«النوستالجيا لم تعد كما كانت»..
هذه هي الجملة التي
اختارتها الممثلة الراحلة سيمون سينوريه عنوانا لسيرتها الذاتية.
مشاهدة
فيلم »مندولين الكابتن كوريلي«، للمخرج جون مادن، جعلتني
افهم ما كانت
تعنيه. ما نراه هنا هو مجموعة من الافراد الرائعين الذين
يعيشون علاقات عاطفية
مستحيلة في موقع جميل وفي زمن البطولة.. اي
كل عناصر الفيلم الهوليوودي
والتي يتذكرها الكثيرون منا بولع. مع ذلك،
مثلما لم تكن تلك الافلام بالجودة
التي تصورناها آنذاك، الا القليل منها كذلك »مندولين كابتن«
يتوق الى حالة
لم تكن موجودة ابدا.
النوستالجيا هي الصفة المميزة التي تحدد الفيلم.
انه في طابعه وصوره وقصته،
يشير الى توق شديد الى طريقة في الحياة هي
أفضل
من الممكن، الفيلم، بالتالي، مشاهدته تكون دائما آسرة لانه يكشف عن مثل
متجذرة ثقافيا عن الكينونة والانتماء.
المقارنة بين الافلام والروايات المحولة
الى الشاشة نادرا ما تمتد الى وراء نطاق ما هو جلي
ومثير للاستياء.. اي ان
الفيلم ليس هو الرواية، وان الرواية افضل. هذا شيء مؤسف، خصوصا عندما
يدخل
ضمن المقارنة فيلم مثل »مندولين الكابتن« الذي يحاول بحرص وامانة ان
يأسر
روح المصدر الاصلي.
المقارنة بين الرواية والفيلم يمكن ان تسلط الضوء على
الخيارات التي تمكننا من رؤية نوايا واهداف صانعي
الافلام بوضوح اكثر،
وبالتالي تقترح على الاقل اساسا اوليا للتقييم.
ان نظرة سريعة على تاريخ
وقصة هذه الرواية توضح الجوانب الجذابة التي تجعل منها مادة سينمائية مغوية.
الرواية كتبها لوي دي بيرنييه ونشرها في 1994 حيث نالت استحسان النقاد لكن
لم تلق الرواج الهائل الا بعد اعادة اصدارها في طبعة شعبية،
حيث سرعان من انلست
الى قائمة اعلى الكتب مبيعا، وظلت في
القائمة لمدة ثلاث سنوات او اكثر، ومع
مرور الوقت اصبحت الرواية ظاهرة سوسيولوجية.
تدور احداث الرواية في بلدة
صغيرة على جزيرة سيفالونيا اليونانية. وتبدأ القصة في
1940 وتمتمد حتى الوقت
الحاضر، مع ان الجزء الاكبر منها يقع اثناء الحرب العالمية الثانية.
وقد وجدت
السينما بأن الرواية جديدة بميزانية ضخمة لما تتضمنه من خاصيات جذابة:
مواقع
ساحرة، طبيعة خلابة، قصة ملحمية.
الرواية هي رومانس، وهي تتناول
الحب الرومانسي من منظور ذكوري. والقصة مروية عبر تشكيلة من وجهات النظر
(حتى
موسوليني يأخذ دوره في سرد بعض الاحداث). لكن في لب القصة نجد المثلث
الغرامي (حب اثنين لامرأة واحدة).
بيلاجا، ابنة طبيب القرية، هي حبيبة
وخطيبة مندراس،
صياد السمك البسيط والوسيم، تندلع الحرب ويصل الى الجزيرة كابتن
كوريلي الايطالي..
بكل سحره وعشقه للحياة وآلته المندولين.
بيلاجيا
وكوريلي يقعان في غرام بعضهما، لكن كوريلي ينتمي الى القوى المحتلة،
وبيلاجيا لاتزال مرتبطة بخطيبها مندراس الذي صار الان مقاتلا مع صفوف المقاومة.
