كل شكل فني
يولد ويعيش وفقاَ لقوانينه الخاصة، المستقلة. وعندما
يتحدث البعض عن
معايير أو قواعد محددة للسينما، فإنهم عادة يضعونها في
تجاور مع أشكال
أخرى.
أريد أن أبدّد الفكرة المسلّم بها على نحو واسع والتي تقول بأن الصورة
مركّبة جوهرياً.
هذا المفهوم يبدو لي خاطئاً لأنه يدل ضمناً على أن
السينما مؤسسة على خاصيات تابعة لأشكال فنية شقيقة، ولا تملك على الإطلاق شيئاً
خاصاً بها،
وهذا يعني إنكار حقيقة أن السينما فن.
لو يقارن المرء
بين السينما وفنون مبنية على أساس الزمن، مثل الباليه أو الموسيقى،
فإن السينما
تبرز بوصفها الفن الذي يعطي الزمن شكلاً مرئياً وحقيقياً. ما إن يتم
تسجيل الزمن على الفيلم حتى تكون الظاهرة موجودة هناك.. محددة،
ثابتة، وغير
قابلة للتغيير.. حتى عندما يكون الزمن ذاتياً على نحو مكثف.
المقطوعة
الموسيقية يمكن عزفها بطرق مختلفة، ويمكن أن تدوم لفترات زمنية
متفاوتة.
هنا، في الموسيقى، الزمن هو ببساطة حالة من الأسباب والنتائج
المعلنة في نظام معين إن لها صفة فلسفية،
تجريدية. السينما، من جهة أخرى،
قادرة على تسجيل الزمن في علامات ظاهرية ومنظورة،
يمكن أن تميزها المشاعر.
هكذا يصبح الزمن الأساس الفعلي للسينما: كما الصوت في
الموسيقى، واللون
في الرسم، والشخصية في الدراما.
الصورة السينمائية لا يمكن تحققها
إلاّ في أشكال واقعية، طبيعية، من الحياة المرئية والمسموعة.
على الصورة
أن تكون طبيعية، وأنا لا أستخدم التعبير هنا في دلالته الأدوبية المسلّم بها،
كما هي مرتبطة - على سبيل المثال - بالكاتب إميل زولا،
فما أعنيه هو أننا
ندرك شكل الصورة السينمائية عن طريق الحواس.
السينما لا تزال تبحث عن لغتها،
وهي الآن فقط بدأت تقترب من إمكانية الإمساك بهذه اللغة. إن تقدم السينما
نحو
الوعي بالذات كان دائما يتعثر بواسطة الوضع الملتبس للسينما وتأرجحها بين الفن
والصناعة: الخطيئة الأصلية لنشوئها في السوق.
إن مسألة ما يؤلف لغة
السينما هي ليست بسيطة، كما أنها ليست واضحة بعد حتى بالنسبة للمحترفين.
في
كل مرة نتحدث عن لغة السينما،
الحديثة أو غيرها، ننزع الى إحلال مجموعة من
المناهج أو الطرائف الدارجة اليوم، والمستعارة من الفنون المجاورة.
نحن
بالتالي نقع أسرى الافتراضات الزائلة والتصادفية التي
تخترعها اللحظة أو
المرحلة الراهنة. يمكن القول مثلاً بأن الفلاش باك هو ذروة السينما أو كلمة
السينما الأخيرة،
ثم نأتي في الغد لنعلن بكل جرأة ووقاحة أن أي تشويش للزمن
في السينما مكتوب عليه الفشل،
وأن النزوع اليوم هو نحو التنامي الكلاسيكي
للحبكة.
إن ما يقرر ويحدد اللغة السينمائية مسألة لم يتم حلها بعد.
نحن
لا نزال غير واثقين بشأن المادة التي فيها
يتعين على الصورة السينمائية أن
تصاغ وتتشكل، بخلاف الرسام الذي يعرف أنه سوف يعمل بالألوان،
أو الكاتب
الذي يعرف بأنه سوف يؤثر في قرائه بالكلمات.
السينما ككل لاتزال تبحث عما
يحددها. علاوة على ذلك، فإن كل مخرج يحاول أن
يجد صوته الفردي الخاص في
هذا المجال.
ثمة أنواع مختلفة من التعالق مع الواقع الذي على أساسه كل شكل
فني يبنى وينّمي
مجموعة خاصة به من التقاليد المتميزة وواضحة المعالم.
في
هذه النقطة، أنا أصنف السينما والموسيقى بين الأشكال الفنية
المباشرة نظراً
لأنها لا تحتاج أي لغة وسيطة أو غير مباشرة.
هذا العامل المحدد الجوهري
يعين حدود القرابة بين الموسيقى والسينما، ولنفس السبب
يقصي السينما عن
الأدب، حيث كل شيء يجد تعبيره بواسطة اللغة، بواسطة نظام من الإشارات.
العمل الأدبي لايمكن تلقيه إلاّ
من خلال الرموز والمفاهيم، نظراً
لأن ذلك
هو ما تكونه الكلمات. غير أن السينما، مثل الموسيقى، تتيح إدراكاً
حسياً
وعاطفياً مباشراً تماماً للعمل.
بواسطة الكلمات يصف الأدب حدثاً
ما، عالماً داخلياً ما، واقعاً ظاهرياً، يرغب الكاتب في إعادة
إنتاجه. السينما تستخدم المواد التي تقدمها الطبيعة نفسها،
والزمن في
مروره، والتي تتجلى ضمن المكان الذي نحن نلاحظه من حولنا. إن صورة ما
للعالم تنشأ في
وعي الكاتب الذي، بواسطة الكلمات، يدونها على الورق. لكن
بكرة (ROLL)
الفيلم تطبع آلياً
أشكال العالم غير المشروطة والتي دخلت في
مجال بصر الكاميرا، ومن هذه الأشكال تبنى فيما بعد صورة ذات وحدة
كاملة.
في السينما، كل كادر، كل مشهد أو جزء، ليس مجرد وصف إنما صورة
طبق الأصل لفعلٍ
ما، أو منظر أو وجه المعايير الجمالية هي بالتالي
مفروضة
على الجمهور. الظواهر المادية الملموسة معروضة على نحو بين لا لبس فيه،
والفرد
غالباً سوف يوجه مقاومة شديدة الى هذه المعايير معتمدا على قوة تجربته
الشخصية.
لو انتقلنا الى الرسم، على سبيل المقارنة، نجد أن هناك دائماً
مسافة بين اللوحة والمتفرج،
مسافة كانت مرسومة ومعنية التخوم سلفاً، والتي
تبدي نوعاً
من التوتير تجاه ما هو مرسوم، والوعي بأن ما
يوجد أمام
الناظر - سواء وجدها قابلة للفهم أو عصية على الفهم - هو
»صورة« للواقع:
سوف لن يخطر أبداً لأي شخص أن يطابق اللوحة مع الحياة. تستطيع أن تتحدث
عما اذا كان الموجود على الكانغاس هو شبيه بالحياة أو
يحاكي الحياة الواقعية
بدقة. لكن في السينما، الجمهور لا يفقد أبداً الإحساس بأن الحياة معروضة
على قماش الشاشة هناك »فعلاَ«. الفرد في
أحوال كثيرة سوف يحكم على الفيلم
بقوانين الحياة الواقعية، مستبدلاً
الافتقار الى الإدراك بتلك التي عليها بنى
المبدع فيلمه، قوانين مستمدة من تجربته العادية،
الرئيسية، اليومية. ولهذا
السبب نجد تناقضات ظاهرية محتومة في الطريقة التي
بها يدرك أو يقدرّ
الجمهور فيلماً ما. |