لم يقدم المخرج الروسى (أندريه ماركوفسكي) إلا العدد القليل من
الافلام، تناولها النقاد بالبحث والدراسة، وحولها صدرت عشرات الكتب
والدراسات الاكاديمية.
اما الجمهور فهو بين مستحسن لهذه الافلام وبين رافض لها او عدم مقبل
عليها، والأمر فى ذلك واضح وبسيط، إذ نحن ازاء مخرج يهتم كثيرا بأفلامه
وعناصر تكوينها والكيفية التى بها تتحقق، ولا يهتم هذا المخرج كثيرا
بالجمهور، إلا فى حدود معينة، ان يكون هذا الجمهور واعيا ويقظا وحساسا لما
يطرح أمامه من صور ومشاهد ومقاطع من الحياة لامعة، تومض ولو كانت فى جوهر
العتمة، ذلك هو اندريه تاركوفسكى، تتقاطع حوله الآراء وتختلف، لكنه يبقى
أحد أهم مخرجي السينما فى القرن العشرين، بسبب ما تثيره أفلامه من اسئلة
وما تطرحه من مشاعر وفق أسلوب فني ينسب الى تاركوفسكى وحده ولا ينسب لغيره.
قليل من الافلام:
ولد اندريه تاركوفسكي فى عام 1932 وتوفى عام 1986. وخلال رحلته
السينمائية لم يتمكن خلالها من تحقيق إلا القليل من الافلام، بسبب صعوبة
وجود المنتج، وكان طبيعيا أن يستفيد من أيام الفراغ الطويلة ويستغلها فى
كتابة التعليقات حول افلامه وعلاقاته وقراءاته، وليس فقط كتابة المذكرات
والسيتاريوهات، وهذا الكتاب والذى جاء بعنوان (النحت فى الزمن) هو تجميع
للملاحظات قال تاركوفسكى بأنه كان يدونها على عجل لأن الفترات الفاصلة بين
فيلم وآخر كانت (طويلة وموجعة) وبالتالى فقد كان لديه الوقت للتأمل فى
أهدافه وبحث علاقة السينما بباقى الفنون، والبحث فى فن السينما من الداخل
ومقاربة تجارب الآخرين، ومقارنتها مع تجاربه، مع الاقتراب أكثر من الجهور
الباحث عن أجوبة لأسئلة لا يمكن حصرها "من أجل ايجاد نوع من المستوى أو
القاسم المشترك لافكارهم العشوائية والمظهرية بشأن السينما والفن عموما".
لقد صدر هذا الكتاب (النحت فى الزمن) لأول مرة عام 1988 فى المانيا،
وعن الانجليزية ترجمه أمين صالح الى العربية عام 2006 فى طبعة مشتركة بين
عدة مؤسسات نشر عربية.
عدة فصول:
يتكون الكتاب من مدخل وعدة فصول، ومادته كلها مخصصة لقراءة أفلام
تاركوفسكى من خارجها، ومن وجهة نظر المخرج نفسه، وربما كان الحافز للكتابة،
تلك الرسائل التى تصله من المشاهدين، معجبة أو مستغربة من افلامه أو بعضها
على الأقل، وخصوصا شريط (المرأة) الذى أثار العديد من التساؤلات.
يقول تاركوفسكي: "ينبغى أن اعترف بأنى اقرأ بعناية واهتمام فائقين كل
الرسائل التى تصلني من أفراد شاهدوا أفلامي. بعضها كانت تثير فى نفسي
الأمسى، وبعضها كانت مشجعة الى حد كبير. وخلال سنوات عملي فى روسيا تراكمت
هذه الرسائل لتشكل حصيلة متنوعة ومؤثرة من الأمور التى كان الناس يرغبون فى
معرفتها أو يشعرون بحيرة وارتباك ازاء فهمها".
