هل يحق للمتفرج أن يشاهد الفيلم، ويحسّ به ويُفتتن به
ويحبه ويقدّره ويكيل له المديح ويشكر مبدعه، من دون أن
يفهم كل صوره، وكلماته، وحركاته؟ ومن دون أن يطالب بأي
شرح أو تفسير، أو يؤول الدلالات والإيحاءات والمجازات
والرموز؟ أي أن يقبل بالفيلم كما هو، بذاته، بلا
تأويلات أو قراءات من خارجه؟
لماذا يتعيّن علينا أن نستنبط أو نستنتج معانٍ قد لا
يقصدها العمل الفني، وقد لا يحتملها؟ لماذا يحلو لنا
أن نقتحم دواخل النص أو الفيلم، وننتزع من بين أحشائه
ما نعتقد أنه اللبّ والجوهر وغاية العمل الفني، في حين
أن ما يريد أن يقوله ظاهر وموجود على السطح، على
المستوى الظاهري والمرئى، وربما يكون بسيطًا ولا يحتاج
إلى كل هذا العناء؟ لماذا نفترض أن العمل الفني يعني
شيئًا غير ما يعنيه ظاهره؟
ثمة أفلام لا تعبأ كثيرًا بالحكاية، ولا تهتم بالحبكة
والبناء السردي المألوف، بل قد لا نجد أحداثًا أساسية
وحاسمة تتعاقب وتتصاعد، ومع ذلك يهزّنا الفيلم
ويذهلنا، لأنه يخاطب مشاعرنا وأحاسيسنا، ويجعلنا نعيش
تجربة بصرية مدهشة، من دون أن يكون ضروريًا فهمُنا
واستيعابُنا لكل جزئية وكل محتوى. لماذا لا نكتفي
بالمتعة أو اللذّة التي تتولّد من اتصالنا بمثل هذا
العمل الفني، وتفاعلنا مع جمالياته البصرية والسمعية،
مع عمق الرؤية، وثراء التجربة، وجدّة الوسائل؟ لماذا
لا نكتفي بالجذل والابتهاج الغامر والافتتان لدى
رؤيتنا للصور الأخاذة، حتى لو لم ندرك أبعادها
ودلالاتها؟ لماذا ينبغي أن نفهم معنى كل شيء؟ وأن نفسد
تلك اللذّة بمحاولة معرفة المعنى والمغزى والمقصد
والغاية؟ ولماذا نعتقد أن أي عمل فني لا بد وأن ينطوي
على معنى ما.. ما الذي تعنيه لوحة الموناليزا أو كرسي
فان غوخ؟ ما الذي يعنيه فيلم شانتال أكرمان «جان
ديلمان»؟ لماذا يستبدّ بالنقاد هاجس تأويل كل مظهر،
جزء، صورة، صوت، لون، حركة، نظرة، إيماءة؟
في عام 1964، كتبت سوزان سونتاغ مقالة بعنوان «ضد
التأويل»، وصفت فيه التأويل بأنه «انتقام
الفكر من الفن» وأنه «انتهاك
للفن، وتحويله إلى شيء للاستهلاك».
وبيّنت أن التأويل لا يترك العمل الفني وشأنه، بل يسعى
إلى ترويضه باختزاله إلى مضمون فحسب، ثم بتأويل ذلك
المضمون، كما لو أن ثمة استياء، بوعي أو بلا وعي، من
العمل الفني، يفضي إلى الرغبة في استبدال شيء آخر به.
تطرّقت سونتاغ ايضًا إلى الفهم الناقص للنقد باعتباره
تفسيرًا لعناصر العمل الفني، وترجمته إلى شيء آخر،
وعندئذ يصبح الفن مجرد توضيح بصري لفكرةٍ ما.
