في العام 2001 أخرج الفرنسي كلود ميلر فيلم "بيتي فيشر
وقصص أخرى" المأخوذ عن رواية الكاتبة البريطانية روث
رندل "شجرة الأيدي"
Tree of Hands
the
التي نشرت لأول مرة في بريطانيا
في 1984.. وبهذه المحاولة ينضم كلود ميلر إلى مخرجيْن
أوروبييْن آخريْن (مشهوريْن بأفلامهما المتميزة) قاما
بتحويل عملين للكاتبة روث رندل إلى الشاشة.
من هي روث رندل؟
ولدت في 17 فبراير 1930 وتوفت في 2 مايو 2015 وهي في
الخامسة والثمانين. من أب بريطاني وأم سويدية، وكلاهما
كانا يمارسان التدريس. روث اشتهرت ككاتبة لأعمال
بوليسية وإثارية تدور حول ألغاز الجريمة السيكولوجية،
التي تسبر بعمق الخلفية النفسية للمجرمين وضحاياهم،
والعديد منهم يعانون من اضطرابات عقلية أو هم معزولون
اجتماعياً. كما أن رواياتها تتحرّى عدداً من الثيمات
كالاستحواذ الرومانسي، صعوبة التواصل وسوء التفاهم،
تأثير الصدفة والتزامن، الأسرار العائلية، العنف
الأسري، وتأثير التحولات الاجتماعية.
من مؤلفاتها الروائية: المنزل السرّي للموت (1968) وجه
العابر (1974)
بحيرة الظلام (1980) التحدث إلى الرجال الغرباء (1987)
مفاتيح للشارع (1996) 13 درجاً إلى الأسفل (2004)
الفتاة التي تسكن في الجوار (2014) زوايا مظلمة
(2015).
روث رندل نالت شهرة واسعة، ولقيت أعمالها رواجاً،
وحازت على العديد من الجوائز. من بين أكثر من أربعين
كتاباً ومجموعات قصصية كتبتها باسمها الحقيقي، وعشر
روايات نشرتها باسم مستعار هو بربارا فاين، ليس أقل من
47 حكاية تحولت إلى سيناريوهات، ست روايات انتقلت إلى
شاشة السينما، والبقية قدّمت على شاشة التلفزيون.
لكن ما الذي يجذب السينمائيين الأوروبيين إلى أعمال
هذه الكاتبة الإنجليزية؟ وما الذي ينتج عن نقل تلك
القصص من مواقعها البريطانية إلى الريف الفرنسي أو
ضواحي باريس ومدريد؟
شجرة الأيدي
"شجرة الأيدي" عنوان مروّع، مجازي أكثر من "بيتي فيشر
وقصص أخرى" الذي اختاره كلود ميلر عنواناً لفيلمه
الفرنسي، ذلك لأن العنوان الأصلي يشير إلى صورة لم
يوظفها ميلر في إعداده.. لوحة معلقة على جدار جناح
بالمستشفى الذي يتلقى فيه الطفل العلاج، حسب الرواية.
الجدير بالذكر أن هذه الرواية تحولت إلى فيلم آخر من
إخراج جيلز فوستر بعنوان "الضحية البريئة".
بطلة الفيلم روائية ناجحة، مشهورة، وثرية. في اللحظة
التي يموت فيها طفلها، على نحو مأساوي، وعلى نحو غير
متوقع، تظهر أمها المريضة عقلياً، التي حاولت أن
تقتلها وهي صغيرة، ومعها طفل من المفترض أن تعتني به
إكراماً لصديقتها. الروائية تكتشف في ما بعد أن الطفل
مختطَف، وأن أمها أحضرته لها لكي تخفّف عنها حزنها على
فقدان ابنها. هي تقرر أخذه إلى مركز الشرطة رغم أن ذلك
قد يفضي إلى تعريض نفسها لتهمة جنائية، إضافة إلى حجز
والدتها المجنونة. لكن عندما تكتشف تعرّض الطفل للضرب
والتعذيب، ترى أن من الأفضل أن يبقى معها بعيداً عن
أمه. في غضون ذلك، ترتاب الشرطة في حدوث عنف أسري، لكن
التحقيقات مع والد الطفل وصديق الأم تثبت براءتهما.