اذن الاتصال بالجمهور هو الدافع لكتابة هذه الملاحظات بكل ما فيها من
يوميات ومناقشات ومحاورات ولاسيما مع المناقدة (أومجاسوركوفا) التى تعاونت
مع المخرج فى بعض أفلامه الاخيرة.
البداية الفعلية:
يسمى الكاتب الفصل الأول: البداية، وهو يشكل البداية فعليا، ذلك أن
التطرق الى فيلم مثل (طفولة ايفان) يعنى تكريس الجهد لمحاولة حل بعض
المعضلات فى جماليات السينما، وكذلك تحديد نوعية الاختيار المبدئى، ولاسيما
وأن الفيلم له أساس أدبى، فهو يعتمد على قصة لكاتبها (بوجومولوف). ومن
أسباب تعلق المخرج بهذه القصة، بالاضافة الى حضور شخصياتها والأجواء
العسكرية التفصيلية التى سجلها الكاتب، ما يسميه المخرج بمصير البطل، وهو
الموت ثم لا شىء بعد ذلك، والنقطة الثانية تتمثل فى أن واقع الحكاية يعتمد
على الفترات الفاصلة بين العمليات العسكرية، وليست العمليات الحربية نفسها.
النقطة الثالثة هى شخصية الفتى ايفان التى دمرتها الحرب.
يقول المخرج: "لقد حركتنى شخصية الفتى بخاصيتها الدرامية الكثيفة،
والتى وجدتها أكثر اقناعا من تلك الشخصيات التى تتكشف فى العملية التدريجية
للتطور الانساني عبر حالات الصراع والتضارب فى المبدأ".
وخلال بحثه فى اشكالات العلاقة بين كاتب السيناريو والمخرج، يعترف
الكاتب بأنه لا مفر من القول بأن المخرج ليس ملزما بأن يقبل السيناريو على
علاقته وأنه لا مناص من الاعتراف بحضور الشخصيتين فى رؤية واحدة.
يقول تاركوفسكى: "حين قرأت قصة بوجومولوف (طفولة ايفان) استحوذت على
مخيلتي، وهذا كان اقصى ما استطعت الانسجام فيه مع المؤلف، فالنسيج العاطفي
للقصة كان غريبا علي، والأحداث كانت مروية بأسلوب مكبوح على نحو متعمد،
متخذا طابع التقرير الصحفى تقريبا، وما كان بمقدورى تحويل أسلوب كهذا الى
الشاشة، لأنه سيكون ضد مبادئي".
حالة شعرية:
يتطرق تاركوفسكى الى الرابطة الشعرية ويرى بأن المخرج هو الذى يفرضها
على النص، ولكن الربط هنا يكون منطقيا، حيث يكون الاستنباط الشعرى هو أقرب
القوانين التى بواسطتها يتطور الفكر، وبالتالى الى الحياة نفسها.
ومن خلال الصلة الشعرية يتم تصعيد وتعميق الشعور، ويصير المتفرج فعالا
أكثر. إنه يصبح مشاركا فى عملية اكتشاف الحياة بلا عون أو دعم من قبل
الاستنتاجات الجاهزة.
لقد عرف المخرج بأنه قد جعل من السينما حالة شعرية، فهو شاعر السينما،
لكن الشعر ليس وصفا خارجيا، بل هو وعي العالم وطريقة خاصة للاتصال.
يستشهد الكاتب بالعديد من الشخصيات والاعمال الادبية، ومنها رواية
(الأبله) لتحديد العلاقة بين السينما والأدب، ويرى أن الصورة الفنية
الصارمة هى دائما مبنية على الارتباط العضوى بين الفكرة والشكل. وإن أى
اختلال بينهما سوف يحول دون ابداع الصورة الفنية، ذلك لأن العمل سوف يبقى
خارج الحقل الفنى.
