بدلاً من
الانقطاع أو المغايرة وجدنا الاستمرارية وصيانة الموروث، بدلاً من صياغة العناصر وفق منظورات وطرائق حديثة وجدنا
تثبيتا وتعزيزاً
للأساليب القديمة والمنظورات العاجزة عن استشراف الأفق وقراءة الحاضر(لكي
لا نقول المستقبل)، ربما عكست أفلام المرحلة الواقع المتحول لكنها لم
تخترقه، لم تستكشف جوهره وحركته عبر معالجات مختلفة وابتكارات فنية.
في أواخر
الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، كانت الحركة النقدية السينمائية في
مصر صارمة إلى حد القسوة في تقييم الأفلام المصرية، وكانت هذه الحركة ذات
رؤية واضحة وتوجه محدد بفعل تأثرها بالنظريات السينمائية الجديدة- آنذاك-
وتفاعلها النظري مع التيارات والحركات السينمائية العالمية،
النقد كان يسعى لإظهار مدى تخلّف وسطحية المعالجات والأشكال التي كانت تقدمها الرموز التقليدية،
وإذا كان
-
هذا النقد
-
يلجأ أحياناً إلى النبرة الحادة، الساخرة والتهكمية، فلأن الرصانة لم تكن
ممكنة أو مجدية أمام سيل جارف من الأعمال السطحية والمبتذلة.
الطموح
السينمائي كان قاصراً أو متواضعاً إلى أبعد حد إزاء الطموح النقدي،
وتدريجيا، في إيماءة تشير ربما إلى اليأس أو ربما بدافع دحض التهمة
بالتعالي واللا واقعية، قام النقد بتخفيف صرامته، وتنازل قليلا عن مطالبه
الفنية، مرحّبا بأي فيلم يحاول أن يجمّل أو يطور الاتجاه السائد دون أن
يخرج عليه أو يتمرد ضده، حتى وإن لم يكن يقترح أسلوباً جديداً وقيماً
جمالية مغايرة، كان ثمة اعتقاد بأن تشجيع محاولات كهذه سوف
يساهم في تنقية السينما الراهنة من شوائبها وسوف يمهد لمحاولات أخرى أكتر
اختراقا وتجاوزا، اعتقاد أو تصور كهذا كان سليماً
إلى حد ما، لكنها عملية بطيئة وغير مضمونة، إضافة إلى احتمالية تعزيز
وتقوية الاتجاه السائد من خلال الصقل والتحسين عوضاً عن تغييره وإحلال
البديل المختلف جذريا.
عند رصد
مضامين وأشكال الأفلام المنتجة خلال العقدين الأخيرين، نلاحظ هيمنة اتجاهين رئيسيين:
الأفلام الهروبية التي لا تتصل بقضايا المجتمع والوجود الإنساني،
إنما تسعى كهدف أساسي
لإثارة المتفرج والترفيه عنه بالمعنى الضيق والساذج، سواء في إطار إثاري أو
غنائي أو ميلودرامي أو فكاهي، والاتجاه الآخر يتمثل في الأفلام التي تعرض
مشكلات الواقع الظاهرة ( البيروقراطية، الهجرة، أزمة السكن.. إلخ) وتشير
إلى مواطن الخلل، وأحيانا تتناول قضايا سياسية مباشرة لكن عدم اهتمامها
بالنواحي الجمالية وبالتوظيف المدرسي للعناصر الفنية يجعلها تبدو أشبه
بالتحقيق الاجتماعي
أوالسياسي، وأقرب إلى الدراما التلفزيونية، والملاحظ أن أفلام كلا
الاتجاهين تتبنى المعايير التقليدية، وتستخدم البنى المستهلكة ذاتها،
مفتقرة إلى الأصالة والجدة والابتكار والطموح الفني.