كل فرد يشعر بحاجة إلى تفسير الأفلام وتأويلها في
محاولة لاكتشاف ما يريد المخرج أن يقوله. هذا لا يعني
أن العمل الفني يخلو من أي معنى، أو أن مضمونه ليس
جديرًا بالنقاش والجدل، لكن حين يبذل بعض الناس كثيرًا
من الوقت والجهد والطاقة في محاولة فهم ما يعنيه فيلم
ما، فإنهم يتغاضون عن ملاحظة ما يتمتع به الفيلم من
جماليات بصرية، من ابتكارات في توظيف الصوت والإضاءة
والألوان، من قوة وبراعة في الأداء، الأمر الذي يوحي
بأن المحتوى أهم من الشكل وجماليات الفيلم.. عند
الناقد والمتفرج.
بدلاً من الاستمتاع بعناصر الفيلم، ينحصر اهتمامهم في
تفسير محتويات كل مشهد، ومعرفة ما يقصده كل جزء،
غافلين عن النواحي الكثيرة والمتنوعة التي يبني بها
مبدع الفيلم الصورَ من أجل إحداث استجابات عاطفية
وحسّية، قبل أن تكون فكرية، عند المتفرج.
هناك أفلام عظيمة تستعصي على الفهم، ومن أمثلة ذلك،
فيلم بارادجانوف «لون الرمان». قسم كبير لم يفهم ما
يريد أن يقوله الفيلم، وحتى يومنا، يجد الجمهور صعوبة
في استيعاب وإدراك كثيرٍ من مَشاهد الفيلم. مع ذلك، في
يومنا، يتباهى الشعب الأرمني بهذا الفيلم -الذي لا
يفهمه- وبخالقه. إنه فيلم زاخر بما هو جديد وجميل
ومدهش وفاخر ورائع وآسر. هو فيلم يخاطب الحواس،
ويثيرها، بتكويناته البصرية المذهلة.
الاهتمام فقط بتأويل المحتوى، والبحث عن المعاني، يفضي
إلى تحويل تجربة المشاهدة العاطفية، الحسّية، إلى
تمرين فكري عقلاني، كما يفضي إلى التغاضي عن الكامن
الجمالي في الصورة وقدرتها على إثارة استجابات عاطفية
وحسيّة.
«لون
الرمان» يبرهن على أنه بإمكان المتفرج أن يحب عملًا
فنيًا، أو يُعجَب به، أو يقدّره، من دون حاجة إلى أن
يفهمه، إذ يكفي أن تشاهده بروح منفتحة، مرنة، وبلا
معايير مسبقة. هذا ينطبق على «راشومون» كوروساوا،
و«بيرسونا» بيرغمان، و«أوديسة الفضاء» لكوبريك.. على
سبيل المثال لا الحصر.
بل إن المعنى، في أحوال عديدة، يراوغ مبدع العمل الفني
نفسه، والذي أحيانًا يجد صعوبة في إدراك المغزى
والمعنى، ويرى في الغموض العنصر الأساسي الجذاب.
لقد اعتمد بونويل، مع شريكه سلفادور دالي، في فيلمهما
«كلب أندلسي»، على استبعاد أي صورة أو حدث يعتقدان أنه
منفتح على تفسير أو تأويل منطقي، والاحتفاظ فقط بالصور
التي لا يستطيعان تفسيرها عقلانيًا. هذا لا يعني
إنكارًا للمعنى أو الدلالة، بل هو ببساطة رفض لكل ما
هو غير جدير بالاهتمام من معانٍ تمليها التداعيات
والتعاقبات المنطقية والعقلانية.
يقول بونويل: «محرّك الصور كان لاعقلانيًا. إنه خفي،
غامض، وغير قابل للتفسير.. ليس بالنسبة إلى المتفرج
فحسب، بل بالنسبة إلينا أيضًا». ويقول أيضًا: «إذا صار
معنى الفيلم واضحًا، عندئذ لا يعود قادرًا على إثارة
اهتمامي. الغموض هو العنصر الجوهري في كل عمل فني».
فلليني، على حد تعبيره، ينجذب إلى كل ما هو غامض.