اربعة أحلام:
ولمزيد التعرف على الشريط يقودنا المخرج الى الاحلام الاربعة فى شريط
(طفولة ايفان) ولاسيما ما اعتبره يكشف عن فقدان الذكريات، ويتضح ذلك فى
الانتقال من الاحلام الى الواقع وبالعكس. إن هناك دائما بعض المظاهر عن
الحياة الانسانية لا يمكن تمثلها بامانة إلا من خلال الشعر، لكن المخرجين
غالبا ما يلجأون الى استخدام وسائل تحايل تقليدية، عوضا عن المنطق الشعري.
وكما يقول الكاتب، فإن الاحلام السينمائية تصبح فى أحوال كثيرة مركبة
عن مجموعة من الحيل السينمائية البالية، ويكفى الحلم ان يكون أحد ظواهر
لحياة.
يرى المخرج أن هناك بعض المشاهد التى تعتبر زائدة فى الشريط "اندريه
روبليوف" وهى مشاهد يوضح المخرج والكاتب تاركوفسكى بأن للممثلين الدور
المهم فى انجاح الشريط، وهم ممثلون جدد لم يسبق لمعظمهم التمثيل، لقد
اختارهم المخرج، بعيدا عن وصف الرواية.
يقول تاركوفسكى: ـ (بعد كتابة هذا السيناريو، كنت مرتابا جدا بشأن
امكانية انتاج الشريط ولقد كنت معنيا بشىء آخر وهو أن استقصى طبيعة النبوغ
الشعرى للرسام روبليوف.
اما فيما يتعلق بالجانب التاريخى، فلقد كانت الفكرة أن تسير الوقائع
التاريخية والناس وكل النتاجات البشرية نحو التجسيد المرئى، وليست مجرد
تذكارات تتنفس من الماضى.
غاية الفنون:
من الواضح أن الكتاب يسير نحو طرح الافكار العامة، حتى عندما يتطرق
الى الاشرطة مباشرة، ولعل الفصل الثانى يفسر لنا ذلك، فالكاتب يعالج قضايا
فنية نظرية ويرى أن غاية الفنون هى أن تفسر للفنان نفسه، معنى وجوده وما
يعيش لأجله ويدافع عنه، فالفن مرتبط بفكرة المعرفة، حيث الصدمة والتطهير.
يقول تاركوفسكي: "الاتصال هو الوظيفية للفن نظرا لأن الفهم المشترك
يمثل قوة قادرة على توحيد الناس، وروح المشاركة هى واحدة من أكثر المظاهر
أهمية فى الابداع الفني".
يصل الكاتب الى مفهوم الحدس والتجربة العملية ولحظة الاكتشاف وهى
قضايا جمالية فنية، ويظهر بشكل واضح تأثر الكاتب بدستويفسكى ولاسيما فى
روايته المعروفة باسم "الممسوسون". غير أن السينما تغيب قليلا، حيث تطغى
الثقافة الأدبية، وربما كان ذلك من الايجابيات المرتبطة بهذا الكاتب، حيث
يكرس تاركوفسكى ثقافته لصنع اشرطة تعبر عن الثقافة، وهو يرى بأن التحفة
الفنية لا تولد إلا حين يكون الفنان صادقا تماما فى مواكبته لمادته.
ان العمل الفني يعيش وينمو، مثل أى كائن حي آخر، عبر صراع المبادى
المتعارضة فالاضواء تتصل فيما بينها ضمن العمل الفني، والتحفة الفنية هى
فضاء منغلق على نفسه، والجمال يكمن فى توازن الاجزاء والمفارقة أنه كلما
كان العمل متكلاما شعر المرء بوضوح أكثر ويغباب اية تداعيات يولدها العمل.
السينما والرسم:
بعد مقارنة طويلة بين اتجاهين فى الرسم يرجعان الى عصر النهضة فى
ايطاليا تحديدا، بين كل من (كارباشيو من ناحية ورافاييل من ناحية أخرى)
ينتقل الكاتب الى السينما وخصوصا أنه يتوقف امام أعمال المخرج (بونويل)،
حيث نجد أن القوة المحركة لأشرطته تكمن فى (مقاومة الامتثال والخضوع).