هي فتاة طيبة، وهو رجل نبيل انها مسألة الرغبة مقابل الواجب.. بينما
النازيون يحكمون البلدة والشيوعيون
يشنون غاراتهم حتى على
التلال.
الكابتن كوريلي لا يظهر في
الرواية الا بعد مرور ثلث حجم
العمل، لكن حين يظهر فان شخصيته تكون غير عادية، اكبر من الحياة،
ولا
يجد غضاضة في التنكيت حتى على نفسه. له شهية مفتوحة،
وشهوته الى الحياة لا
تحد، كما انه يحب الاطفال. انه الجندي الذي يستطيع ان يسخر من الجيش
وفي الوقت نفسه مستعد لوضع حياته على خط القتال والمجازفة بها. فنان حساس
قادر
بنقرة على اوتار آلته الموسيقية ان ينتزع دموع اهالي القرية بأسرها.
وهو
اخيرا، كازانوفا لكن بضمير حي.
قال المخرج جون هيوستون، ذات مرة، بان
عند تحويل الرواية الى فيلم،
فان على المرء ان يتجنب النصوص الادبية العظيمة
لان ما يعتبر تحفة في
وسط ادبي او فني ما يمكن ان ينحدر الى المستوى
الادنى عند نقله الى وسط آخر. ورواية »مندولين
الكابتن كوريلي«، في
الواقع، ليست تحفة ادبية، ومن ثم لا ينبغي لصانعي الفيلم ان يشعروا
بالرهبة الا قليلا. لكنني تمنيت لو انهم وضعوا ثقتهم اكثر فيما استجابوا
اليه
في المادة الاصيلة بدالا من الانجراف وراء المنحى
التجاري. ثمة عنصر من الحكاية
الخرافية يتصل بالرواية،
اضافة الى ملامح من الواقعية السحرية، وهذا
يهيء
سياقا للافعال والاحاسيس. نحن هنا لا نتحدث عن الكوابيس التي تتجسد في
الحياة
كما نراها في لوجة جويا
caprichos،
او اللاعقلانية الوحشية التي تؤطر نماذج
المعرفة في رواية جابرييل جارسيا ماركيز »مائة عام من العزلة«
ان رواية »مندولين الكابتن«
هي في الاخير رواية رومانسية.
في الرواية،
مندارس يحقق اتصاله بالدولفين.. والمؤلف يثق بأننا سوف نصدق هذا،
كما سوف
نصدق بان كوريلي شهم ونبيل وان بيلاجيا تظل عذراء حتى تشيخ. الفيلم
يصادر
السحري لصالح النوستالجي. انه يبدأ وينتهي
بالموكب السنوي احتفالا
بالقديس جيراسيموس، حامي القرية وراعيها في
الموكب الاول، يعلن مندراس
وبيلاجيا خطوبتهما، وبحسب الاعراف القديمة،
وحتى يحين زمن الموكب الثاني
في 1953، تكون هي طبيبة ومستعدة للاتصال من جديد بالكابتن كوريلي (الفيلم
لا يثق بان الجمهور سوف يصدق بأنهما ينتظران اربعين سنة اخرى كما في
الرواية).
في الرواية، بيلاجيا مرتبطة الى حد كبير بالطبيعة، بما
حولها، ولديها موهبة خاصة في
الرعاية وعلاج الآخرين. بيلاجيا الرواية هي
ثمرة خيال ذكوري،
لكنه خيال صادق، بريء، ومحترم بطريقته الخاصة. اما
بيلاجيا الفيلم فهي في افضل الاحوال ايماءة رمزية الى المرأة المستقلة.
انها
الان طبيبة حقيقية »بنظارة ومعطف ابيض، ولا يستطيع الفيلم مقاومة اظهارها
عارية وهي تمارس الجنس مع كوريلي. ما يفعله المعطف الابيض والنظارة هو ربط
بيلاجيا ومرحلة الموكب الثاني بالحداثة والعلم: لقد حل التقدم مع الحب في
البلدة واستمرارية (الاسطورة والشعائر التي شهدناها في البداية مع الاحتفال
تتحول مع حلول النهاية)
الى شيء على وشك ان يكون منسيا ومهملا. ان زمن فلاحي
الابيض المتوسط،
البسطاء والسعداء، قد انتهى.