المجهول يسحره ويشدّه إليه. يقول: «لا
أميل إلى فكرة (فهم) الفيلم. لا اعتقد أن الفهم
المنطقي، العقلاني، عنصر أساسي أو جوهري في استقبال أي
عمل فني. إما لدى الفيلم شيء يريد قوله لك، أو ليس
لديه ما يقوله. إذا حرّك الفيلم مشاعرك، لا تكون بحاجة
إلى من يشرح ويفسر لك الفيلم. وإذا لم يحرّك مشاعرك،
فإن أي شرح أو تفسير لن يحرّك مشاعرك».
إن نهاية فيلم «أوديسة الفضاء» لا تُظهر كثيرًا ولا
تفسّر كثيرًا، بل تساعد المتفرج على المشاركة ليخلق
لنفسه التجربة التي تؤلف الفيلم. الفيلم بالتالي يصبح
للمتفرج تجربة ذاتية كثيفة تصل إلى الوعي الباطني
بالطريقة نفسها التي تمارسها الموسيقى، تاركةً المتفرج
حرًا في التأمل في محتواه الفلسفي والمجازي. عن غموض
نهاية الفيلم، يقول ستانلي كوبريك: «يتعيّن عليك أن
تترك شيئًا لمخيلة المتفرج».
في حديثه عن فيلمه «المرأة هي المرأة»، يقول غودار: «الجمهور
لم يعجبهم فيلمي لأنهم لم يعرفوا ما الذي يعنيه. مع
أنه لم يكن يعني شيئًا. إذا رأيت باقةً من الزهور على
الطاولة، فهل هذا يعني شيئًا؟ إنه لا يبرهن شيئًا. أنا
ببساطة تمنيت أن يقدم الفيلم المتعة».
إنغمار بيرغمان يتجنب أن يكون صريحًا وواضحًا في
التصريح بما يريد أن يضمنه في أفلامه من رسائل أو
معان.. يقول: «لا أطلب من المتفرج أن يفهم، بل أن
يشعر»، وهو يجد صعوبة في الكشف عن مدلول الموضوع
ومغزاه، سواء أثناء كتابة السيناريو أو أثناء التصوير،
بل قد يحدث أن ينتهي من العمل في الفيلم من دون أن
يكون قد أدرك تمامًا هذا المغزى. «إني أكتب
سيناريوهاتي من غير أن أدرك معناها تمامًا. وقد أحتاج
إلى وقت طويل حتى أتمكن من تحديد الدافع الحقيقي لعملي».
أما تاركوفسكي، فيقول: «يسألونني
دائمًا عن معنى الأشياء في أفلامي. هذا مخيف. الفنان
لا يجب أن يكون مسؤولًا عن المعاني. شخصيًا لا أعرف ما
يمكن أن تمثّله رموزي. ما يهمني هو أن تثير أعمالي
مشاعر معيّنة مبنيّة على الاستجابات الداخلية. إذا كنت
تبحث عن المعنى فسوف تخفق في إمساك كل ما يحدث أمامك».
ما نعنيه بالصعب والغامض، هو ما ينشأ في عملية التلقي،
عندما يلجأ مبدع العمل الفني إلى طمس التخوم والفواصل
والفوارق بين الأزمنة، فلا يدرك المتفرج، من الوهلة
الأولى، في أي زمن هو، وما إذا الحدث يقع في الماضي أم
الحاضر، أو حين يسيء المتفرج تأويل ما يراه على الشاشة
في لحظة حدوث الفعل، أو عندما يعجز المتفرج عن تعيين
حقيقة الصورة وما إذا كانت تنتسب إلى الواقع أو
الخيال.. خصوصًا إذا كان المخرج يرفض أن يستخدم أي
مؤثر خاص في التمييز بين ما هو واقعي وما هو حلمي،
مثلًا، فيصوّر الرؤيوي أو الحلمي مثلما يصوّر الواقعي
الموضوعي سواء في المظهر أو الإيقاع، كما يرفض المخرج
أن يقدّم معلومات بشأن شخصياته أو محتوى عمله.