ابن الروائية في الرواية يبلغ الثانية تقريباً، ويموت
فجأة بعد اصابته بمرض نادر، بينما في الفيلم يبلغ
الرابعة من عمره (وكذلك الطفل المخطوف)، هذا يعني أن
بوسعهما أن يكونا أكثر نشاطاً. الابن في الفيلم يموت
لأن فضوله يقوده لأن ينحني أكثر من اللازم خارج
النافذة، الأمر الذي يتسبب في سقوطه.
المبدأ الأول لتحويل العمل الأدبي إلى الشاشة:
الجغرافيا (نقل الأحداث من شمال لندن إلى ضواحي باريس)
يمكن التغاضي عنها إذا أمكن المحافظة على الأساس
السوسيولوجي (الاجتماعي).
السرّ باب الجريمة
A Judgement in Stone
رواية نشرتها روث رندل في العام 1978 وتعد من أفضل
أعمالها، وقد تحولت في العام 1995 إلى فيلم فرنسي
بعنوان "احتفال"
Le Ceremonie
للمخرج كلود شابرول.
في الرواية، الشخصية الرئيسية خادمة ذات ماض مخفي،
تعمل لدى عائلة ثرية تعيش في قصر خارج القرية. مع أن
الخادمة تؤدي واجباتها بكفاءة، إلا أن كل فرد من
العائلة يدرك أخيراً أن ثمة شيئاً مثيراً للقلق يتصل
بشخصيتها. الخادمة تصادق امرأة في سنّها، وهي عاملة في
مكتب البريد المحلي، من عادتها أن تفشي الأسرار
الشخصية، وتنشر الإشاعات الخبيثة، كما أنها عضوة في
طائفة دينية غريبة.
في ما بعد، ابنة العائلة، الطالبة التي تتعاطف مع
الخادمة وترغب في مصادقتها، والتي تستاء من معاملة
عائلتها لها، تكشف النقاب عن السر الذي تخجل الخادمة
من إفشائه، وتشعر إزاءه بالخزي والعار: أنها أمّية، لا
تعرف القراءة ولا الكتابة.
هذا الكشف يعجّل من حدوث المأساة: تقوم الخادمة
وصديقتها بقتل كل أفراد العائلة في مجزرة رهيبة، من
دون أن تثبت التهمة عليهما.
شابرول نقل القصة من الريف الانجليزي إلى قرية منعزلة
في بريتاني بفرنسا، لكنه قام بتغيير أعمار الخادمة
وصديقتها من الشيخوخة إلى منتصف الثلاثينات، وأسند دور
الخادمة إلى ساندرين بونير والصديقة إلى إيزابيل أوبير
(كلتاهما فازتا بجائزة التمثيل في مهرجان فينيسيا عن
هذين الدورين). وقد برّر شابرول هذا بقوله: "لم أغيّر
الحبكة وإنما بنية الشخصيات. في الرواية، الشخصيتان
هما في سن متقدمة، ولا تتمتعان بجاذبية، بينما في
الفيلم هما تتميزان بالجمال والجاذبية.. هذا في
اعتقادي يجعل الأفعال تبدو أكثر بشاعة ورعباً".
من ناحية أخرى، ثمة مثال مهم لانطلاق شابرول من الأصل
الروائي، على الرغم من إصراره على الأمانة في الإعداد.
صحيح أنه بقى قريباً من القصة لكن ماذا عن الحبكة..
الطريقة المحددة، الدقيقة، التي تُروى بها الحكاية؟
في الفقرة الأولى من الرواية نقرأ هذا الملخص المكثّف:
"أيونايس بارشمان قتلت عائلة كوفرديل لأنها لم تكن
تعرف القراءة أو الكتابة. لم يكن هناك أي دافع وأي سبق
تصميم وإصرار... وبهذا الفعل هي لم تنجز شيئاً لنفسها
غير الكارثة. ومع أن رفيقتها وشريكتها مجنونة، إلا أن
أيونايس لم تكن كذلك. بل هي سليمة العقل".
في بيان الافتتاحية هذا تعرّفنا الكاتبة روث رندل ليس
فقط على بطلة الرواية بل توجهنا إلى ما ينبغي أن نظنه
بشأنها. إنها تكشف لنا ليس فقط ما سوف يحدث لكن أيضاً
سبب ونتيجة الذروة الدموية. وفي الجملة الختامية هي
تعرض ثيمتها الرئيسية.. تلك الثيمة التي قد تبدو، إلى
حدٍ ما، في خلاف مع البعد السياسي في فيلم كلود
شابرول.