يقول الكاتب تاركوفسكي بأن الاحتجاج الكامن فى أشرطة بونويل ليس
مدروسا وليس عقليا وليس له صيغة فكرية له شرك الايحاء السياسي والاجتماعي.
ان بونويل هو حامل الوعى الشعرى المرتبط بما سبقه، والممتد عبر اعمال
سرفانتس ولوركا وبيكاسو وارابال وسلفادور دالى وغيرهم.
والواقع أن الكاتب يظهر ثقافة كبيرة من حيث التحليل والنفاذ الى القيم
الثقافية الاصلية، وربما لهذا السبب جاءت اشرطة تاركوفسكى مشحونة بكل هذه
الخيالات ذات الطبيعة الثقافية المليئة بالشك والارتياب وكل الهواجس
والظنون.
ولكن ألا يشعر القارىء بان هناك اثقالا من الفكر، يصنعها العقل المنظم
والمحلل لا تتفق مع رهافة الفن وبساطته. هذا ما تكشف عنه مقالات تاركوفسكى
فى كتابه (النحت فى الزمن) ليس فى الدراسة التى اشرنا إليها فقط والتى تمثل
الجزء الثانى من الكتاب. بل فى سائر الفصول الأخرى المتتالية.
زمن مطبوع:
فى الفصل الثالث نقرأ موضوعا حول "الزمن المطبوع" فى تداخل واضح بين
معرفتنا للزمن سينمائيا وأدبيا. إن الصورة تصبح سينمائية على نحو حقيقي،
ليس فقط عندما تعيش ضمن الزمن، لكن ايضا عندما يعيش الزمن داخلها.
يمضى الكاتب بعيدا فى قراءة التعامل السينمائى مع الزمن، من خلال
أشرطة لميزوجوشي وبريسون وبرادجانون وبرفويل، ويبقى شريطه الثانى اندريه
روبليوف هو المثال الذى تدور حوله المقاربات للزمن الماضى، والتى تثير الى
ان المصادر الرئيسية الفنية تبقى هى الفنون التصويرية وحدها، مثل فن
العمارة وفن الرسم والنحت والفنون التصويرية عامة.يقول تاركوفسكى: "أنا أحب
السينما، ولا يزال هناك الكثير مما لا أعرفه، على أي شىء سوف أعمل وكيف
تتشكل الأشياء، والأفكار المتصورة سلفا موجودة، ولكن ما أن يبدأ الانسان فى
العمل حتى تصنع كل القوالب، وتصبح لكل شىء جديد اشكاله الجديدة".
فى الفصل الرابع من كتاب (النحت فى الزمن) يبحث تاركوفسكي فيما يسميه
الدور المقدر للسينما، وهو يرى بأن المتفرج، فيما يشترى من تذاكر، يبدو كما
لو كان يلتمس سد النقص أو اكمال الفجوات فى تجربته الخاصة، ويتعرض هنا
الكاتب الى رواية (البحث عن الزمن المفقود) لبروست، حيث الهدف هو ملء
الخواء الروحي لشروط الكينونة الحديثة فى نشاط متواصل لا يتوقف!.
وكما يرى الكاتب من زاوية أخرى، فإن استجابات الجمهور المعاصر تجاه أى
فيلم هى مختلفة من حيث المبدأ عن الانطباعات التى احدثتها الأعمال الأدبية
فى سنوات العشرينات والثلاثينات.
الوعى الجمعى:
ويبدو واضحا أن تاركوفسكي يناقش بعض الأفكار السائدة فى حول السينما
السوفيتية فى مرحلة معينة، تسود فيها فكرة الوعي الجمعى، ويبسط التالى فكرة
الوعى الذاتى أولا ـ لأنه المدخل الرئيسي لتكوين الميول والاهواء المشتركة.