بعض التغييرات في البناء
بين الرواية والفيلم تشير الى قيود التصوير في عملية تحقيق الافلام المعاصرة،
ذات الميزانية الضخمة، والتي تعادل الرقابة الذاتية، الاكثر وضوحا من بين
هذه القيود، معالجة، الفيلم لشخصية كارلو بيرو.
في الرواية كارلو، على
نحو بنيوي، هو الند والنقيض لكوريلي، والثلاثي
المؤلف من فرانشسكو وكارلو
وكوريلي يعلق ويعكس الضوء على الثلاثي مندراس وبيلاجيا وكوريلي.
ان عشق كارلو
لفرانشسكو، الجندي المتزوج، هو عميق وصادق كما هو عشق كوريلي لبيلاجيا
المخطوبة، لكن عشق كارلو هو مستهلك..
انه عاجز عن انقاذ من يحب، ولا
يستطيع ان
يمنح هذا الحب لشخص آخر، في
النهاية عندما يضحي كارلو بحياته
من اجل كوريلي، فانه يفعل ذلك لانه يتعرض في حب كوريلي
لبيلاجيا الحب
ذاته الذي شعر به تجاه فرانشسكو.
هذه الوسيلة البنائية تقترح دوافع جديدة
الى دراما المثلث الغرامي، وتمدد حديث الرواية عن الحب.
لكن شخصية كارلو، في
الفيلم تظهر في صورة هزيلة وغامضة، ومجردة من الاشتهاء الجنسي
لذلك عندما
يعرض لنا الفيلم تضحيته من اجل كوريلي فان ذلك لا يكون مفهوما او
معقولا.
ان ما يجعل المرء يستجوب مسألة التقليل من الدور التركيبي
لشخصية الشاذ جنسيا هو اختراع الفيلم لشخصية جديدة:
ايليني صديقة بيلاجيا..
وذلك لتأدية وظيفة مشابهة. ايليني توجد فقط لتذكرنا بما كان
يمكن ان يحدث
لبيلاجيا بسبب علاقتها بشخص هو جندي في جيش المحتل.
ومع اننا قلما نرى
ايليني مع حبيبها النازي ، الا اننا نراها في آخر مشهد لها وهي
متدلية من
الشجرة، مشنوقة بتهمة الخيانة.. مع ان الفيلم لم
يكن بحاجة الى ايليني
ليبين لنا ان عشق بيلاجيا لكوريلي كان
يمكن ان يفضي الى هذه النهاية
المأساوية.
انه امر مشروع بالطبع استجواب الاساس المنطقي
الذي يكمن وراء
خيارات الفيلم: ما سبب تغافل الشذوذ الجنسي وخلق شخصية بديلة؟ لماذا
يظهر
النازي في الرواية طيبا ووسيما بينما يبدو في الفيلم ضعيفا وبشخصية
غير
قوية؟ لماذا يشارك الطبيب يانيس في السرد؟ لماذا يحذف الفيلم محاولة مندراس
لاغتصاب بيلاجيا؟
واذا اهتم المرء فقط باكتشاف عيوب ونقائض الفيلم فان بإمكانه
ان يطرح مجموعة مختلفة من الاسئلة:
لماذا يسمح للممثل كريستيان بيل (في
دور مندراس) والذي يبدو جيدا في المشاهد الختامية للفيلم، ان
يبالغ
في الاداء بحيث يبدو مثل زوربا في البداية؟ لماذا مشاهد الاكشن تفتقر الى
التوتر والاثارة؟ لماذا،
على الرغم من التصوير الممتاز، لا توجد هناك صور
لافتة؟
غير ان المسألة لا تتصل بمحاولة البرهنة على ان الرواية افضل، بان طرح
هذا السؤال: لماذا الفيلم لا يصل الى مستوى الرواية في
الجودة؟
sight and sound -
may 2001 |