذلك لا يزال هناك ما يكفي
لجعلها جديرة بالاهتمام (..) في السينما، نحن تدربنا، بواسطة
الطريقة الأميركية في صنع الأفلام، على ضرورة أن نفهم ونستوعب
كل شيء على الفور. لكن هذا ليس ممكناً. عندما تأكل البطاطس
فأنت لا تفهم كل ذرّة من البطاطس".
من بين مخرجي الموجة الجديدة، ظل غودار الأكثر أسلبةً
وتجريديةً، مجرباً على نحو متواصل، وعلى نحو عملي، في كل تقليد
سينمائي. في الستينيات، كان اسماً فاعلاً ومؤثراً. وقد استمر
في استجواب تقنيات صنع الفيلم التقليدي، وفي أفلامه اللاحقة،
واصل بحثه الفكري عن بنى سردية جديدة، وسبْر جوهر الفيلم.
وطوال عمله السينمائي، سعى غودار إلى خلق علاقة جديدة بين
المتفرج والفيلم.
على الرغم من إنجازاته الرائعة، ومع أن تجاربه كانت موضع تقدير
وثناء، إلا أنه ظل شخصية خلافية، انقسم حولها النقاد. بينما
البعض ينتظر بلهفة، وفي تعاطف واستثارة، عرض أي فيلم جديد له،
كان آخرون يصرفون النظر عن أعماله باعتبارها كثيرة الادعاء،
مبهمة، مضجرة، وتفتقر إلى العاطفة.
أما الجمهور العام فقد صار يفقد اهتمامه بأفلام غودار،
والكثيرون وجدوا أنها تشكّل تحدياً فكرياً لهم، ولم يعودوا
يرون فيها قيمةً جديرةً بالمتابعة.
مع ذلك هو لم يهادن هذا الجمهور ولم يلجأ إلى تملقه. إنه
الفنان الذي يسعى باستمرار، وعلى نحو ثابت ومتماسك، إلى تحدي
الجمهور، وعدم الاتكاء على أمجاده، بل البحث باستمرار عن وسائل
جديدة في التعبير، في حين يظل دائماً مركّزاً بؤرته على هواجسه
الشخصية. وهو بذلك يقصي أولئك الذين يفضّلون تلقّي ما هو سهل
ومريح وقابل للتنبوء به.
في المؤتمر الصحفي، المنعقد في مهرجان مونتريال السينمائي،
1995، قال غودار:
"في وقت مبكّر جداً، استقبل الجمهور السينما بترحاب دافئ على
نحو استثنائي. ترحاب لم يمنحوه لأي شكل فني آخر. لكن ما كان
متمتعاً بامتياز، على الفور، هو الجانب المشهدي، المثير،
والمظهر التجاري من هذه السينما.. بالمعنى الأسوأ للكلمة. ذلك
لأن (التجاري) هو أيضاً مكوّن ضروري من السينما.
عندما احتفلت فرنسا بالذكرى المئوية للسينما، فإنها في الحقيقة
احتفلت بذكرى مرور 100 سنة على أول عرض أمام جمهور دفع مقابل
ذلك. اعتقد أن من الرائع دفع ثلاثة أو عشرة أو عشرين دولاراً
لمشاهدة عرض على شاشة واسعة. بعدئذٍ تقنع نفسك أن تلك هي
الأعجوبة التي تحتفل بها. في حين أن ثمة أعجوبة أخرى، وهي
العمل نفسه. لكن ربما لم تعد للناس حاجة كبيرة للعجيب والمعجز
في حياتهم. ربما الحروب التي يشاهدونها على شاشات التلفزيون
كافية بالنسبة لهم.
في الوضع الحالي للسينما، لا أظن أن أفلامي، وأفلام جان ماري
ستروب وجان فيغو وجون كازافيتيس، سوف تلقى إقبالاً أكثر مما
صادفته في حينها، بما أن التكنولوجيا – الفيديو والانترنت – هي
التي سوف تحدّد الأفلام الكلاسيكية، الضرورية. ما لم يقم
السينماتيك وأرشيف الأفلام بحماية أفلامنا، لكن هذه الجهات
ضعيفة، والسينما ليست من الفنون الجميلة، كالتشكيل. لا يوجد
سينماتيك قادر أن يضاهي متحف اللوفر في النجاح، وذلك ببساطة
لأن السينما، منذ ولادتها قبل مئة سنة، ما تزال فناً
ميكانيكياً".
*****
حسب الناقد كالوم مارش (مارس 2011): "الفيلم لا يطلب منا شيئاً
غير استعدادنا لقبوله كما هو، ليس له مطالب أخرى، نحن،
الجمهور، من لديه المطالب. نأتي إلى الفيلم، كما نفعل مع كل
الأفلام، ونطلب منه أن ينسجم مع توقعاتنا لما ينبغي أن يكون
عليه الفيلم. هي توقعات اعتباطية تقريباً، مع ذلك هي صارمة،
ومستمدة من سنوات طويلة من مشاهدة أفلام أخرى. ولأن أفلام
غودار غالباً ما تخفق في إرضاء هذه التوقعات، فإنهم يفترضون أن
أفلامه عموماً هي فاشلة، وليس لكونها مختلفة عن غيرها".