إن أي فرد مؤهل لتقدير وادراك الفن سوف يحصر، على نحو طبيعى، نطاق
الأعمال المفضلة إليه وفقا لاهوائه وميوله الاعمق، هذا هو الرأى الذى يكرره
الكاتب فى مجمل فصول كتابه بطريقة أو بأخرى، وهو يشير الى ذلك فعليا عندما
يعتبر أن معرفته بالسينما قد بدأت مع فيلم (طفولة ايفان). وعندما يرجع الى
فترة تعليمه فى معهد السينما. فالافلام المؤثرة، بالنسبة إليه تظل فاترة
نسبيا، وربما لم يولد الحماس إلا مع العمل التنفيذى وخصوصا العمل فى شريط
التخرج.
قيمة السينما:
يفتتح الكاتب نقاشات موسعة تدور كلها حول تقدير قيمة السينما وعلاقتها
بالفنون وهذا ما نجده واضحا فى فصول لاحقة مثل الفصل الخامس من الكتاب
والذى جاء تحت عنوان (الصورة السينمائية)، وفعليا يتطرق الكاتب الى موضوعات
أخرى لها علاقة بالصورة ومن ذلك الزمن والايقاع والمونتاج، ثم السيناريو
الأدبى وسيناريو التصوير، وكذلك (التحقيق التصويرى للفيلم) واخيرا الممثل
السينمائى والقسم الخاص بالموسيقى التصويرية.
وفى التفاصيل السابقة يذكز المخرج بعض الاستنتاجات، هى اقرب الى
الدروس التعليمية، وبالطبع، يتم الاهتمام على الممثل بدرجة خاصة، فهو يعبر
عن حالة سيكولوجية خاصة وهذا يتطلب مساعدة من المخرج تجعله يتقمص الشخصية
عاطفيا، ويذكر المخرج بعض الممثلين الذين عمل معهم مثل (مرجريتا تريكوفا ـ
أنا تولى يولونيتسن ـ دوناتاس بانيونيس) وهنا تتم استعارة أدوار أهم
الممثلين فى افلام بيرجمان للمقارنة.
وعن الموسيقى يقول الكاتب: "الموسيقى لم تكن ابدا توضيحا مسطحا لما
يحدث على الشاشة، بل هى محسوسة كنوع من التعبير العاطفى حول الأشياء
المعروضة، من أجل دفع الجمهور الى رؤية الصورة بالطريقة التى اردتها".
نصل الى الفصل السادس وهو بعنوان (المبدع فى بحثه عن الجمهور)، وفى
الحقيقة لا يتحدث الكاتب عن الجمهور بمقدار ما يتطرق الى الفنان ومدى حريته
فى التعبير، حيث أن هذه القضية هى الأهم بالنسبة للمخرج تاركوفسكى.
يقول الكاتب: "فى الواقع انا لا استطيع ان أفهم المعضلة التى يسمونها
حرية الفنان أو فقدان الفنان لحريته. الفنان ليس حرا أبدا. لا توجد جماعة
من الناس تفتقر الى الحرية أكثر من فئة الفنانين. الفنان مكبل بموهبته،
بشعوره أنه مدعو للقيام بعمل ما".
ترجمة شيقة:
وبالرغم من الترجمة الشيقة والواضحة للمترجم، إلا أن طريقة الكاتب فى
التعبير تصادف صعوبة كبيرة عند القارىء بسبب انتقال الكاتب الى تفاصيل تعد
خلفية لما يمكن أن تتضمنه الأفكار من معانىوايحاءات ـ وهذا ما نجده واضحا
عندما يتحدث الكاتب عن دور المخرج، لينتقل بعد ذلك الى احدى قصائد الشاعر
بوشكين أو نص لديستوفسكى أو تولستوى.