هناك مخرج يريد أن يساعد المتفرج، فيضع له المفاتيح
التي قد تفك مغالق بعض الصور أو الأجزاء، وقد يحل بعض
الشفرات (عبر أدوات معيّنة، أو من خلال الإضاءة أو
الثيمة الموسيقية)، ومخرج آخر يرى أنه لا ضرورة لتزويد
المتفرج بالمفاتيح، واثقًا من أن المتفرج قادر
-بأدواته الخاصة- على اختراق سطح الأشياء واكتشاف ما
يبحث عنه، ولأنه لا يريد لفيلمه أن يتحول إلى مجرد
قصة، أي يتحول إلى بُعد واحد، يحتمل قراءة واحدة، في
حين أنه يطمح لأن تتعدد القراءات والتأويلات حول عمله.
الفنان لا يسعى وراء الغموض أو يتعمده. الغموض شيء
محتوم ويتعذّر اجتنابه. إن درجةً معيّنةً من الغموض هي
ثمينة، لأنه يتيح للمتفرج أن يملأ المساحات الفارغة،
أو يضيف بنفسه إلى التجربة البصرية مختلَف التفاصيل
الضرورية. إنه الغموض الذي يتصل بكل الفنون.. هكذا
نسمع الشاعر ت. إس. إليوت يقول: «إن الشعر العظيم قادر
أن يتصل بالآخر قبل أن يكون مفهومًا تمامًا».
يتحدث الشاعر ريلكه عن التشكيلي سيزان، فيقول:
«لحظات
الإشراق عند الرسام لا يجب أن تأتي إليه عبر وعيه. إن
اكتشافاته، التي هي غامضة حتى بالنسبة إليه، يجب أن
تتجاهل طريق التأني الطويل، وتمضي بسرعة فائقة نحو
عمله».
العمل الفني، في المحصلة الأخيرة، ينتج عديدًا من
القراءات الحافلة بالمعنى. ليست هناك قراءة واحدة فقط،
فالفيلم كائن متعدّد الأشكال. والأعمال الصعبة تحتمل
تأويلات متعددة، لكن لا ينبغي أن يفرض أحد تأويله
الخاص باعتباره التأويل الأصح والأنسب والنهائي.
كنقطة أخيرة أود التطرق إلى ظاهرة بدأت تنتشر مع شيوع
وهيمنة السوشيال ميديا، وتتصل بالنقد السينمائي. الآن،
أي شخص يتعامل مع هذه الوسائط صار يظن نفسه جديرًا
ومؤهلًا لإصدار حكم نقدي على أي عمل فني. إن قناعته
بأنه قادر على تقييم ونقد أي عمل فنى، هي تعبير ضمني
عن ازدرائه بالعمل، واستخفافه به. مثل هذه الأحكام
النقدية غالبًا ما تكون متسرعة، سطحية، ولامسؤولة، وكل
هَمّ الناقد هنا هو قطع أوصال العمل بحجة تحليله. وكما
يقول تاركوفسكي، لا يمكن أن تحلّل عملًا دون أن
تدمّره، وإن تحليل الفيلم أمر غير مجدٍ ولا معنى له،
فالفيلم وحدة عضوية متناسقة الأجزاء لا ينبغي شطرها
إلى قطع صغيرة.
لكن هذا لا يعني أن الفنان لا يكترث بالجمهور عمومًا،
بل على العكس، هو يرغب في التواصل مع الجمهور العريض،
لكن ضمن شروطه الفنية وليست تلك الشروط التي يفرضها
المنتجون. ليس في الأمر تناقض، إذ للفن شروطه
الإبداعية، ومبادؤه الخاصة للتطور، والتي لا يمكن
التضحية بها، أو التنازل عنها، من أجل مقابل وهمي هو
إرضاء كل الناس، أو أن يكون أداة تابعة وخاضعة، وأن
يكون مرفّهًا فحسب.