غودار يطلب من جمهوره أن يشارك في عمله، لا أن يسترخي على
كرسيه ببساطة ويستمتع به. يقول: "لا أميل إلى سرد القصص. أفضّل
أن استخدم نوعاً من النسيج المطرّز، الخلفية التي عليها استطيع
أن أزخرف أفكاري الخاصة".
رداً على سؤال عما إذا كان معنياً، في أي وقت مضى، وأكثر مما
ينبغي، بالنجاح التجاري أو الجماهيري..
أجاب غودار (في يوليو 1994): "ليس كثيراً. أنا راض عن ما أحرزه
من نجاح عادي ودخل عادي وحياة عادية. مستقبلاً؟ لا أدري. لكن
خلال أغلب مسيرتي الفنية، كسبت رزقاً مرضياً من صنع أفلام لا
أحد يرغب في مشاهدتها".
وحول مسألة نجاح الفيلم وفشله، يعلّق غودار (Film
Comment, Sep./ Oct. 1998):
"فيلمي الأول (اللاهث) حقق نجاحاً لم أتوقعه أبداً. فيلمي
الثاني (الجندي الصغير) أخفق تجارياً، وهذا الإخفاق وفّر لي
الحماية من النجاح. النجاح يفسد، ومن الصعب جداً تجنب ذلك.
في رأيي، الفشل أكثر إثارة للاهتمام من النجاح، لأن ذلك يشبه
الجسد المريض: بإمكانك أن تفحصه بعناية، تدرسه وتستجوبه، ثم
تقرر مكمن الخلل فيه".
رغم شهرته، إلا أنه، في شيخوخته، لم يعد اسماً جاذباً للجمهور.
ويبدو أنه كيّف نفسه مع حقيقة أن أفلامه لا يُقبل عليها
الجمهور العريض، ونادراً ما تحقق نجاحاً تجارياً.
يقول غودار (Cigar Aficionado Magazine,
Sep/Oct 1997):
"اليوم، جذب الجمهور يزداد صعوبة. بالطبع، كان ذلك صعباً في كل
الأوقات. الذين يهتمون بالأفلام الجيدة هم قليلون جداً، ولا
يمثلون جمهوراً جيداً. جمهوري كان على الدوام صغيراً جداً،
وصار اليوم أصغر. ولكي تحتفظ ببقائك، يتعيّن عليك أن تثير جلبة
وهرجاً في المهرجانات السينمائية".
يعتقد غودار أن جمهور السينما في العالم هو الذي تغيّر وليس من
يصنع الأفلام. الجمهور صار يفضّل الأفلام الهوليوودية ذات
الإنتاج الضخم، ويعتمد على الشاشة الكبيرة للهروب من الواقع،
بدلاً من اكتشاف الحقائق الكونية.
يقول غودار (Cigar Aficionado Magazine,
Sep/Oct 1997):
"الأفلام ليست جيدة كما ينبغي. الممثلون يعملون، لكن لا يعرفون
كيف يكونون في حال أفضل. والناس لا يجدون في الأفلام الفرنسية
الأشياء التي تثير اهتمامهم. حتى عندما يجدونها، يكتشفون أن
المادة صعبة أكثر مما ينبغي. إنهم يفضّلون الفيلم الأميركي.
الجمهور العالمي أصبح جمهوراً أميركياً. في هذه الأيام،
يعتبرون الفيلم جيداً إذا حقّق إيرادات جيدة. في الأدب، هذا لا
يحدث مطلقاً. بينما يحدث دائماً في مجال السينما. الثقافة أضحت
تجارة. الفن هو شيء مختلف".
يؤكد النقاد أن أفلام غودار هي جزء من حياة الناس اليومية.
إنها تعلّم الجمهور طريقة أخرى في الكلام والرؤية، أي في
التفكير والشعور. كما يؤكدون أيضاً على ضرورة تجنّب الحكم على
أفلام غودار على نحو انفرادي، بمشاهدة فيلم هنا وفيلم هناك،
إنما من خلال رؤية أعماله كوحدة كاملة.
يقول غودار (Cigar Aficionado Magazine,
Sep/Oct 1997):
"لا أفهم أبداً لماذا يتذكّرني الناس، ولم أنا ما زلت معروفاً.
ربما لمجرّد أنني، في البداية، أنجزتُ شيئاً أحبه الناس. أظن
أنني، بوجودي، أثبت أني ما زلت حياً تماماً، وأن تحقيق فيلم
جيد لا يزال ممكناً. ربما لهذا السبب يظل اسمي معروفاً. مع
ذلك، دائماً أتساءل لماذا أنا معروف، ذلك لأن أحداً لا يشاهد
أفلامي.. لا أحد تقريباً".
في سنواته الأخيرة، بدا غودار يائساً من قدرة السينما على
إعادة اختراع نفسها، أو أن تملك أي نوع من التأثير الاجتماعي.
إنه يقول في حسرة: "السينما انتهت. في وقت سابق ما، ربما كان
يمكن للسينما أن تحسّن المجتمع، لكن ذلك الوقت قد انقضى من غير
رجعة". |