خارج هذا
السرب، هذا الركام غير الملفت والزائل، يتحرك اتجاه مغاير ومثير للاهتمام،
وإن كان محدود التأثير وضمن نطاق ضيق، من الأفلام التي ترتكز على أرضية
ثقافية صلبة، منطلقة من معرفة سينمائية متفاعلة مع المنجزات العالمية، ومعبرة عن رؤى وأحلام وهموم مختلفة..بعض
أفلام خيري بشاره، ومحمد خان، ورأفت الميهي، ويسري نصر الله، داوود عبد
السلام، إن عدداً من أفلامهم تعد انجازات متميزة ومهمة، تتعامل مع السينما
كوسط ثقافي
وجمالي، وتستجوب المشاعر والعواطف الإنسانية في أوضاع وحالات مركّبة، وتطرح
موضوعات معاصرة عن علاقة الفرد بمحيطه، بحاضره وماضيه، بأحلامه.. وذلك عبر رؤية نقدية لا تخلو من الروح الشاعرية.
هؤلاء
المخرجون لا يشكلون حركة ذات سمات وملامح وخاصيات محددة ومميزة، أو مرتبطة بمنهج ونظرية معينة،
أو تتقاسم اتجاها فكريا أو فنياً مشتركا، إنما يعبّرون عن جهود متفرقة
يوحّدها الطموح إلى تجاوز السائد والمستهلك من الأساليب والمضامين، وتجمعها
الرغبة في التعبير عن اهتماماتها وأحلامها الذاتية المتصلة باهتمامات
وأحلام الآخرين، كل منهم يبحث عن شكله الخاص في التعبير، لكن دون أن يتجاهل
ضرورة إحراز القبول الجماهيري
والإطراء النقدي.. وهو سعي مشروع إذا لم يرافقه الاضطرار إلى تقديم تنازلات
تحت ضغوطات الإنتاج والتمويل.
من بحوث
محمد خان في إشكالية فقدان البراءة ورغبة شخصياته في
تحقيق الحلم المستحيل ( في بعض أفلامه)، لرؤية رأفت الميهي الساخرة لجنون
واقعه، إلى استكشافات خيري بشارة لأشكال تتناغم مع موضوعاته ( في بعض
أفلامه)، لاستقصاء داوود عبد السيد لعلاقات غير مطروقة ليس بين الفرد
ومحيطه فحسب بل أيضا بين الفرد وذاته أو لاوعيه، إلى اصطناعية ولا واقعية
عوالم شريف عرفه( في بعض أفلامه)، إلى اختراقات يوسف شاهين لما هو مكبوح..
تتعدد الموضوعات والأساليب ووجهات النظر.
أفلام هذا
الاتجاه تتجاوز تخوم السينما التقليدية في أكثر من مظهر أو نطاق..
فهي لا تستعير رؤية الآخر إنما غالباً ما ينبع تعبيرها عن نفسها وواقعها من
رؤية ذاتية محضة. وعندما تعتمد على مصادر أدبية،
فإنها لا تلتزم حرفياً بالنص بل تقيم علاقة إبداعية معه. نلاحظ أيضا الجرأة
في تقديم أشكال مغايرة، و تجاوز المنطق في البناء والسرد، ومعالجة الأحداث
أحيانا بأسلوب فانتازي ذي منحى سوريالي.
تحولات
الواقع المصري في مظاهرها السلبية وما أنتجته من حالات قلق ويأس والتباس
وشك وإحساس بفقدان البراءة وانعدام الأمان، انعكست في عدد من الأفلام حيث
الرؤية الهجائية للواقع المتسمة بتشاؤمية مريرة لا تخلو من روح تفاؤلية
لكنها تختلف كثيراً عن تلك التفاؤلية الساذجة والمحبطة التي طبعت الأفلام التقليدية.
مأزق
السينما الجديدة أنها تتحرك ضمن شبكة من العلاقات القديمة والكابحة (في
الإنتاج و التوزيع) وضمن علاقات مشوبة بالحذر والتردد والريبة مع جمهورها، وهذا يجعلها عرضة للمراوحة أو التراجع وتقديم التنازلات
تحقيقا لرغبة المنتج أو المتفرج أو كليهما، ولكي تكون جديدة (بالمعنى الفني لا الزمني) يتعيّن عليها
التمرد على أنماط الإنتاج السائدة،
هدم البنى التقليدية، اكتشاف أشكال جديدة تتواءم مع الاهتمامات المعاصرة، خلق فضاء من التجريب والاستكشاف،
التفاعل مع المنجزات السينمائية الحديثة، توظيف العناصر الفنية بأسلوب
مبتكر، التعبير عن الرؤية الفكرية والفنية بحساسية جديدة، التعامل مع الجمهور كطاقة إيجابية. |