هذه الكلمات ترسم الاختلاف الجوهري بين (أغلب)
الروايات والأفلام. ذلك لأن في الرواية – على الأقل
تلك التي تحرز درجة من الرواج التجاري – القصة تُروى
كما لو أنها قد حدثت سابقاً، كما لو أن صوت الراوي تحت
السيطرة المطلقة. شابرول أيضاً يسمح لجمهوره أن يعلم
عن عسر القراءة عند شخصيته الرئيسية قبل أن يكتشف ذلك
أفراد العائلة الذين سوف يتعرضون للقتل في النهاية.
لكن هذا يستغرق عشرين دقيقة قبل أن ينضم المتفرج إلى
راوي القصة في معرفة المزيد عن بطلته أكثر من الآخرين
في عالمه الخيالي.
كل هذا يتصل بالمبادئ الهتشكوكية في تنسيق التشويق.
ربما هذا يفسّر أخيراً: لماذا روث رندل؟
هي على نحو بيّن مهتمة بالسبب والكيفية أكثر من
اهتمامها بمن ارتكب الجريمة. إن التركيز الدقيق في
كتابتها على التفاصيل المبتذلة ظاهرياً للحياة
العائلية اليومية لابد وأنها أدت إلى افتتان المخرجين
الفرنسيين الذين من ضمن أسلوبهم إلقاء نظرة فاترة، إن
لم تكن قاسية، على مخلوقاتهم في حالاتهم اليومية
العادية مثل: قيادة السيارة، التسوّق، تناول الطعام،
ممارسة الحب، مشاهدة التلفزيون.. قبل أن تقع كارثة ما،
عنيفة وتُفقد الشخصيات حس الاستقرار والطمأنينة.
من جهة أخرى، تتميّز روث بقدرتها على بناء الشخصيات
التي هي غير محبوبة ولا تثير التعاطف.. هذه السمة التي
تتقاسمها، على نحو ظاهري، مع باتريشيا هايسميث،
الكاتبة التي اشتهرت بأعمالها البوليسية ذات الطابع
السيكولوجي الإثاري، الأثيرة أيضاً عند السينمائيين
الأوروبيين.
الكاتبة روث رندل أثنت على فيلم شابرول وصرحت قائلة
بأن العمل هو أحد الاعدادات القليلة، من بين رواياتها،
التي أشعرتها بالسعادة.
وتجدر الإشارة إلى أن الرواية تحولت من قبل، في العام
1986، إلى فيلم سينمائي مثلته ريتا توشنجهام بعنوان
The Housekeeper.
المبدأ الثاني لتحويل العمل الأدبي إلى الشاشة: ليس
مغزى أو دلالة الشخصيات كما هي مكتوبة لكن العلاقات
البنائية، التركيبية، في ما بينها هي التي ينبغي أن
تبقى ثابتة ومتبلورة.
إذن هل نستطيع القول بأن ما يروق لهؤلاء المخرجين، في
اختيارهم لأعمال روث رندل، هو تلك القضايا التي تطرحها
الروايات؟
في حالة المخرج كلود ميلر، عمله يأتي بعد فيلمه
Class Trip
(1998) الذي فيه يتناول اشتباه فتى بأن أباه الصارم،
المفرط في الحماية، قد يكون هو قاتل الطفل. إذن ربما
ثيمة علاقة الأبناء بذويهم هي التي جذبته إلى الرواية.
لكن هل يمكن للأمومة أن تكون أي شيء آخر غير صنف
بيولوجي؟ هل يمكن لابنة أم سيئة أن تصبح أماً طيبة
لولد هو ليس ابنها الحقيقي، والذي حصلت عليه بطريقة
غير شرعية؟
أما كلود شابرول فيقول بأنه استجاب إلى موضوع العداء
أو التنافر الطبقي المعبّر عنه من خلال نساء قريبات من
قاع الركام الاجتماعي، ويضيف: "كنت أسلّي نفسي بالقول،
أن هذا هو الفيلم الماركسي الأخير. الصراع الطبقي لا
يبدو حقيقياً بالنسبة لأولئك المنتمين إلى الطبقات
العليا، لكنه في الواقع حقيقي جداً بالنسبة لأولئك
المنتسبين إلى الطبقات الأدنى. النساء، في عالم ذكوري
كعالمنا، هن ضحايا".
المبدأ الثالث لتحويل العمل الأدبي إلى الشاشة: تماسك
الموضوع يوفر نقطة الانطلاق الأساسي للإعداد الفعال.