يصرح المخرج بوضوح قائلا: "كل ما يستطيع الفنان أن يقدمه الى الجمهور
هو أن يكون منفتحا وصريحا ونزيها فى صراعه مع مادته والجمهور سوف يقدر ما
نبذله وما تعنيه جهودنا واذا حاولنا أن نرضى الجمهور ونلبي ما تفرضه ميوله
أذواقه، فذلك يعنى شيئا واحدا وهو عدم اقدام الجمهور، لأن الهدف هو الحصول
على بعض النقود". إن الكاتب يردد ايضا وفى نفس السياق.
"إن الاخفاق فى تنمية قدرة الجمهور على فقد احكامنا الخاصة هو مساو
للتعامل مع الجمهور بلا مبالاة تامة".
الضوء والظلام:
بلا شك، يشعر القارىء وهو يقرأ كتاب (النحت فى الزمن) بأن الأفكار
تعاد كلما سنحت الفرصة قتقسيم الموضوعات الى فصول مسألة شكلية فقط، وعلى
سبيل المثال يبحث الكاتب فى الفصل السابع مسألة (مسؤولية الفنان) لكن
الموضوع يتسرب الى قضية مختلفة، سبق أن طرحت من زاوية أخرى، وهى قضية
السينما والأدب، بل وتطرح التعريفات نفسها من جديد. إن الكاتب يقول بأن
الاخراج فى السينما يعنى ببساطة أن تكون قادرا على عزل الضوء عن الظلام،
اليابسة عن المياه. إن سلطة المخرج هائلة الى حد أنها قادرة على أن تخلق له
الوهم بكونه قوة خلاقة".
ومما يميز هذا الفصل أن المخرج يتطرق الى شريط مهم وهو "المتسلل"، وهو
شخص ممسوس بالحرية الباطنية على الرغم من كونه محاصرا من قبل الآخرين، وأى
شخص يرغب فى مشاهدة، مثل هذا الشريط، لابد له من ينظر من خلال مرآة، حيث
سيرى نفسه، ويعطى مفهوما نابضا بالحياة للفيلم.
تجربة انسانية:
أما فيلم (المرأة) فهو تجربة انسانية وضمنيا هى تجربة روحية، وهى
مفتاح لتجربة يمكن اعتبارها أزمة، يحاول فيها المرء أن يحرز الايمان الجديد
ويحقق ذاته.
لم يخرج تاركوفسكى كل أشرطة داخل بلاده روسيا، بل اخرج بعض الأشرطة فى
الخارج، ومن ذلك شريط (الحنين) ويرى المخرج من خلاله بأن الشخصية الروسية
لايمكنها ان تتكيف مع الخارج، فهى تهاجر ولكنها تبقى سيئة فى الخارج الى أن
تعود الى ثقافتها وجذورها.
يتجسد ذلك من خلال شخصية (جورشاكوف) وهو شاعر يذهب الى ايطاليا، للبحث
فى تراث موسيقى لرجل روسي يحقق نجاحا فنيا موسيقيا كبيرا فى ايطاليا، ورغم
ذلك يعود الى روسيا وينتحر بعد العودة.
الفيلم الأخير الذى يتطرق اليه تاركوفسكى هو "القربان"، وهو آخر
أفلامه، ويتناول فيه مناقشة فكرة التضحية، أى الشخص القادر على التضحية،
ليس بنفسه فقط، ولكن بأسلوب حياته ايضا، بصرف النظر عما اذا كانت التضحية
مقدمة باسم قيم روحية، أو من أجل شخص آخر أو فى سبيل خلاص الفرد نفسه.
لم يتبق من الكتاب الا خاتمة عامة، يمكنها ان تكون مقدمة ايضا، فنحن
إزاء كتاب دائرى، ربما كان أقرب الى المتاهة، لكنها متاهة الفن الذى فيه
الكثير من الفوضى والحيرة والشك والكثير من الارتياب. |